الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ ياقَوْمِ أرَأيْتُمْ إنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي ورَزَقَنِي مِنهُ رِزْقًا حَسَنًا وما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكم إلى ما أنْهاكم عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلّا الإصْلاحَ ما اسْتَطَعْتُ وما تَوْفِيقِي إلّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ﴾ ﴿ويا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكم شِقاقِي أنْ يُصِيبَكم مِثْلُ ما أصابَ قَوْمَ نُوحٍ أوْ قَوْمَ هُودٍ أوْ قَوْمَ صالِحٍ وما قَوْمُ لُوطٍ مِنكم بِبَعِيدٍ﴾ ﴿واسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ ودُودٌ﴾ . فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ما ذَكَرَهُ في الجَوابِ عَنْ كَلِماتِهِمْ، فالأوَّلُ قَوْلُهُ: ﴿أرَأيْتُمْ إنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي ورَزَقَنِي مِنهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي﴾ إشارَةٌ إلى ما آتاهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ العِلْمِ والهِدايَةِ والدِّينِ والنُّبُوَّةِ، وقَوْلُهُ: ﴿ورَزَقَنِي مِنهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾ إشارَةٌ إلى ما آتاهُ اللَّهُ مِنَ المالِ الحَلالِ، فَإنَّهُ يُرْوى أنَّ شُعَيْبًا - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ كَثِيرَ المالِ. واعْلَمْ أنَّ جَوابَ إنِ الشَّرْطِيَّةِ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا آتانِي جَمِيعَ السَّعاداتِ الرُّوحانِيَّةِ وهي البَيِّنَةُ، والسَّعاداتِ الجُسْمانِيَّةَ وهي المالُ والرِّزْقُ الحَسَنُ - فَهَلْ يَسَعُنِي مَعَ هَذا الإنْعامِ العَظِيمِ أنْ أخُونَ في وحْيِهِ، وأنْ أُخالِفَهُ في أمْرِهِ ونَهْيِهِ ؟ وهَذا الجَوابُ شَدِيدُ المُطابَقَةِ لِما تَقَدَّمَ، وذَلِكَ لِأنَّهم قالُوا لَهُ: ﴿إنَّكَ لَأنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَ مَعَ حِلْمِكَ ورُشْدِكَ أنْ تَنْهانا عَنْ دِينِ آبائِنا ؟ فَكَأنَّهُ قالَ: إنَّما أقْدَمْتُ عَلى هَذا العَمَلِ؛ لِأنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعالى عِنْدِي كَثِيرَةٌ، وهو أمَرَنِي بِهَذا التَّبْلِيغِ والرِّسالَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِي مَعَ كَثْرَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعالى عَلَيَّ أنْ أُخالِفَ أمْرَهُ وتَكْلِيفَهُ ؟ . الثّانِي: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ كَأنَّهُ يَقُولُ: لَمّا ثَبَتَ عِنْدِي أنَّ الِاشْتِغالَ بِعِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ والِاشْتِغالَ بِالبَخْسِ والتَّطْفِيفِ عَمَلٌ مُنْكَرٌ، ثُمَّ أنا رَجُلٌ أُرِيدُ إصْلاحَ أحْوالِكم، ولا أحْتاجُ إلى أمْوالِكم؛ لِأجْلِ أنَّ اللَّهَ تَعالى آتانِي رِزْقًا حَسَنًا، فَهَلْ يَسَعُنِي مَعَ هَذِهِ الأحْوالِ أنْ أخُونَ في وحْيِ اللَّهِ تَعالى وفي حُكْمِهِ ؟ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي﴾ أيْ ما حَصَلَ عِنْدَهُ مِنَ المُعْجِزَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿ورَزَقَنِي مِنهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾ المُرادُ أنَّهُ لا يَسْألُهم أجْرًا ولا جُعْلًا، وهو الَّذِي ذَكَرَهُ سائِرُ الأنْبِياءِ مِن قَوْلِهِمْ: ﴿وما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشُّعَراءِ: ١٠٩ ] . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ورَزَقَنِي مِنهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ إنَّما حَصَلَ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى وبِإعانَتِهِ، وأنَّهُ لا مَدْخَلَ لِلْكَسْبِ فِيهِ، وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الإعْزازَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، والإذْلالَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وإذا كانَ الكُلُّ مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَأنا لا أُبالِي بِمُخالَفَتِكم، ولا أفْرَحُ بِمُوافَقَتِكم، وإنَّما أكُونُ عَلى تَقْرِيرِ دِينِ اللَّهِ تَعالى (p-٣٨)وإيضاحِ شَرائِعِ اللَّهِ تَعالى. وأمّا الوَجْهُ الثّانِي مِنَ الأجْوِبَةِ الَّتِي ذَكَرَها شُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: فَقَوْلُهُ: ﴿وما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكم إلى ما أنْهاكم عَنْهُ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: يُقالُ: خالَفَنِي فُلانٌ إلى كَذا، إذا قَصَدَهُ وأنْتَ مُوَلٍّ عَنْهُ، وخالَفَنِي عَنْهُ إذا ولّى عَنْهُ وأنْتَ قاصِدُهُ، ويَلْقاكَ الرَّجُلُ صادِرًا عَنِ الماءِ فَتَسْألُهُ عَنْ صاحِبِهِ، فَيَقُولُ: خالَفَنِي إلى الماءِ، يُرِيدُ أنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ وارِدًا، وأنا ذاهِبٌ عَنْهُ صادِرًا، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿وما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكم إلى ما أنْهاكم عَنْهُ﴾ يَعْنِي أنْ أسْبِقَكم إلى شَهَواتِكُمُ الَّتِي نَهَيْتُكم عَنْها لِأسْتَبِدَّ بِها دُونَكم، فَهَذا بَيانُ اللُّغَةِ، وتَحْقِيقُ الكَلامِ فِيهِ أنَّ القَوْمَ اعْتَرَفُوا بِأنَّهُ حَلِيمٌ رَشِيدٌ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَمالِ العَقْلِ، وكَمالُ العَقْلِ يَحْمِلُ صاحِبَهُ عَلى اخْتِيارِ الطَّرِيقِ الأصْوَبِ الأصْلَحِ، فَكَأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ لَهم: لَمّا اعْتَرَفْتُمْ بِكَمالِ عَقْلِي فاعْلَمُوا أنَّ الَّذِي اخْتارَهُ عَقْلِي لِنَفْسِي لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ أصْوَبَ الطُّرُقِ وأصْلَحَها، والدَّعْوَةُ إلى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى وتَرْكُ البَخْسِ والنُّقْصانِ يَرْجِعُ حاصِلُهُما إلى جُزْأيْنِ: التَّعْظِيمُ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى، والشَّفَقَةُ عَلى خَلْقِ اللَّهِ تَعالى، وأنا مُواظِبٌ عَلَيْهِما غَيْرُ تارِكٍ لَهُما في شَيْءٍ مِنَ الأحْوالِ ألْبَتَّةَ، فَلَمّا اعْتَرَفْتُمْ لِي بِالحِلْمِ والرُّشْدِ وتَرَوْنَ أنِّي لا أتْرُكُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، فاعْلَمُوا أنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ خَيْرُ الطُّرُقِ، وأشْرَفُ الأدْيانِ والشَّرائِعِ. وأمّا