الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإلى ثَمُودَ أخاهم صالِحًا قالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ هو أنْشَأكم مِنَ الأرْضِ واسْتَعْمَرَكم فِيها فاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ ﴿قالُوا ياصالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذا أتَنْهانا أنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وإنَّنا لَفي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ هَذا هو القِصَّةُ الثّالِثَةُ مِنَ القَصَصِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ، وهي قِصَّةُ صالِحٍ مَعَ ثَمُودَ، ونَظْمُها مِثْلُ النَّظْمِ المَذْكُورِ في قِصَّةِ هُودٍ، إلّا أنَّ هَهُنا لَمّا أمَرَهم بِالتَّوْحِيدِ ذَكَرَ في تَقْرِيرِهِ دَلِيلَيْنِ:
الدَّلِيلُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿هُوَ أنْشَأكم مِنَ الأرْضِ﴾ وفِيهِ وجْهانِ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ الكُلَّ مَخْلُوقُونَ مِن صُلْبِ آدَمَ، وهو كانَ مَخْلُوقًا مِنَ الأرْضِ، وأقُولُ: هَذا صَحِيحٌ، لَكِنْ فِيهِ وجْهٌ آخَرُ وهو أقْرَبُ مِنهُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ مَخْلُوقٌ مِنَ المَنِيِّ ومِن دَمِ الطَّمْثِ، والمَنِيُّ إنَّما تَوَلَّدَ مِنَ (p-١٥)الدَّمِ، فالإنْسانُ مَخْلُوقٌ مِنَ الدَّمِ، والدَّمُ إنَّما تَوَلَّدَ مِنَ الأغْذِيَةِ، وهَذِهِ الأغْذِيَةُ إمّا حَيَوانِيَّةً وإمّا نَباتِيَّةً، والحَيَواناتُ حالُها كَحالِ الإنْسانِ، فَوَجَبَ انْتِهاءُ الكُلِّ إلى النَّباتِ، وظاهِرٌ أنَّ تَوَلُّدَ النَّباتِ مِنَ الأرْضِ، فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى أنْشَأنا مِنَ الأرْضِ.
والوَجْهُ الثّانِي: أنْ تَكُونَ كَلِمَةُ ”مِن“ مَعْناها في التَّقْدِيرِ: أنْشَأكم في الأرْضِ، وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ مَتى أمْكَنَ حَمْلُ الكَلامِ عَلى ظاهِرِهِ فَلا حاجَةَ إلى صَرْفِهِ عَنْهُ، وأمّا تَقْرِيرُ أنَّ تَوَلُّدَ الإنْسانِ مِنَ الأرْضِ كَيْفَ يَدُلُّ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ - فَقَدْ شَرَحْناهُ مِرارًا كَثِيرَةً.
الدَّلِيلُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿واسْتَعْمَرَكم فِيها﴾ وفِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ:
الأوَّلُ: جَعَلَكم عُمّارَها، قالُوا: كانَ مُلُوكُ فارِسَ قَدْ أكْثَرُوا في حَفْرِ الأنْهارِ وغَرْسِ الأشْجارِ، لا جَرَمَ حَصَلَتْ لَهُمُ الأعْمارُ الطَّوِيلَةُ، فَسَألَ نَبِيٌّ مِن أنْبِياءِ زَمانِهِمْ رَبَّهُ، ما سَبَبُ تِلْكَ الأعْمارِ ؟ فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ أنَّهم عَمَّرُوا بِلادِي فَعاشَ فِيها عِبادِي.
وأخَذَ مُعاوِيَةُ في إحْياءِ أرْضٍ في آخِرِ عُمْرِهِ، فَقِيلَ لَهُ: ما حَمَلَكَ عَلَيْهِ ؟ فَقالَ: ما حَمَلَنِي عَلَيْهِ إلّا قَوْلُ القائِلِ:
؎لَيْسَ الفَتى بِفَتًى لا يُسْتَضاءُ بِهِ ولا يَكُونُ لَهُ في الأرْضِ آثارُ
الثّانِي: أنَّهُ تَعالى أطالَ أعْمارَكم فِيها، واشْتِقاقُ ﴿واسْتَعْمَرَكُمْ﴾ مِنَ العُمْرِ، مِثْلَ اسْتَبْقاكم مِنَ البَقاءِ.
والثّالِثُ: أنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ العُمْرى، أيْ جَعَلَها لَكم طُولَ أعْمارِكم، فَإذا مُتُّمُ انْتَقَلَتْ إلى غَيْرِكم.
واعْلَمْ أنَّ في كَوْنِ الأرْضِ قابِلَةً لِلْعِماراتِ النّافِعَةِ لِلْإنْسانِ، وكَوْنِ الإنْسانِ قادِرًا عَلَيْها - دَلالَةً عَظِيمَةً عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، ويَرْجِعُ حاصِلُهُ إلى ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في آيَةٍ أُخْرى، وهي قَوْلُهُ: ﴿والَّذِي قَدَّرَ فَهَدى﴾ [الأعْلى: ٣ ] وذَلِكَ لِأنَّ حُدُوثَ الإنْسانِ - مَعَ أنَّهُ حَصَلَ في ذاتِهِ العَقْلُ الهادِي والقُدْرَةُ عَلى التَّصَرُّفاتِ المُوافِقَةِ - يَدُلُّ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ الحَكِيمِ، وكَوْنُ الأرْضِ مَوْصُوفَةً بِصِفاتٍ مُطابِقَةٍ لِلْمَصالِحِ مُوافِقَةٍ لِلْمَنافِعِ يَدُلُّ أيْضًا عَلى وُجُودِ الصّانِعِ الحَكِيمِ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿فاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ﴾ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ يَعْنِي أنَّهُ قَرِيبٌ بِالعِلْمِ والسَّمْعِ ﴿مُجِيبٌ﴾ دُعاءَ المُحْتاجِينَ بِفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ صالِحًا - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا قَرَّرَ هَذِهِ الدَّلائِلَ ﴿قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذا﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهُ لَمّا كانَ رَجُلًا قَوِيَّ العَقْلِ، قَوِيَّ الخاطِرِ، وكانَ مِن قَبِيلَتِهِمْ قَوِيَ رَجاؤُهم في أنْ يَنْصُرَ دِينَهم ويُقَوِّيَ مَذْهَبَهم ويُقَرِّرَ طَرِيقَتَهم؛ لِأنَّهُ مَتى حَدَثَ رَجُلٌ فاضِلٌ في قَوْمٍ طَمِعُوا فِيهِ مِن هَذا الوَجْهِ.
الثّانِي: قالَ بَعْضُهُمُ: المُرادُ أنَّكَ كُنْتَ تَعْطِفُ عَلى فُقَرائِنا، وتُعِينُ ضُعَفاءَنا، وتَعُودُ مَرْضانا، فَقَوِيَ رَجاؤُنا فِيكَ أنَّكَ مِنَ الأنْصارِ والأحْبابِ، فَكَيْفَ أظْهَرْتَ العَداوَةَ والبِغْضَةَ ؟ ثُمَّ إنَّهم أضافُوا إلى هَذا الكَلامِ التَّعَجُّبَ الشَّدِيدَ مِن قَوْلِهِ: ﴿أتَنْهانا أنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا﴾ والمَقْصُودُ مِن هَذا الكَلامِ التَّمَسُّكُ بِطَرِيقِ التَّقْلِيدِ، ووُجُوبُ مُتابِعَةِ الآباءِ والأسْلافِ، ونَظِيرُ هَذا التَّعَجُّبِ ما حَكاهُ اللَّهُ تَعالى عَنْ كُفّارِ مَكَّةَ حَيْثُ قالُوا: ﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ [ص: ٥ ] ثُمَّ قالُوا: ﴿وإنَّنا لَفي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ والشَّكُّ هو أنْ يَبْقى الإنْسانُ مُتَوَقِّفًا بَيْنَ النَّفْيِ والإثْباتِ، والمُرِيبُ هو الَّذِي يُظَنُّ بِهِ السُّوءُ، فَقَوْلُهُ: ﴿وإنَّنا لَفي شَكٍّ﴾ يَعْنِي بِهِ أنَّهُ لَمْ يَتَرَجَّحْ في اعْتِقادِهِمْ صِحَّةُ قَوْلِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿مُرِيبٍ﴾ يَعْنِي أنَّهُ تَرَجَّحَ في اعْتِقادِهِمْ فَسادُ قَوْلِهِ، وهَذا مُبالَغَةٌ في تَزْيِيفِ كَلامِهِ.
{"ayahs_start":61,"ayahs":["۞ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَـٰلِحࣰاۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِیهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤا۟ إِلَیۡهِۚ إِنَّ رَبِّی قَرِیبࣱ مُّجِیبࣱ","قَالُوا۟ یَـٰصَـٰلِحُ قَدۡ كُنتَ فِینَا مَرۡجُوࣰّا قَبۡلَ هَـٰذَاۤۖ أَتَنۡهَىٰنَاۤ أَن نَّعۡبُدَ مَا یَعۡبُدُ ءَابَاۤؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِی شَكࣲّ مِّمَّا تَدۡعُونَاۤ إِلَیۡهِ مُرِیبࣲ"],"ayah":"۞ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَـٰلِحࣰاۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِیهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤا۟ إِلَیۡهِۚ إِنَّ رَبِّی قَرِیبࣱ مُّجِیبࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق