الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أبْلَغْتُكم ما أُرْسِلْتُ بِهِ إلَيْكم ويَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكم ولا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا﴾ يَعْنِي فَإنْ تَتَوَلَّوْا ثُمَّ فِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ تَقْدِيرُ الكَلامِ، فَإنْ تَتَوَلَّوْا لَمْ أُعاتَبْ عَلى تَقْصِيرٍ في الإبْلاغِ، وكُنْتُمْ مَحْجُوبِينَ، كَأنَّهُ يَقُولُ: أنْتُمُ الَّذِينَ أصْرَرْتُمْ عَلى التَّكْذِيبِ.
الثّانِي: ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أبْلَغْتُكم ما أُرْسِلْتُ بِهِ إلَيْكُمْ﴾ .
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ويَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ يَعْنِي يَخْلُقُ بَعْدَكم مَن هو أطْوَعُ لِلَّهِ مِنكم، وهَذا إشارَةٌ إلى نُزُولِ عَذابِ الِاسْتِئْصالِ ﴿ولا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا﴾، يَعْنِي أنَّ إهْلاكَكم لا يُنْقِصُ مِن مُلْكِهِ شَيْئًا.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ وفِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ:
الأوَّلُ: حَفِيظٌ لِأعْمالِ العِبادِ حَتّى يُجازِيَهم (p-١٣)عَلَيْها.
الثّانِي: يَحْفَظُنِي مِن شَرِّكم ومَكْرِكم.
الثّالِثُ: حَفِيظٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ يَحْفَظُهُ مِنَ الهَلاكِ إذا شاءَ ويُهْلِكُهُ إذا شاءَ.
﴿ولَمّا جاءَ أمْرُنا نَجَّيْنا هُودًا والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا ونَجَّيْناهم مِن عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ ﴿وتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وعَصَوْا رُسُلَهُ واتَّبَعُوا أمْرَ كُلِّ جَبّارٍ عَنِيدٍ﴾ ﴿وأُتْبِعُوا في هَذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ويَوْمَ القِيامَةِ ألا إنَّ عادًا كَفَرُوا رَبَّهم ألا بُعْدًا لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولَمّا جاءَ أمْرُنا﴾ أيْ عَذابُنا، وذَلِكَ هو ما نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الرِّيحِ العَقِيمِ، عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِها سَبْعَ لَيالٍ وثَمانِيَةَ أيّامٍ، تَدْخُلُ في مَناخِرِهِمْ وتَخْرُجُ مِن أدْبارِهِمْ، وتَصْرَعُهم عَلى الأرْضِ عَلى وُجُوهِهِمْ، حَتّى صارُوا كَأعْجازِ نَخْلٍ خاوِيَةٍ.
فَإنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الرِّيحُ كَيْفَ تُؤَثِّرُ في إهْلاكِهِمْ ؟
قُلْنا: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ حَرِّها، أوْ لِشِدَّةِ بَرْدِها، أوْ لِشَدِّهِ قُوَّتِها، فَتَخْطَفُ الحَيَوانَ مِنَ الأرْضِ، ثُمَّ تَضْرِبُهُ عَلى الأرْضِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿نَجَّيْنا هُودًا﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ يَجُوزُ إتْيانُ البَلِيَّةِ عَلى المُؤْمِنِ وعَلى الكافِرِ مَعًا، وحِينَئِذٍ تَكُونُ تِلْكَ البَلِيَّةُ رَحْمَةً عَلى المُؤْمِنِ وعَذابًا عَلى الكافِرِ، فَأمّا العَذابُ النّازِلُ بِمَن يُكَذِّبُ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَإنَّهُ يَجِبُ في حِكْمَةِ اللَّهِ تَعالى أنْ يُنَجِّيَ المُؤْمِنَ مِنهُ، ولَوْلا ذَلِكَ لَما عُرِفَ كَوْنُهُ عَذابًا عَلى كُفْرِهِمْ؛ فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ اللَّهُ تَعالى هَهُنا: ﴿نَجَّيْنا هُودًا والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ .
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿بِرَحْمَةٍ مِنّا﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أرادَ أنَّهُ لا يَنْجُو أحَدٌ وإنِ اجْتَهَدَ في الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ إلّا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ.
والثّانِي: المُرادُ مِنَ الرَّحْمَةِ: ما هَداهم إلَيْهِ مِنَ الإيمانِ بِاللَّهِ والعَمَلِ الصّالِحِ.
الثّالِثُ: أنَّهُ رَحِمَهم في ذَلِكَ الوَقْتِ، ومَيَّزَهم عَنِ الكافِرِينَ في العِقابِ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿ونَجَّيْناهم مِن عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ فالمُرادُ مِنَ النَّجاةِ الأُولى هي النَّجاةُ مِن عَذابِ الدُّنْيا، والنَّجاةُ الثّانِيَةِ مِن عَذابِ القِيامَةِ، وإنَّما وصَفَهُ بِكَوْنِهِ غَلِيظًا تَنْبِيهًا عَلى أنَّ العَذابَ الَّذِي حَصَلَ لَهم بَعْدَ مَوْتِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلى العَذابِ الَّذِي وقَعُوا فِيهِ كانَ عَذابًا غَلِيظًا، والمُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونَجَّيْناهُمْ﴾ أيْ حَكَمْنا بِأنَّهم لا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ العَذابَ الغَلِيظَ ولا يَقَعُونَ فِيهِ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ قِصَّةَ عادٍ خاطَبَ قَوْمَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقالَ: ﴿وتِلْكَ عادٌ﴾ فَهو إشارَةٌ إلى قُبُورِهِمْ وآثارِهِمْ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: سِيرُوا في الأرْضِ فانْظُرُوا إلَيْها واعْتَبِرُوا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى جَمَعَ أوْصافَهم، ثُمَّ ذَكَرَ عاقِبَةَ أحْوالِهِمْ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَأمّا أوْصافُهم فَهي ثَلاثَةٌ:
الصِّفَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ﴾ والمُرادُ: جَحَدُوا دَلالَةَ المُعْجِزاتِ عَلى الصِّدْقِ، أوِ الجَحَدِ، ودَلالَةَ المُحْدَثاتِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ الحَكِيمِ، إنْ ثَبَتَ أنَّهم كانُوا زَنادِقَةً.
الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وعَصَوْا رُسُلَهُ﴾ والسَّبَبُ فِيهِ أنَّهم إذا عَصَوْا رَسُولًا واحِدًا فَقَدْ عَصَوْا جَمِيعَ الرُّسُلِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٨٥ ] وقِيلَ: لَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِمْ إلّا هُودٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - .
الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿واتَّبَعُوا أمْرَ كُلِّ جَبّارٍ عَنِيدٍ﴾ والمَعْنى أنَّ السَّفَلَةَ كانُوا يُقَلِّدُونَ الرُّؤَساءَ في قَوْلِهِمْ: (p-١٤)﴿ما هَذا إلّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٢٤ ] والمُرادُ مِنَ الجَبّارِ المُرْتَفِعُ المُتَمَرِّدُ العَنِيدُ العَنُودُ والمُعانِدُ، وهو المُنازِعُ المَعارِضُ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أوْصافَهم ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أحْوالَهم، فَقالَ: ﴿وأُتْبِعُوا في هَذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ويَوْمَ القِيامَةِ﴾ أيْ جُعِلَ اللَّعْنُ رَدِيفًا لَهم، ومُتابِعًا ومُصاحِبًا في الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ، ومَعْنى اللَّعْنَةِ: الإبْعادُ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى، ومِن كُلِّ خَيْرٍ.
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ السَّبَبَ الأصْلِيَّ في نُزُولِ هَذِهِ الأحْوالِ المَكْرُوهَةِ بِهِمْ فَقالَ: ﴿ألا إنَّ عادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾ قِيلَ: أرادَ: كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ فَحُذِفَ الباءُ، وقِيلَ: الكُفْرُ هو الجَحْدُ، فالتَّقْدِيرُ: ألا إنَّ عادًا جَحَدُوا رَبَّهم، وقِيلَ: هو مِن بابِ حَذْفِ المُضافِ، أيْ كَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ألا بُعْدًا لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ وفِيهِ سُؤالانِ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: اللَّعْنُ هو البُعْدُ، فَلَمّا قالَ: ﴿وأُتْبِعُوا في هَذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ويَوْمَ القِيامَةِ﴾ فَما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ: ﴿ألا بُعْدًا لِعادٍ﴾ ؟
والجَوابُ: التَّكْرِيرُ بِعِبارَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ يَدُلُّ عَلى غايَةِ التَّأْكِيدِ.
السُّؤالُ الثّانِي: ما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ: ﴿لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ ؟
الجَوابُ: كانَ عادٌ عادَيْنَ، فالأُولى: القَدِيمَةُ هم قَوْمُ هُودٍ، والثّانِيَةُ: هم إرَمُ ذاتُ العِمادِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِإزالَةِ الِاشْتِباهِ. والثّانِي: أنَّ المُبالَغَةَ في التَّنْصِيصِ تَدُلُّ عَلى مَزِيدِ التَّأْكِيدِ.
{"ayah":"وَأُتۡبِعُوا۟ فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا لَعۡنَةࣰ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۗ أَلَاۤ إِنَّ عَادࣰا كَفَرُوا۟ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدࣰا لِّعَادࣲ قَوۡمِ هُودࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