الوَجْهُ الثّالِثُ مِنَ الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَها شُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: فَهو قَوْلُهُ: ﴿إنْ أُرِيدُ إلّا الإصْلاحَ ما اسْتَطَعْتُ﴾ والمَعْنى ما أُرِيدُ إلّا أنْ أُصْلِحَكم بِمَوْعِظَتِي ونَصِيحَتِي، وقَوْلُهُ: ﴿ما اسْتَطَعْتُ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ ظَرْفٌ، والتَّقْدِيرُ: مُدَّةَ اسْتِطاعَتِي لِلْإصْلاحِ وما دُمْتُ مُتَمَكِّنًا مِنهُ لا آلُو فِيهِ جُهْدًا. والثّانِي: أنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الإصْلاحِ، أيِ المِقْدارُ الَّذِي اسْتَطَعْتُ مِنهُ. والثّالِثُ: أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، أيْ ما أُرِيدُ إلّا أنْ أُصْلِحَ ما اسْتَطَعْتُ إصْلاحَهُ. واعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الكَلامِ أنَّ القَوْمَ كانُوا قَدْ أقَرُّوا بِأنَّهُ حَلِيمٌ رَشِيدٌ، وإنَّما أقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ لِأنَّهُ كانَ مَشْهُورًا فِيما بَيْنَ الخَلْقِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَكَأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ لَهم: إنَّكم تَعْرِفُونَ مِن حالِي أنِّي لا أسْعى إلّا في الإصْلاحِ وإزالَةِ الفَسادِ والخُصُومَةِ، فَلَمّا أمَرْتُكم بِالتَّوْحِيدِ وتَرْكِ إيذاءِ النّاسِ، فاعْلَمُوا أنَّهُ دِينُ حَقٍّ، وأنَّهُ لَيْسَ غَرَضِي مِنهُ إيقاعَ الخُصُومَةِ وإثارَةَ الفِتْنَةِ، فَإنَّكم تَعْرِفُونَ أنِّي أبْغَضُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ، ولا أدُورُ إلّا عَلى ما يُوجِبُ الصُّلْحَ والصَّلاحَ بِقَدْرِ طاقَتِي، وذَلِكَ هو الإبْلاغُ والإنْذارُ، وأمّا الإجْبارُ عَلى الطّاعَةِ فَلا أقْدِرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وما تَوْفِيقِي إلّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ﴾ وبَيَّنَ بِهَذا أنَّ تَوَكُّلَهُ واعْتِمادَهُ في تَنْفِيذِ كُلِّ الأعْمالِ الصّالِحَةِ عَلى تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعالى وهِدايَتِهِ. واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - تَوَكَّلْتُ إشارَةٌ إلى مَحْضِ التَّوْحِيدِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - تَوَكَّلْتُ يُفِيدُ الحَصْرَ، وهو أنَّهُ لا يَنْبَغِي لِلْإنْسانِ أنْ يَتَوَكَّلَ عَلى أحَدٍ إلّا عَلى اللَّهِ تَعالى، وكَيْفَ وكُلُّ ما سِوى الحَقِّ سُبْحانَهُ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، فانٍ بِذاتِهِ، ولا يَحْصُلُ إلّا بِإيجادِهِ وتَكْوِينِهِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزِ التَّوَكُّلُ إلّا عَلى اللَّهِ تَعالى، وأعْظَمُ مَراتِبِ مَعْرِفَةِ المَبْدَأِ هو الَّذِي ذَكَرْناهُ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وإلَيْهِ أُنِيبُ﴾ فَهو إشارَةٌ إلى مَعْرِفَةِ المَعادِ، وهو أيْضًا يُفِيدُ الحَصْرَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإلَيْهِ أُنِيبُ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا مَرْجِعَ لِلْخَلْقِ إلّا إلى اللَّهِ تَعالى، وعَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ كانَ إذا ذُكِرَ شُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ: ”«ذاكَ خَطِيبُ الأنْبِياءِ» “؛ لِحُسْنِ مُراجَعَتِهِ في كَلامِهِ بَيْنَ قَوْمِهِ. وأمّا الوَجْهُ الرّابِعُ مِنَ الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَها شُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: فَهو قَوْلُهُ: (p-٣٩)﴿ويا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكم شِقاقِي أنْ يُصِيبَكُمْ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: جَرَمَ مِثْلُ كَسَبَ في تَعْدِيَتِهِ تارَةً إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ وأُخْرى إلى مَفْعُولَيْنِ، يُقالُ: جَرَمَ ذَنْبًا وكَسَبَهُ، وجَرَّمَهُ ذَنْبًا وكَسَّبَهُ إيّاهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَجْرِمَنَّكم شِقاقِي أنْ يُصِيبَكُمْ﴾ أيْ لا يُكْسِبَنَّكم شِقاقِي إصابَةَ العَذابِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ”يُجَرِّمَنَّكم“ - بِضَمِّ الياءِ - مَن أجْرَمْتُهُ ذَنْبًا، إذا جَعَلْتَهُ جارِمًا لَهُ، أيْ كاسِبًا لَهُ، وهو مَنقُولٌ مِن ”جَرَمَ“ المُتَعَدِّي إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، وعَلى هَذا فَلا فَرْقَ بَيْنَ جَرَمْتُهُ ذَنْبًا، وأجْرَمْتُهُ إيّاهُ، والقِراءَتانِ مُسْتَوِيَتانِ في المَعْنى، لا تَفاوُتَ بَيْنِهِما، إلّا أنَّ المَشْهُورَةَ أفْصَحُ لَفْظًا، كَما أنَّ كَسَّبَهُ مالًا أفْصَحُ مَن أكْسَبَهُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: المُرادُ مِنَ الآيَةِ لا تُكْسِبَنَّكم مُعاداتُكم إيّايَ أنْ يُصِيبَكم عَذابُ الِاسْتِئْصالِ في الدُّنْيا، مِثْلَ ما حَصَلَ لِقَوْمِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِنَ الغَرَقِ، ولِقَوْمِ هُودٍ مِنَ الرِّيحِ العَقِيمِ، ولِقَوْمِ صالِحٍ مِنَ الرَّجْفَةِ، ولِقَوْمِ لُوطٍ مِنَ الخَسْفِ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وما قَوْمُ لُوطٍ مِنكم بِبَعِيدٍ﴾ فَفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ نَفْيُ البُعْدِ في المَكانِ؛ لِأنَّ بِلادَ قَوْمِ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قَرِيبَةٌ مِن مَدْيَنَ. والثّانِي: أنَّ المُرادَ نَفْيُ البُعْدِ في الزَّمانِ؛ لِأنَّ إهْلاكَ قَوْمِ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أقْرَبُ الإهْلاكاتِ الَّتِي عَرَفَها النّاسُ في زَمانِ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وعَلى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ، فَإنَّ القُرْبَ في المَكانِ وفي الزَّمانِ يُفِيدُ زِيادَةَ المَعْرِفَةِ وكَمالَ الوُقُوفِ عَلى الأحْوالِ، فَكَأنَّهُ يَقُولُ: اعْتَبِرُوا بِأحْوالِهِمْ، واحْذَرُوا مِن مُخالَفَةِ اللَّهِ تَعالى ومُنازَعَتِهِ حَتّى لا يَنْزِلَ بِكم مِثْلُ ذَلِكَ العَذابِ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ قالَ: ﴿وما قَوْمُ لُوطٍ مِنكم بِبَعِيدٍ﴾ وكانَ الواجِبُ أنْ يُقالَ بِبَعِيدِينَ ؟ أجابَ عَنْهُ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ما إهْلاكُهم شَيْءٌ بَعِيدٌ. الثّانِي: أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُسَوّى في قَرِيبٍ وبَعِيدٍ وكَثِيرٍ وقَلِيلٍ بَيْنَ المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ؛ لِوُرُودِها عَلى زِنَةِ المَصادِرِ الَّتِي هي الصَّهِيلُ والنَّهِيقُ ونَحْوُهُما. وأمّا الوَجْهُ الخامِسُ مِنَ الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَها شُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: فَهو قَوْلُهُ: ﴿واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ مِن عِبادَةِ الأوْثانِ ﴿ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ﴾ عَنِ البَخْسِ والنُّقْصانِ ﴿إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ﴾ بِأوْلِيائِهِ ﴿ودُودٌ﴾ . قالَ أبُو بَكْرٍ الأنْبارِيُّ: الوَدُودُ في أسْماءِ اللَّهِ تَعالى: المُحِبُّ لِعِبادِهِ، مِن قَوْلِهِمْ: ودِدْتُ الرَّجُلَ أوَدُّهُ، وقالَ الأزْهَرِيُّ في كِتابِ ”شَرْحِ أسْماءِ اللَّهِ تَعالى“: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ودُودٌ فَعُولًا بِمَعْنى مَفْعُولٍ، كَ”رُكُوبٍ“ و”حَلُوبٍ“، ومَعْناهُ أنَّ عِبادَهُ الصّالِحِينَ يَوَدُّونَهُ ويُحِبُّونَهُ لِكَثْرَةِ إفْضالِهِ وإحْسانِهِ عَلى الخَلْقِ. واعْلَمْ أنَّ هَذا التَّرْتِيبَ الَّذِي راعاهُ شُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في ذِكْرِ هَذِهِ الوُجُوهِ الخَمْسَةِ تَرْتِيبٌ لَطِيفٌ، وذَلِكَ لِأنَّهُ بَيَّنَ أوَّلًا أنَّ ظُهُورَ البَيِّنَةِ لَهُ وكَثْرَةَ إنْعامِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ في الظّاهِرِ والباطِنِ يَمْنَعُهُ عَنِ الخِيانَةِ في وحْيِ اللَّهِ تَعالى، ويَصُدُّهُ عَنِ التَّهاوُنِ في تَكالِيفِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ ثانِيًا أنَّهُ مُواظِبٌ عَلى العَمَلِ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ، ولَوْ كانَتْ باطِلَةً لَما اشْتَغَلَ هو بِها مَعَ اعْتِرافِكم بِكَوْنِهِ حَلِيمًا رَشِيدًا، ثُمَّ بَيَّنَ صِحَّتَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، وهو أنَّهُ كانَ مَعْرُوفًا بِتَحْصِيلِ مُوجِباتِ الصَّلاحِ وإخْفاءِ مُوجِباتِ الفِتَنِ، فَلَوْ كانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ باطِلَةً لَما اشْتَغَلَ بِها، ثُمَّ لَمّا بَيَّنَ صِحَّةَ طَرِيقَتِهِ أشارَ إلى نَفْيِ المُعارِضِ وقالَ: لا يَنْبَغِي أنْ تَحْمِلَكم عَداوَتِي عَلى مَذْهَبٍ ودِينٍ تَقَعُونَ بِسَبَبِهِ في العَذابِ الشَّدِيدِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، كَما وقَعَ فِيهِ أقْوامُ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ إنَّهُ لَمّا صَحَّحَ مَذْهَبَ نَفْسِهِ بِهَذِهِ الدَّلائِلِ عادَ إلى تَقْرِيرِ ما ذَكَرَهُ أوَّلًا، وهو التَّوْحِيدُ والمَنعُ مِنَ البَخْسِ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ لَهم أنَّ سَبْقَ الكُفْرِ والمَعْصِيَةِ مِنهم لا يَنْبَغِي أنْ يَمْنَعَهم مِنَ الإيمانِ والطّاعَةِ؛ لِأنَّهُ تَعالى رَحِيمٌ ودُودٌ، يَقْبَلُ الإيمانَ والتَّوْبَةَ مِنَ الكافِرِ والفاسِقِ؛ لِأنَّ رَحْمَتَهُ وحُبَّهُ لَهم يُوجِبُ ذَلِكَ، وهَذا التَّقْرِيرُ في غايَةِ الكَمالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب