الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا يالُوطُ إنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ فَأسْرِ بِأهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ولا يَلْتَفِتْ مِنكم أحَدٌ إلّا امْرَأتَكَ إنَّهُ مُصِيبُها ما أصابَهم إنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ألَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى مُخْبِرًا عَنْ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ قالَ: ﴿لَوْ أنَّ لِي بِكم قُوَّةً أوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ في غايَةِ القَلَقِ والحُزْنِ؛ بِسَبَبِ إقْدامِ أُولَئِكَ الأوْباشِ عَلى ما يُوجِبُ الفَضِيحَةَ في حَقِّ أضْيافِهِ، فَلَمّا رَأتِ المَلائِكَةُ تِلْكَ الحالَةَ بَشَّرُوهُ بِأنْواعٍ مِنَ البِشاراتِ:
أحَدُها: أنَّهم رُسُلُ اللَّهِ.
وثانِيها: أنَّ الكُفّارَ لا يَصِلُونَ إلى ما هَمُّوا بِهِ.
وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى يُهْلِكُهم.
ورابِعُها: أنَّهُ تَعالى يُنَجِّيهِ مَعَ أهْلِهِ مِن ذَلِكَ العَذابِ.
وخامِسُها: أنَّ رُكْنَكَ شَدِيدٌ، وإنَّ ناصِرَكَ هو اللَّهُ تَعالى، فَحَصَلَ لَهُ هَذِهِ البِشاراتُ، ورُوِيَ أنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ لَهُ: إنَّ قَوْمَكَ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ، فافْتَحِ البابَ، فَدَخَلُوا، فَضَرَبَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِجَناحِهِ وُجُوهَهم فَطَمَسَ أعْيُنَهم فَأعْماهم، فَصارُوا لا يَعْرِفُونَ الطَّرِيقَ ولا يَهْتَدُونَ إلى بُيُوتِهِمْ، وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أعْيُنَهُمْ﴾ [القَمَرِ: ٣٧ ] ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ﴾ أيْ بِسُوءٍ ومَكْرُوهٍ، فَإنّا نُحُولُ بَيْنَهم وبَيْنَ ذَلِكَ. ثُمَّ قالَ: ﴿فَأسْرِ بِأهْلِكَ﴾ قَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ ”فاسْرِ“ مَوْصُولَةً، والباقُونَ بِقَطْعِ الألْفِ، وهُما لُغَتانِ، يُقالُ: سَرَيْتُ بِاللَّيْلِ، وأسْرَيْتُ، وأنْشَدَ حَسّانُ:(p-٣٠)
؎أسْرَتْ إلَيْكَ ولَمْ تَكُنْ تَسْرِي
فَجاءَ بِاللُّغَتَيْنِ، فَمَن قَرَأ بِقَطْعِ الألِفِ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسْراءِ: ١ ] . ومَن وصَلَ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ: ﴿واللَّيْلِ إذا يَسْرِي﴾ [الفَجْرِ: ٤ ] والسُّرى: السَّيْرُ في اللَّيْلِ، يُقالُ: سَرى يَسْرِي، إذا سارَ بِاللَّيْلِ وأسْرى بِفُلانٍ، إذا سِيرَ بِهِ بِاللَّيْلِ، والقِطْعُ مِنَ اللَّيْلِ بَعْضُهُ، وهو مِثْلُ القِطْعَةِ، يُرِيدُ: اخْرُجُوا لَيْلًا لِتَسْبِقُوا نُزُولَ العَذابِ الَّذِي مَوْعِدُهُ الصُّبْحُ، قالَ نافِعُ بْنُ الأزْرَقِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: أخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ ﴿بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ قالَ هو آخِرُ اللَّيْلِ سَحَرًا، وقالَ قَتادَةُ: بَعْدَ طائِفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وقالَ آخَرُونَ: هو نِصْفُ اللَّيْلِ، فَإنَّهُ في ذَلِكَ الوَقْتِ قُطِعَ بِنِصْفَيْنِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ولا يَلْتَفِتْ مِنكم أحَدٌ﴾ نَهى مَن مَعَهُ عَنِ الِالتِفاتِ، والِالتِفاتُ نَظَرُ الإنْسانِ إلى ما وراءَهُ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ أنَّهُ كانَ لَهم في البَلْدَةِ أمْوالٌ وأقْمِشَةٌ وأصْدِقاءُ، فالمَلائِكَةُ أمَرُوهم بِأنْ يَخْرُجُوا ويَتْرُكُوا تِلْكَ الأشْياءَ ولا يَلْتَفِتُوا إلَيْها ألْبَتَّةَ، وكانَ المُرادُ مِنهُ قَطْعَ القَلْبِ عَنْ تِلْكَ الأشْياءِ، وقَدْ يُرادُ مِنهُ الِانْصِرافُ أيْضًا، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالُوا أجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا﴾ [يُونُسَ: ٧٨ ] أيْ لِتَصْرِفَنا، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالمُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولا يَلْتَفِتْ مِنكم أحَدٌ﴾ النَّهْيُ عَنِ التَّخَلُّفِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿إلّا امْرَأتَكَ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ”إلّا امْرَأتُكَ“ بِالرَّفْعِ، والباقُونَ بِالنَّصْبِ، قالَ الواحِدِيُّ: مَن نَصَبَ - وهو الِاخْتِيارُ - فَقَدْ جَعَلَها مُسْتَثْناةً مِنَ الأهْلِ عَلى مَعْنى: فَأسْرِ بِأهْلِكَ إلّا امْرَأتَكَ، والَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذِهِ القِراءَةِ أنَّ في قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ (فَأسْرِ بِأهْلِكَ إلّا امْرَأتَكَ) فَأسْقَطَ قَوْلَهُ: ﴿ولا يَلْتَفِتْ مِنكم أحَدٌ﴾ مِن هَذا المَوْضِعِ، وأمّا الَّذِينَ رَفَعُوا فالتَّقْدِيرُ ”ولا يَلْتَفِتْ مِنكم أحَدٌ إلّا امْرَأتُكَ“ .
فَإنْ قِيلَ: فَهَذِهِ القِراءَةُ تُوجِبُ أنَّها أُمِرَتْ بِالِالتِفاتِ؛ لِأنَّ القائِلَ إذا قالَ: لا يَقُمْ مِنكم أحَدٌ إلّا زَيْدٌ - كانَ ذَلِكَ أمْرًا لِزَيْدٍ بِالقِيامِ.
وأجابَ أبُو بَكْرٍ الأنْبارِيُّ عَنْهُ فَقالَ: مَعْنى ”إلّا“ هَهُنا الِاسْتِثْناءُ المُنْقَطِعُ عَلى مَعْنى: لا يَلْتَفِتْ مِنكم أحَدٌ، لَكِنِ امْرَأتُكَ تَلْتَفِتُ، فَيُصِيبُها ما أصابَهم، وإذا كانَ هَذا الِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعًا كانَ التِفاتُها مَعْصِيَةً، ويَتَأكَّدُ ما ذَكَرْنا بِما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ أنَّهُ قالَ: إنَّها كانَتْ مَعَ لُوطٍ حِينَ خَرَجَ مِنَ القَرْيَةِ، فَلَمّا سَمِعَتْ هَذا العَذابَ التَفَتَتْ وقالَتْ: يا قَوْماهُ، فَأصابَها حَجَرٌ فَأهْلَكَها.
واعْلَمْ أنَّ القِراءَةَ بِالرَّفْعِ أقْوى؛ لِأنَّ القِراءَةَ بِالنَّصْبِ تَمْنَعُ مِن خُرُوجِها مَعَ أهْلِهِ، لَكِنْ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ الِاسْتِثْناءُ يَكُونُ مِنَ الأهْلِ، كَأنَّهُ أمَرَ لُوطًا بِأنْ يَخْرُجَ بِأهْلِهِ ويَتْرُكَ هَذِهِ المَرْأةَ، فَإنَّها هالِكَةٌ مَعَ الهالِكِينَ، وأمّا القِراءَةُ بِالنَّصْبِ فَإنَّها أقْوى مِن وجْهٍ آخَرَ، وذَلِكَ لِأنَّ مَعَ القِراءَةِ بِالنَّصْبِ يَبْقى الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلًا، ومَعَ القِراءَةِ بِالرَّفْعِ يَصِيرُ الِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعًا، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّهم قالُوا: ﴿إنَّهُ مُصِيبُها ما أصابَهُمْ﴾ . والمُرادُ أنَّهُ مُصِيبُها ذَلِكَ العَذابُ الَّذِي أصابَهم، ثُمَّ قالُوا: ﴿إنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾ رُوِيَ أنَّهم لَمّا قالُوا لِلُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿إنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾ قالَ: أُرِيدُ أعْجَلَ مِن ذَلِكَ بَلِ السّاعَةَ، فَقالُوا: ﴿ألَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: إنَّ لُوطًا - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا سَمِعَ هَذا الكَلامَ خَرَجَ بِأهْلِهِ في اللَّيْلِ.
{"ayahs_start":81,"ayahs":["قَالُوا۟ یَـٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن یَصِلُوۤا۟ إِلَیۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعࣲ مِّنَ ٱلَّیۡلِ وَلَا یَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِیبُهَا مَاۤ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَیۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِیبࣲ","فَلَمَّا جَاۤءَ أَمۡرُنَا جَعَلۡنَا عَـٰلِیَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَیۡهَا حِجَارَةࣰ مِّن سِجِّیلࣲ مَّنضُودࣲ"],"ayah":"قَالُوا۟ یَـٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن یَصِلُوۤا۟ إِلَیۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعࣲ مِّنَ ٱلَّیۡلِ وَلَا یَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِیبُهَا مَاۤ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَیۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِیبࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق