الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إبْراهِيمَ الرَّوْعُ وجاءَتْهُ البُشْرى يُجادِلُنا في قَوْمِ لُوطٍ﴾ ﴿إنَّ إبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أوّاهٌ مُنِيبٌ﴾ . اعْلَمْ أنَّ هَذا هو القِصَّةُ الخامِسَةُ، وهي قِصَّةُ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، واعْلَمْ أنَّ الرَّوْعَ هو الخَوْفُ، وهو ما أوْجَسَ مِنَ الخِيفَةِ حِينَ أنْكَرَ أضْيافَهُ، والمَعْنى: أنَّهُ لَمّا زالَ الخَوْفُ وحَصَلَ السُّرُورُ بِسَبَبِ مَجِيءِ البُشْرى بِحُصُولِ الوَلَدِ، أخَذَ يُجادِلُنا في قَوْمِ لُوطٍ، وجَوابُ ”لَمّا“ هو قَوْلُهُ: (أخَذَ) إلّا أنَّهُ حُذِفَ في اللَّفْظِ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، وقِيلَ تَقْدِيرُهُ: لَمّا ذَهَبَ عَنْ إبْراهِيمَ الرَّوْعُ جادَلَنا. واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يُجادِلُنا﴾ أيْ يُجادِلُ رُسُلَنا. فَإنْ قِيلَ: هَذِهِ المُجادَلَةُ إنْ كانَتْ مَعَ اللَّهِ تَعالى فَهي جَراءَةٌ عَلى اللَّهِ، والجَراءَةُ عَلى اللَّهِ تَعالى مِن أعْظَمِ الذُّنُوبِ؛ ولِأنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ المُجادَلَةِ إزالَةُ ذَلِكَ الحُكْمِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ما كانَ راضِيًا بِقَضاءِ اللَّهِ تَعالى، وأنَّهُ كَفَرَ، وإنْ كانَتْ هَذِهِ المُجادَلَةُ مَعَ المَلائِكَةِ فَهي أيْضًا عَجِيبَةٌ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ المُجادَلَةِ أنْ يَتْرُكُوا إهْلاكَ قَوْمِ لُوطٍ، فَإنْ كانَ قَدِ اعْتَقَدَ فِيهِمْ أنَّهم مِن تِلْقاءِ أنْفُسِهِمْ يُجادِلُونَ في هَذا الإهْلاكِ، فَهَذا سُوءُ ظَنٍّ بِهِمْ، وإنِ اعْتَقَدَ فِيهِمْ أنَّهم بِأمْرِ اللَّهِ جاءُوا، فَهَذِهِ المُجادَلَةُ تَقْتَضِي أنَّهُ كانَ يَطْلُبُ مِنهم مُخالَفَةَ أمْرِ اللَّهِ تَعالى، وهَذا مُنْكَرٌ. والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الوَجْهُ الأوَّلُ وهو الجَوابُ الإجْمالِيُّ: أنَّهُ تَعالى مَدَحَهُ عَقِيبَ هَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: ﴿إنَّ إبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أوّاهٌ مُنِيبٌ﴾ ولَوْ كانَ هَذا الجَدَلُ مِنَ الذُّنُوبِ لَما ذُكِرَ عَقِيبَهُ ما يَدُلُّ عَلى المَدْحِ العَظِيمِ. (p-٢٥)والوَجْهُ الثّانِي وهو الجَوابُ التَّفْصِيلِيُّ: أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ المُجادَلَةِ سَعْيُ إبْراهِيمَ في تَأْخِيرِ العَذابِ عَنْهم، وتَقْرِيرُهُ مِن وُجُوهٍ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ المَلائِكَةَ قالُوا: ﴿إنّا مُهْلِكُو أهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ﴾ [العَنْكَبُوتِ: ٣١ ] فَقالَ إبْراهِيمُ: أرَأيْتُمْ لَوْ كانَ فِيها خَمْسُونَ رَجُلًا مِنَ المُؤْمِنِينَ أتُهْلِكُونَها ؟ قالُوا: لا، قالَ: فَأرْبَعُونَ ؟ قالُوا: لا، قالَ: فَثَلاثُونَ ؟ قالُوا: لا، حَتّى بَلَغَ العَشْرَةَ، قالُوا: لا، قالَ: أرَأيْتُمْ إنْ كانَ فِيها رَجُلٌ مُسْلِمٌ أتُهْلِكُونَها ؟ قالُوا: لا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ: إنَّ فِيها لُوطًا، وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى هَذا في سُورَةِ العَنْكَبُوتِ فَقالَ: ﴿ولَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إبْراهِيمَ بِالبُشْرى قالُوا إنّا مُهْلِكُو أهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ إنَّ أهْلَها كانُوا ظالِمِينَ﴾ ﴿قالَ إنَّ فِيها لُوطًا قالُوا نَحْنُ أعْلَمُ بِمَن فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وأهْلَهُ إلّا امْرَأتَهُ كانَتْ مِنَ الغابِرِينَ﴾ [العَنْكَبُوتِ: ٣١] . * * * ثُمَّ قالَ: ﴿ولَمّا أنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وضاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وقالُوا لا تَخَفْ ولا تَحْزَنْ إنّا مُنَجُّوكَ وأهْلَكَ إلّا امْرَأتَكَ﴾ [العَنْكَبُوتِ: ٣٣ ] فَبانَ بِهَذا أنَّ مُجادَلَةَ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - إنَّما كانَتْ في قَوْمِ لُوطٍ بِسَبَبِ مُقامِ لُوطٍ فِيما بَيْنَهم. الوَجْهُ الثّانِي: يُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ يَمِيلُ إلى أنْ تَلْحَقَهم رَحْمَةُ اللَّهِ بِتَأْخِيرِ العَذابِ عَنْهم، رَجاءَ أنَّهم رُبَّما أقْدَمُوا عَلى الإيمانِ والتَّوْبَةِ عَنِ المَعاصِي، ورُبَّما وقَعَتْ تِلْكَ المُجادَلاتُ بِسَبَبِ أنَّ إبْراهِيمَ كانَ يَقُولُ إنَّ أمْرَ اللَّهِ ورَدَ بِإيصالِ العَذابِ، ومُطْلَقُ الأمْرِ لا يُوجِبُ الفَوْرَ، بَلْ يَقْبَلُ التَّراخِيَ، فاصْبِرُوا مُدَّةً أُخْرى، والمَلائِكَةُ كانُوا يَقُولُونَ إنَّ مُطْلَقَ الأمْرِ يَقْبَلُ الفَوْرَ، وقَدْ حَصَلَتْ هُناكَ قَرائِنُ دالَّةٌ عَلى الفَوْرِ، ثُمَّ أخَذَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم يُقَرِّرُ مَذْهَبَهُ بِالوُجُوهِ المَعْلُومَةِ، فَحَصَلَتِ المُجادِلَةُ بِهَذا السَّبَبِ، وهَذا الوَجْهُ عِنْدِي هو المُعْتَمَدُ. الوَجْهُ الثّالِثُ في الجَوابِ: لَعَلَّ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - سَألَ عَنْ لَفْظِ ذَلِكَ الأمْرِ، وكانَ ذَلِكَ الأمْرُ مَشْرُوطًا بِشَرْطٍ، فاخْتَلَفُوا في أنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ هَلْ حَصَلَ في ذَلِكَ القَوْمِ أمْ لا، فَحَصَلَتِ المُجادَلَةُ بِسَبَبِهِ، وبِالجُمْلَةِ نَرى العُلَماءَ في زَمانِنا يُجادِلُ بَعْضُهم بَعْضًا عِنْدَ التَّمَسُّكِ بِالنُّصُوصِ، وذَلِكَ لا يُوجِبُ القَدْحَ في واحِدٍ مِنها، فَكَذا هَهُنا. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ إبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أوّاهٌ مُنِيبٌ﴾ وهَذا مَدْحٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِإبْراهِيمَ، أمّا الحَلِيمُ فَهو الَّذِي لا يَتَعَجَّلُ بِمُكافَأةِ غَيْرِهِ، بَلْ يَتَأنّى فِيهِ، فَيُؤَخِّرُ ويَعْفُو، ومَن هَذا حالُهُ فَإنَّهُ يُحِبُّ مِن غَيْرِهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وهَذا كالدَّلالَةِ عَلى أنَّ جِدالَهُ كانَ في أمْرٍ مُتَعَلِّقٍ بِالحِلْمِ وتَأْخِيرِ العِقابِ، ثُمَّ ضُمَّ إلى ذَلِكَ ما لَهُ تَعَلُّقٌ بِالحِلْمِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿أوّاهٌ مُنِيبٌ﴾؛ لِأنَّ مَن يَسْتَعْمِلُ الحِلْمَ في غَيْرِهِ فَإنَّهُ يَتَأوَّهُ إذا شاهَدَ وُصُولَ الشَّدائِدِ إلى الغَيْرِ، فَلَمّا رَأى مَجِيءَ المَلائِكَةِ لِأجْلِ إهْلاكِ قَوْمِ لُوطٍ عَظُمَ حُزْنُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وأخَذَ يَتَأوَّهُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ وصَفَهُ اللَّهُ تَعالى بِهَذِهِ الصِّفَةِ، ووَصَفَهُ أيْضًا بِأنَّهُ مُنِيبٌ؛ لِأنَّ مَن ظَهَرَتْ فِيهِ هَذِهِ الشَّفَقَةُ العَظِيمَةُ عَلى الغَيْرِ، فَإنَّهُ يُنِيبُ ويَتُوبُ ويَرْجِعُ إلى اللَّهِ في إزالَةِ ذَلِكَ العَذابِ عَنْهم، أوْ يُقالُ: إنَّ مَن كانَ لا يَرْضى بِوُقُوعِ غَيْرِهِ في الشَّدائِدِ، فَأنْ لا يَرْضى بِوُقُوعِ نَفْسِهِ فِيها كانَ أوْلى، ولا طَرِيقَ إلى صَوْنِ النَّفْسِ عَنِ الوُقُوعِ في عَذابِ اللَّهِ إلّا بِالتَّوْبَةِ والإنابَةِ، فَوَجَبَ فِيمَن هَذا شَأْنُهُ أنْ يَكُونَ مُنِيبًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب