الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ ما نَراكَ إلّا بَشَرًا مِثْلَنا وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هم أراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وما نَرى لَكم عَلَيْنا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكم كاذِبِينَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ دَعا قَوْمَهُ إلى عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم طَعَنُوا في نُبُوَّتِهِ بِثَلاثَةِ أنْواعٍ مِنَ الشُّبُهاتِ.
فالشُّبْهَةُ الأُولى: أنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهم، والتَّفاوُتُ الحاصِلُ بَيْنَ آحادِ البَشَرِ يَمْتَنِعُ انْتِهاؤُهُ إلى حَيْثُ يَصِيرُ الواحِدُ مِنهم واجِبُهُ الطّاعَةُ لِجَمِيعِ العالَمِينَ.
والشُّبْهَةُ الثّانِيَةُ: كَوْنُهُ ما اتَّبَعَهُ إلّا أراذِلُ مِنَ القَوْمِ كالحِياكَةِ وأهْلِ الصَّنائِعِ الخَسِيسَةِ، قالُوا: ولَوْ كُنْتَ صادِقًا لاتَّبَعَكَ الأكْياسُ مِنَ النّاسِ والأشْرافُ مِنهم، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ الشُّعَراءِ: ﴿أنُؤْمِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾ [الشُّعَراءِ: ١١١] .
والشُّبْهَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما نَرى لَكم عَلَيْنا مِن فَضْلٍ﴾ والمَعْنى: لا نَرى لَكم عَلَيْنا مِن فَضْلٍ لا في العَقْلِ ولا في رِعايَةِ المَصالِحِ العاجِلَةِ ولا في قُوَّةِ الجَدَلِ، فَإذا لَمْ نُشاهِدْ فَضْلَكَ عَلَيْنا في شَيْءٍ مِن هَذِهِ الأحْوالِ الظّاهِرَةِ فَكَيْفَ نَعْتَرِفُ بِفَضْلِكَ عَلَيْنا في أشْرَفِ الدَّرَجاتِ وأعْلى المَقاماتِ ؟ فَهَذا خُلاصَةُ الكَلامِ في تَقْرِيرِ هَذِهِ الشُّبُهاتِ.
واعْلَمْ أنَّ الشُّبْهَةَ الأُولى لا تَلِيقُ إلّا بِالبَراهِمَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ البَشَرِ عَلى الإطْلاقِ، أمّا الشُّبْهَتانِ الباقِيَتانِ فَيُمْكِنُ أنْ يَتَمَسَّكَ بِهِما مَن أقَرَّ بِنُبُوَّةِ سائِرِ الأنْبِياءِ. وفي لَفْظِ الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: المَلَأُ الأشْرافُ، وفي اشْتِقاقِهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهُ مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ: مَلِيءٌ بِكَذا إذا كانَ مُطْبِقًا لَهُ، وقَدْ مُلْئِوا بِالأمْرِ، والسَّبَبُ في إطْلاقِ هَذا اللَّفْظِ عَلَيْهِمْ أنَّهم مُلِئُوا بِتَرْتِيبِ المُهِمّاتِ وأحْسَنُوا في تَدْبِيرِها.
الثّانِي: أنَّهم وُصِفُوا بِذَلِكَ لِأنَّهم يَتَمالَئُونَ أيْ يَتَظاهَرُونَ عَلَيْهِ.
الثّالِثُ: وُصِفُوا بِذَلِكَ لِأنَّهم يَمْلَئُونَ القُلُوبَ هَيْبَةً والمَجالِسَ أُبَّهَةً.
الرّابِعُ: وُصِفُوا بِهِ لِأنَّهم مَلَئُوا العُقُولَ الرّاجِحَةَ والآراءَ الصّائِبَةَ.
ثُمَّ حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْهُمُ الشُّبْهَةَ الأُولى، وهي قَوْلُهم: ﴿ما نَراكَ إلّا بَشَرًا مِثْلَنا﴾ وهو مِثْلُ ما حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْ بَعْضِ العَرَبِ أنَّهم قالُوا: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ [الأنْعامِ: ٨] وهَذا جَهْلٌ؛ لِأنَّ مِن حَقِّ الرَّسُولِ أنْ يُباشِرَ الأُمَّةَ بِالدَّلِيلِ والبُرْهانِ والتَّثَبُّتِ والحُجَّةِ، لا بِالصُّورَةِ والخِلْقَةِ، بَلْ نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لَوْ بَعَثَ إلى البَشَرِ مَلَكًا لَكانَتِ الشُّبْهَةُ أقْوى في الطَّعْنِ عَلَيْهِ في رِسالَتِهِ لِأنَّهُ يَخْطُرُ بِالبالِ أنَّ هَذِهِ المُعْجِزاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ لَعَلَّ هَذا المَلَكَ هو الَّذِي أتى بِها مِن عِنْدِ نَفْسِهِ بِسَبَبِ أنَّ قُوَّتَهُ أكْمَلُ وقُدْرَتَهُ أقْوى، فَلِهَذِهِ الحِكْمَةِ ما بَعَثَ اللَّهُ إلى البَشَرِ رَسُولًا إلّا مِنَ البَشَرِ.
(p-١٧٠)ثُمَّ حَكى الشُّبْهَةَ الثّانِيَةَ وهي قَوْلُهُ: ﴿وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هم أراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ﴾ والمُرادُ مِنهُ قِلَّةُ مالِهِمْ وقِلَّةُ جاهِهِمْ ودَناءَةُ حِرَفِهِمْ وصِناعَتِهِمْ. وهَذا أيْضًا جَهْلٌ؛ لِأنَّ الرِّفْعَةَ في الدِّينِ لا تَكُونُ بِالحَسَبِ والمالِ والمَناصِبِ العالِيَةِ، بَلِ الفَقْرُ أهْوَنُ عَلى الدِّينِ مِنَ الغِنى، بَلْ نَقُولُ: الأنْبِياءُ ما بُعِثُوا إلّا لِتَرْكِ الدُّنْيا والإقْبالِ عَلى الآخِرَةِ، فَكَيْفَ تُجْعَلُ قِلَّةُ المالِ في الدُّنْيا طَعْنًا في النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ.
ثُمَّ حَكى اللَّهُ تَعالى الشُّبْهَةَ الثّالِثَةَ، وهي قَوْلُهُ: ﴿وما نَرى لَكم عَلَيْنا مِن فَضْلٍ﴾ وهَذا أيْضًا جَهْلٌ؛ لِأنَّ الفَضِيلَةَ المُعْتَبَرَةَ عِنْدَ اللَّهِ لَيْسَتْ إلّا بِالعِلْمِ والعَمَلِ، فَكَيْفَ اطَّلَعُوا عَلى بَواطِنِ الخَلْقِ حَتّى عَرَفُوا نَفْيَ هَذِهِ الفَضِيلَةِ، ثُمَّ قالُوا بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الشُّبُهاتِ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ ومَنِ اتَّبَعَهُ: ﴿بَلْ نَظُنُّكم كاذِبِينَ﴾ وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ هَذا خِطابًا مَعَ نُوحٍ ومَعَ قَوْمِهِ، والمُرادُ مِنهُ تَكْذِيبُ نُوحٍ في دَعْوى الرِّسالَةِ.
والثّانِي: أنْ يَكُونَ هَذا خِطابًا مَعَ الأراذِلِ فَنَسَبُوهم إلى أنَّهم كَذَبُوا في أنْ آمَنُوا بِهِ واتَّبَعُوهُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: الأرْذَلُ جَمْعُ رَذْلٍ، وهو الدُّونُ مِن كُلِّ شَيْءٍ في مَنظَرِهِ وحالاتِهِ، ورَجُلٌ رَذْلُ الثِّيابِ والفِعْلِ. والأراذِلُ جَمْعُ الأرْذَلِ، كَقَوْلِهِمْ: أكابِرُ مُجْرِمِيها، وقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أحاسِنُكم أخْلاقًا» “، فَعَلى هَذا الأراذِلُ جَمْعُ الجَمْعِ، وقالَ بَعْضُهم: الأصْلُ فِيهِ أنْ يُقالَ: هو أرْذَلُ مِن كَذا ثُمَّ كَثُرَ حَتّى قالُوا: هو الأرْذَلُ، فَصارَتِ الألِفُ واللّامُ عِوَضًا عَنِ الإضافَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿بادِيَ الرَّأْيِ﴾ البادِي هو الظّاهِرُ مِن قَوْلِكَ: بَدا الشَّيْءُ إذا ظَهَرَ، ومِنهُ يُقالُ: بادِيَةٌ لِظُهُورِها وبُرُوزِها لِلنّاظِرِ، واخْتَلَفُوا في بادِيَ الرَّأْيِ وذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:
الأوَّلُ: اتَّبَعُوكَ في الظّاهِرِ وباطِنُهم بِخِلافِهِ.
والثّانِي: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ اتَّبَعُوكَ في ابْتِداءِ حُدُوثِ الرَّأْيِ وما احْتاطُوا في ذَلِكَ الرَّأْيِ وما أعْطَوْهُ حَقَّهُ مِنَ الفِكْرِ الصّائِبِ والتَّدَبُّرِ الوافِي.
الثّالِثُ: أنَّهم لَمّا وصَفُوا القَوْمَ بِالرَّذالَةِ قالُوا: كَوْنُهم كَذَلِكَ بادِيَ الرَّأْيِ أمْرٌ ظاهِرٌ لِكُلِّ مَن يَراهم، والرَّأْيُ عَلى هَذا المَعْنى مِن رَأْيِ العَيْنِ لا مِن رَأْيِ القَلْبِ، ويَتَأكَّدُ هَذا التَّأْوِيلُ بِما نُقِلَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ: ”إلّا الَّذِينَ هم أراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ العَيْنِ“ .
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ أبُو عَمْرٍو ونُصَيْرٌ عَنِ الكِسائِيِّ ”بادِئَ“ بِالهَمْزَةِ والباقُونَ بِالياءِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ، فَمَن قَرَأ: ”بادِئَ“ بِالهَمْزَةِ فالمَعْنى أوَّلُ الرَّأْيِ وابْتِداؤُهُ، ومَن قَرَأ بِالياءِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ كانَ مِن بَدا يَبْدُو أيْ ظَهَرَ. و﴿بادِيَ﴾ نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ أوَّلَ الضَّرْبِ.
{"ayah":"فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرࣰا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِینَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِیَ ٱلرَّأۡیِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَیۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَـٰذِبِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق