الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإلى عادٍ أخاهم هُودًا قالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ إنْ أنْتُمْ إلّا مُفْتَرُونَ﴾ ﴿ياقَوْمِ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى الَّذِي فَطَرَنِي أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ هَذا هو القِصَّةُ الثّانِيَةُ مِنَ القَصَصِ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ، واعْلَمْ أنَّ هَذا (p-٩)مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا﴾ [هُودٍ: ٢٥ ] والتَّقْدِيرُ: ولَقَدْ أرْسَلْنا إلى عادٍ أخاهم هُودًا، وقَوْلُهُ: (هُودًا) عَطْفُ بَيانٍ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى وصَفَ هُودًا بِأنَّهُ أخُوهم، ومَعْلُومٌ أنَّ تِلْكَ الأُخُوَّةَ ما كانَتْ في الدِّينِ، وإنَّما كانَتْ في النَّسَبِ؛ لِأنَّ هُودًا كانَ رَجُلًا مِن قَبِيلَةِ عادٍ، وهَذِهِ القَبِيلَةُ كانَتْ قَبِيلَةً مِنَ العَرَبِ، وكانُوا بِناحِيَةِ اليَمَنِ، ونَظِيرُهُ ما يُقالُ لِلرَّجُلِ: يا أخا تَمِيمٍ، ويا أخا سُلَيْمٍ، والمُرادُ: رَجُلٌ مِنهم. فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ تَعالى قالَ في ابْنِ نُوحٍ: ﴿إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ فَبَيَّنَ أنَّ قَرابَةَ النِّسَبِ لا تُفِيدُ إذا لَمْ تَحْصُلْ قَرابَةُ الدِّينِ، وهَهُنا أثْبَتَ هَذِهِ الأُخُوَّةَ مَعَ الِاخْتِلافِ في الدِّينِ، فَما الفَرْقُ بَيْنَهُما ؟ قُلْنا: المُرادُ مِن هَذا الكَلامِ اسْتِمالَةُ قَوْمِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ لِأنَّ قَوْمَهُ كانُوا يَسْتَبْعِدُونَ في مُحَمَّدٍ - مَعَ أنَّهُ واحِدٌ مِن قَبِيلَتِهِمْ - أنْ يَكُونَ رَسُولًا إلَيْهِمْ مِن عِنْدِ اللَّهِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّ هُودًا كانَ واحِدًا مِن عادٍ، وأنَّ صالِحًا كانَ واحِدًا مِن ثَمُودَ؛ لِإزالَةِ هَذا الِاسْتِبْعادِ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ دَعا قَوْمَهُ إلى أنْواعٍ مِنَ التَّكالِيفِ: فالنَّوْعُ الأوَّلُ: أنَّهُ دَعاهم إلى التَّوْحِيدِ، فَقالَ: ﴿ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ إنْ أنْتُمْ إلّا مُفْتَرُونَ﴾ وفِيهِ سُؤالٌ، وهو أنَّهُ كَيْفَ دَعاهم إلى عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى قَبْلَ أنْ أقامَ الدَّلالَةَ عَلى ثُبُوتِ الإلَهِ تَعالى ؟ قُلْنا: دَلائِلُ وُجُودِ اللَّهِ تَعالى ظاهِرَةٌ، وهي دَلائِلُ الآفاقِ والأنْفُسِ، وقَلَّما تُوجَدُ في الدُّنْيا طائِفَةٌ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الإلَهِ تَعالى؛ ولِذَلِكَ قالَ تَعالى في صِفَةِ الكُفّارِ: ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لُقْمانَ: ٢٥ ] . قالَ مُصَنِّفُ هَذا الكِتابِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرّازِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ وخَتَمَ لَهُ بِالحُسْنى -: دَخَلْتُ بِلادَ الهِنْدِ، فَرَأيْتُ أُولَئِكَ الكُفّارَ مُطْبِقِينَ عَلى الِاعْتِرافِ بِوُجُودِ الإلَهِ، وأكْثَرُ بِلادِ التُّرْكِ أيْضًا كَذَلِكَ، وإنَّما الشَّأْنُ في عِبادَةِ الأوْثانِ، فَإنَّها آفَةٌ عَمَّتْ أكْثَرَ أطْرافِ الأرْضِ، وهَكَذا الأمْرُ كانَ في الزَّمانِ القَدِيمِ - أعْنِي زَمانَ نُوحٍ وهُودٍ وصالِحٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ - فَهَؤُلاءِ الأنْبِياءُ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ كانُوا يَمْنَعُونَهم مِن عِبادَةِ الأصْنامِ، فَكانَ قَوْلُ: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ مَعْناهُ: لا تَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ قالَ عَقِيبَهُ: ﴿ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الكَلامِ مَنعُهم عَنِ الِاشْتِغالِ بِعِبادَةِ الأصْنامِ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ فَقُرِئَ (غَيْرُهُ) بِالرَّفْعِ صِفَةً عَلى مَحَلِّ الجارِّ والمَجْرُورِ، وقُرِئَ بِالجَرِّ صِفَةً عَلى اللَّفْظِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿إنْ أنْتُمْ إلّا مُفْتَرُونَ﴾ يَعْنِي أنَّكم كاذِبُونَ في قَوْلِكم: إنَّ هَذِهِ الأصْنامَ تَحْسُنُ عِبادَتُها، أوْ في قَوْلِكم: إنَّها تَسْتَحِقُّ العِبادَةَ، وكَيْفَ لا يَكُونُ هَذا كَذِبًا وافْتِراءً وهي جَماداتٌ لا حِسَّ لَها ولا إدْراكَ، والإنْسانُ هو الَّذِي رَكَّبَها وصَوَّرَها، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالإنْسانِ الَّذِي صَنَعَها أنْ يَعْبُدَها، وأنْ يَضَعَ الجَبْهَةَ عَلى التُّرابِ تَعْظِيمًا لَها! ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمّا أرْشَدَهم إلى التَّوْحِيدِ ومَنَعَهم عَنْ عِبادَةِ الأوْثانِ قالَ: ﴿ياقَوْمِ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى الَّذِي فَطَرَنِي﴾ وهو عَيْنُ ما ذَكَرَهُ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ وذَلِكَ لِأنَّ الدَّعْوَةَ إلى اللَّهِ تَعالى إذا كانَتْ مُطَهَّرَةً عَنْ دَنَسِ الطَّمَعِ، قَوِيَ تَأْثِيرُها في القَلْبِ. (p-١٠)ثُمَّ قالَ ﴿أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ يَعْنِي أفَلا تَعْقِلُونَ أنِّي مُصِيبٌ في المَنعِ مِن عِبادَةِ الأصْنامِ ؟ وذَلِكَ لِأنَّ العِلْمَ بِصِحَّةِ هَذا المَنعِ، كَأنَّهُ مَرْكُوزٌ في بَدائِهِ العُقُولِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب