الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا جاءَ أمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وأمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِن سِجِّيلٍ مَنضُودٍ﴾ ﴿مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وما هي مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ . فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في الأمْرِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِن هَذا الأمْرِ ما هو ضِدُّ النَّهْيِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ لَفْظَ الأمْرِ حَقِيقَةٌ في هَذا المَعْنى مَجازٌ في غَيْرِهِ دَفْعًا لِلِاشْتِراكِ. الثّانِي: أنَّ الأمْرَ لا يُمْكِنُ حَمْلُهُ هَهُنا عَلى العَذابِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَلَمّا جاءَ أمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها﴾ وهَذا الجَعْلُ هو العَذابُ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ هَذا الأمْرَ شَرْطٌ، والعَذابُ جَزاءٌ، والشَّرْطُ غَيْرُ الجَزاءِ، فَهَذا الأمْرُ غَيْرُ العَذابِ، وكُلُّ مَن قالَ بِذَلِكَ قالَ: إنَّهُ هو الأمْرُ الَّذِي هو ضِدُّ النَّهْيِ. والثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى قالَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿إنّا أُرْسِلْنا إلى قَوْمِ لُوطٍ﴾ [هُودٍ: ٧٠ ] فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّهم كانُوا مَأْمُورِينَ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى بِالذَّهابِ إلى قَوْمِ لُوطٍ، وبِإيصالِ هَذا العَذابِ إلَيْهِمْ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى أمَرَ جَمْعًا مِنَ المَلائِكَةِ بِأنْ يُخَرِّبُوا تِلْكَ المَدائِنَ في وقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَلَمّا جاءَ ذَلِكَ الوَقْتُ أقْدَمُوا عَلى ذَلِكَ العَمَلِ، فَكانَ قَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا جاءَ أمْرُنا﴾ إشارَةً إلى ذَلِكَ التَّكْلِيفِ. فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أنْ يُقالَ: فَلَمّا جاءَ أمْرُنا جَعَلُوا عالِيَها سافِلَها؛ لِأنَّ الفِعْلَ صَدَرَ عَنْ ذَلِكَ المَأْمُورِ. قُلْنا: هَذا لا يَلْزَمُ عَلى مَذْهَبِنا؛ لِأنَّ فِعْلَ العَبْدِ فِعْلُ اللَّهِ تَعالى عِنْدَنا، وأيْضًا أنَّ الَّذِي وقَعَ مِنهم إنَّما وقَعَ بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى وبِقُدْرَتِهِ، فَلَمْ يَبْعُدْ إضافَتُهُ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ؛ لِأنَّ الفِعْلَ كَما تَحْسُنُ إضافَتُهُ إلى المُباشِرِ فَقَدْ تَحْسُنُ أيْضًا إضافَتُهُ إلى السَّبَبِ. القَوْلُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الأمْرِ هَهُنا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النَّحْلِ: ٤٠ ] وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ الأمْرِ. القَوْلُ الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الأمْرِ العَذابَ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَيُحْتاجُ إلى الإضْمارِ، والمَعْنى: ولَمّا جاءَ وقْتُ عَذابِنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ ذَلِكَ العَذابَ قَدْ وصَفَهُ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الوَصْفِ: فالأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها﴾ رُوِيَ أنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أدْخَلَ جَناحَهُ الواحِدَ تَحْتَ مَدائِنِ قَوْمِ لُوطِ وقَلَعَها، وصَعِدَ بِها إلى السَّماءِ حَتّى سَمِعَ أهْلُ السَّماءِ نَهِيقَ الحَمِيرِ ونُباحَ الكِلابِ وصِياحَ الدُّيُوكِ، ولَمْ تَنْكَفِئْ لَهم جَرَّةٌ ولَمْ يَنْكَبَّ لَهم إناءٌ، ثُمَّ قَلَبَها دَفْعَةً واحِدَةً وضَرَبَها عَلى الأرْضِ. واعْلَمْ أنَّ هَذا العَمَلَ كانَ مُعْجِزَةً قاهِرَةً مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ قَلْعَ الأرْضِ وإصْعادَها إلى قَرِيبٍ مِنَ (p-٣٢)السَّماءِ فِعْلٌ خارِقٌ لِلْعاداتِ. والثّانِي: أنَّ ضَرْبَها مِن ذَلِكَ البُعْدِ البَعِيدِ عَلى الأرْضِ بِحَيْثُ لَمْ تَتَحَرَّكْ سائِرُ القُرى المُحِيطَةِ بِها ألْبَتَّةَ، ولَمْ تَصِلِ الآفَةُ إلى لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وأهْلِهِ مَعَ قُرْبِ مَكانِهِمْ مِن ذَلِكَ المَوْضِعِ - مُعْجِزَةٌ قاهِرَةٌ أيْضًا. الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿وأمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِن سِجِّيلٍ﴾، واخْتَلَفُوا في السِّجِّيلِ عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ فارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وأصْلُهُ سنككل، وأنَّهُ شَيْءٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الحَجَرِ والطِّينِ بِشَرْطِ أنْ يَكُونَ في غايَةِ الصَّلابَةِ، قالَ الأزْهَرِيُّ: لَمّا عَرَّبَتْهُ العَرَبُ صارَ عَرَبِيًّا، وقَدْ عَرَّبَتْ حُرُوفًا كَثِيرَةً؛ كالدِّيباجِ، والدِّيوانِ، والإسْتَبْرَقِ. والثّانِي: سِجِّيلٌ، أيْ مِثْلُ السَّجْلِ وهو الدَّلْوُ العَظِيمُ. والثّالِثُ: سِجِّيلٌ، أيْ شَدِيدٌ مِنَ الحِجارَةِ. الرّابِعُ: مُرْسَلَةٌ عَلَيْهِمْ مِن أسْجَلْتُهُ إذا أرْسَلْتَهُ، وهو فَعِيلٌ مِنهُ. الخامِسُ: مِن أسْجَلْتُهُ، أيْ أعْطَيْتُهُ، تَقْدِيرُهُ: مِثْلُ العَطِيَّةِ في الإدْرارِ، وقِيلَ: كانَ كُتِبَ عَلَيْها أسامِي المُعَذَّبِينَ. السّادِسُ: وهو مِنَ السِّجِلِّ، وهو الكِتابُ، تَقْدِيرُهُ: مِن مَكْتُوبٍ في الأزَلِ، أيْ كَتَبَ اللَّهُ أنْ يُعَذِّبَهم بِها، والسِّجِّيلُ أُخِذَ مِنَ السَّجْلِ، وهو الدَّلْوُ العَظِيمَةُ؛ لِأنَّهُ يَتَضَمَّنُ أحْكامًا كَثِيرَةً، وقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ المُساجَلَةِ وهي المُفاخِرَةُ. والسّابِعُ: مِن سِجِّيلٍ أيْ مِن جَهَنَّمَ، أُبْدِلَتِ النُّونُ لامًا. والثّامِنُ: مِنَ السَّماءِ الدُّنْيا، وتُسَمّى سِجِّيلًا عَنْ أبِي زَيْدٍ. والتّاسِعُ: السِّجِّيلُ الطِّينُ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حِجارَةً مِن طِينٍ﴾ [الذّارِياتِ: ٣٣ ] وهو قَوْلُ عِكْرِمَةَ وقَتادَةَ، قالَ الحَسَنُ: كانَ أصْلُ الحَجَرِ هو مِنَ الطِّينِ، إلّا أنَّهُ صَلُبَ بِمُرُورِ الزَّمانِ. والعاشِرُ: سِجِّيلٌ مَوْضِعُ الحِجارَةِ، وهي جِبالٌ مَخْصُوصَةٌ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن جِبالٍ فِيها مِن بَرَدٍ﴾ [النُّورِ: ٤٣ ] . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى وصَفَ تِلْكَ الحِجارَةَ بِصِفاتٍ: فالصِّفَةُ الأُولى: كَوْنُها مِن سِجِّيلٍ، وقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ. الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَنضُودٍ﴾ قالَ الواحِدِيُّ: هو مَفْعُولٌ مِنَ النَّضْدِ، وهو مَوْضِعُ الشَّيْءِ بَعْضِهِ عَلى بَعْضٍ، وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ تِلْكَ الحِجارَةَ كانَ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ في النُّزُولِ، فَأُتِيَ بِهِ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ. والثّانِي: أنَّ كُلَّ حَجَرٍ فَإنَّ ما فِيهِ مِنَ الأجْزاءِ مَنضُودٌ بَعْضُها بِبَعْضٍ، ومُلْتَصِقٌ بَعْضُها بِبَعْضٍ. والثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى كانَ قَدْ خَلَقَها في مَعادِنِها، ونَضَّدَ بَعْضَها فَوْقَ بَعْضٍ، وأعَدَّها لِإهْلاكِ الظَّلَمَةِ. واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مَنضُودٍ﴾ صِفَةٌ لِلسِّجِّيلِ. الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: مُسَوَّمَةً، وهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةٌ لِلْأحْجارِ، ومَعْناها المُعَلَّمَةُ، وقَدْ مَضى الكَلامُ فِيهِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٤ ] واخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ تِلْكَ العَلامَةِ عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: قالَ الحَسَنُ والسُّدِّيُّ: كانَ عَلَيْها أمْثالُ الخَواتِيمِ. الثّانِي: قالَ ابْنُ صالِحٍ: رَأيْتُ مِنها عِنْدَ أُمِّ هانِئٍ حِجارَةً فِيها خُطُوطٌ حُمْرٌ عَلى هَيْئَةِ الجِزْعِ. الثّالِثُ: قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كانَ عَلَيْها سِيما لا تُشارِكُ حِجارَةَ الأرْضِ، وتَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما خَلَقَها لِلْعَذابِ. الرّابِعُ: قالَ الرَّبِيعُ: مَكْتُوبٌ عَلى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ مَن رُمِيَ بِهِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ أيْ في خَزائِنِهِ الَّتِي لا يَتَصَرَّفُ فِيها أحَدٌ إلّا هو. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وما هي مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ يَعْنِي بِهِ كُفّارَ مَكَّةَ، والمَقْصُودُ أنَّهُ تَعالى يَرْمِيهِمْ بِها، عَنْ أنَسٍ أنَّهُ قالَ: «سَألَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَنْ هَذا»، فَقالَ: يَعْنِي عَنْ ظالِمِي أُمَّتِكَ، ما مِن ظالِمٍ مِنهم إلّا وهو بِمَعْرِضِ حَجَرٍ يَسْقُطُ عَلَيْهِ مِن ساعَةٍ إلى ساعَةٍ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿وما هِيَ﴾ لِلْقُرى. أيْ وما تِلْكَ (p-٣٣)القُرى الَّتِي وقَعَتْ فِيها هَذِهِ الواقِعَةُ مِن كُفّارِ مَكَّةَ بِبَعِيدٍ؛ وذَلِكَ لِأنَّ القُرى كانَتْ في الشَّأْمِ، وهي قَرِيبٌ مِن مَكَّةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب