الباحث القرآني

(p-٨)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تِلْكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيها إلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أنْتَ ولا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذا فاصْبِرْ إنَّ العاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا شَرَحَ قِصَّةَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى التَّفْصِيلِ قالَ: (تِلْكَ) أيْ تِلْكَ الآياتُ الَّتِي ذَكَرْناها، وتِلْكَ التَّفاصِيلُ الَّتِي شَرَحْناها، مِن أنْباءِ الغَيْبِ، أيْ مِنَ الأخْبارِ الَّتِي كانَتْ غائِبَةً عَنِ الخَلْقِ، فَقَوْلُهُ: (تِلْكَ) في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، و﴿مِن أنْباءِ الغَيْبِ﴾ الخَبَرُ، و﴿نُوحِيها إلَيْكَ﴾ خَبَرٌ ثانٍ، وما بَعْدَهُ أيْضًا خَبَرٌ ثالِثٌ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ما كُنْتَ تَعْلَمُها أنْتَ ولا قَوْمُكَ﴾ والمَعْنى: إنَّكَ ما كُنْتَ تَعْرِفُ هَذِهِ القِصَّةَ، بَلْ قَوْمُكَ ما كانُوا يَعْرِفُونَها أيْضًا، ونَظِيرُهُ أنْ تَقُولَ لِإنْسانٍ: لا تَعْرِفُ هَذِهِ المَسْألَةَ، لا أنْتَ ولا أهْلُ بَلَدِكَ. فَإنْ قِيلَ: ألَيْسَ قَدْ كانَتْ قِصَّةُ طُوفانِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَشْهُورَةً عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ ؟ قُلْنا: تِلْكَ القِصَّةُ بِحَسْبِ الإجْمالِ كانَتْ مَشْهُورَةً، أمّا التَّفاصِيلُ المَذْكُورَةُ فَما كانَتْ مَعْلُومَةً. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿فاصْبِرْ إنَّ العاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ والمَعْنى: يا مُحَمَّدُ اصْبِرْ أنْتَ وقَوْمُكَ عَلى أذى هَؤُلاءِ الكُفّارِ كَما صَبَرَ نُوحٌ وقَوْمُهُ عَلى أذى أُولَئِكَ الكُفّارِ، وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الصَّبْرَ عاقِبَتُهُ النَّصْرُ والظَّفَرُ والفَرَحُ والسُّرُورُ، كَما كانَ لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ولِقَوْمِهِ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذِهِ القِصَّةَ في سُورَةِ يُونُسَ، ثُمَّ إنَّهُ أعادَها هَهُنا مَرَّةً أُخْرى، فَما الفائِدَةُ في هَذا التَّكْرِيرِ ؟ قُلْنا: إنَّ القِصَّةَ الواحِدَةَ قَدْ يُنْتَفَعُ بِها مِن وُجُوهٍ: فَفي السُّورَةِ الأُولى كانَ الكُفّارُ يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَ العَذابِ، فَذَكَرَ تَعالى قِصَّةَ نُوحٍ في بَيانِ أنَّ قَوْمَهُ كانُوا يُكَذِّبُونَهُ بِسَبَبِ أنَّ العَذابَ ما كانَ يَظْهَرُ، ثُمَّ في العاقِبَةِ ظَهَرَ، فَكَذا في واقِعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وفي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ هَذِهِ القِصَّةَ لِأجْلِ أنَّ الكُفّارَ كانُوا يُبالِغُونَ في الإيحاشِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ القِصَّةَ لِبَيانِ أنَّ إقْدامَ الكُفّارِ عَلى الإيذاءِ والإيحاشِ كانَ حاصِلًا في زَمانِ نُوحٍ، إلّا أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا صَبَرَ نالَ الفَتْحَ والظَّفَرَ، فَكُنْ يا مُحَمَّدُ كَذَلِكَ؛ لِتَنالَ المَقْصُودَ. ولَمّا كانَ وجْهُ الِانْتِفاعِ بِهَذِهِ القِصَّةِ في كُلِّ سُورَةٍ مِن وجْهٍ آخَرَ، لَمْ يَكُنْ تَكْرِيرُها خالِيًا عَنِ الفائِدَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب