الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ويَقُولُ الأشْهادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ويَبْغُونَها عِوَجًا وهم بِالآخِرَةِ هم كافِرُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّ الكُفّارَ كانَتْ لَهم عاداتٌ كَثِيرَةٌ وطُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنها شِدَّةُ حِرْصِهِمْ عَلى الدُّنْيا ورَغْبَتُهم في تَحْصِيلِها، وقَدْ أبْطَلَ اللَّهُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، ومِنها أنَّهم كانُوا يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ الرَّسُولِ ﷺ، ويَقْدَحُونَ في مُعْجِزاتِهِ، وقَدْ أبْطَلَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ﴾، ومِنها أنَّهم كانُوا يَزْعُمُونَ في الأصْنامِ أنَّها شُفَعاؤُهم عِنْدَ اللَّهِ، وقَدْ أبْطَلَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ هَذا الكَلامَ افْتِراءٌ عَلى اللَّهِ تَعالى، فَلَمّا بَيَّنَ وعِيدَ المُفْتَرِينَ عَلى اللَّهِ، فَقَدْ دَخَلَ فِيهِ هَذا الكَلامُ.
واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ إنَّما يُورَدُ في مَعْرِضِ المُبالَغَةِ. وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الِافْتِراءَ عَلى اللَّهِ تَعالى أعْظَمُ أنْواعِ الظُّلْمِ.
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ وعِيدَ هَؤُلاءِ بِقَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ﴾ وما وصَفَهم بِذَلِكَ لِأنَّهم مُخْتَصُّونَ بِذَلِكَ العَرْضِ؛ لِأنَّ العَرْضَ عامٌّ في كُلِّ العِبادِ كَما قالَ: ﴿وعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا﴾ [الكَهْفِ: ٤٨] وإنَّما أرادَ بِهِ أنَّهم يُعْرَضُونَ فَيُفْتَضَحُونَ بِأنْ يَقُولَ الأشْهادُ عِنْدَ عَرْضِهِمْ: ﴿هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ﴾ فَحَصَلَ لَهم مِنَ الخِزْيِ والنَّكالِ ما لا مَزِيدَ عَلَيْهِ. وفِيهِ سُؤالاتٌ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: إذا لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى في مَكانٍ، فَكَيْفَ قالَ: ﴿يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ﴾ ؟ والجَوابُ: أنَّهم يُعْرَضُونَ عَلى الأماكِنِ المُعَدَّةِ لِلْحِسابِ والسُّؤالِ، ويَجُوزُ أيْضًا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَرْضًا عَلى مَن شاءَ اللَّهُ مِنَ الخَلْقِ بِأمْرِ اللَّهِ مِنَ المَلائِكَةِ والأنْبِياءِ والمُؤْمِنِينَ.
السُّؤالُ الثّانِي: مَنِ الأشْهادُ الَّذِينَ أُضِيفَ إلَيْهِمْ هَذا القَوْلُ ؟
الجَوابُ: قالَ مُجاهِدٌ: هُمُ المَلائِكَةُ الَّذِينَ كانُوا يَحْفَظُونَ أعْمالَهم عَلَيْهِمْ في الدُّنْيا. وقالَ قَتادَةُ ومُقاتِلٌ: الأشْهادُ: النّاسُ، كَما يُقالُ: عَلى رُءُوسِ الأشْهادِ، يَعْنِي عَلى رُءُوسِ النّاسِ. وقالَ الآخَرُونَ: هُمُ الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ ولَنَسْألَنَّ المُرْسَلِينَ﴾ [الأعْرافِ: ٦] والفائِدَةُ في اعْتِبارِ قَوْلِ الأشْهادِ المُبالَغَةُ في إظْهارِ الفَضِيحَةِ.
السُّؤالُ الثّالِثُ: الأشْهادُ جَمْعٌ فَما واحِدُهُ ؟
والجَوابُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ شاهِدٍ، مِثْلُ: صاحِبٍ وأصْحابٍ، وناصِرٍ وأنْصارٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ شَهِيدٍ، مِثْلُ شَرِيفٍ وأشْرافٍ. قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: وهَذا كَأنَّهُ أرْجَحُ؛ لِأنَّ ما جاءَ مِن ذَلِكَ في التَّنْزِيلِ جاءَ (p-١٦٤)عَلى فَعِيلٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا﴾ [البَقَرَةِ: ١٤٣] . ﴿وجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النِّساءِ: ٤١] ثُمَّ لَمّا أخْبَرَ عَنْ حالِهِمْ في عَذابِ القِيامَةِ أخْبَرَ عَنْ حالِهِمْ في الحالِ فَقالَ: ﴿ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ﴾، وبَيَّنَ أنَّهم في الحالِ لَمَلْعُونُونَ مِن عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِن صِفاتِهِمْ أنَّهم يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ويَبْغُونَها عِوَجًا، يَعْنِي أنَّهم كَما ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِالتِزامِ الكُفْرِ والضَّلالِ، فَقَدْ أضافُوا إلَيْهِ المَنعَ مِنَ الدِّينِ الحَقِّ، وإلْقاءَ الشُّبُهاتِ، وتَعْوِيجَ الدَّلائِلِ المُسْتَقِيمَةِ؛ لِأنَّهُ لا يُقالُ في العاصِي: يَبْغِي عِوَجًا، وإنَّما يُقالُ ذَلِكَ فِيمَن يَعْرِفُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِقامَةِ وكَيْفِيَّةَ العِوَجِ بِسَبَبِ إلْقاءِ الشُّبُهاتِ وتَقْرِيرِ الضَّلالاتِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وهم بِالآخِرَةِ هم كافِرُونَ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: كَلِمَةُ ”هم“ كُرِّرَتْ عَلى جِهَةِ التَّوْكِيدِ لِثَباتِهِمْ في الكُفْرِ.
* * *
( أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ في الأرْضِ وما كانَ لَهم مِن دُونِ اللَّهِ مِن أوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وما كانُوا يُبْصِرُونَ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ ﴿لا جَرَمَ أنَّهم في الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ﴾
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ في الأرْضِ وما كانَ لَهم مِن دُونِ اللَّهِ مِن أوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وما كانُوا يُبْصِرُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ ﴿لا جَرَمَ أنَّهم في الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَ هَؤُلاءِ المُنْكِرِينَ الجاحِدِينَ بِصِفاتٍ كَثِيرَةٍ في مَعْرِضِ الذَّمِّ.
الصِّفَةُ الأُولى: كَوْنُهم مُفْتَرِينَ عَلى اللَّهِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ .
والصِّفَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهم يُعْرَضُونَ عَلى اللَّهِ في مَوْقِفِ الذُّلِّ والهَوانِ والخِزْيِ والنَّكالِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ﴾ .
والصِّفَةُ الثّالِثَةُ: حُصُولُ الخِزْيِ والنَّكالِ والفَضِيحَةِ العَظِيمَةِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿ويَقُولُ الأشْهادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ﴾ .
والصِّفَةُ الرّابِعَةُ: كَوْنُهم مَلْعُونِينَ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ﴾ .
والصِّفَةُ الخامِسَةُ: كَوْنُهم صادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مانِعِينَ عَنْ مُتابَعَةِ الحَقِّ، وهي قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ .
والصِّفَةُ السّادِسَةُ: سَعْيُهم في إلْقاءِ الشُّبُهاتِ، وتَعْوِيجِ الدَّلائِلِ المُسْتَقِيمَةِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿ويَبْغُونَها عِوَجًا﴾ .
والصِّفَةُ السّابِعَةُ: كَوْنُهم كافِرِينَ، وهي قَوْلُهُ: ﴿وهم بِالآخِرَةِ هم كافِرُونَ﴾ .
والصِّفَةُ الثّامِنَةُ: كَوْنُهم عاجِزِينَ عَنِ الفِرارِ مِن عَذابِ اللَّهِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي﴾ (p-١٦٥)﴿الأرْضِ﴾ قالَ الواحِدِيُّ: مَعْنى الإعْجازِ المَنعُ مِن تَحْصِيلِ المُرادِ. يُقالُ: أعْجَزَنِي فُلانٌ، أيْ: مَنَعَنِي عَنْ مُرادِي، ومَعْنى مُعْجِزِينَ في الأرْضِ أيْ: لا يُمْكِنُهم أنْ يَهْرُبُوا مِن عَذابِنا،؛ فَإنَّ هَرَبَ العَبْدِ مِن عَذابِ اللَّهِ مُحالٌ؛ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى قادِرٌ عَلى جَمِيعِ المُمْكِناتِ، ولا تَتَفاوَتُ قُدْرَتُهُ بِالبُعْدِ والقُرْبِ والقُوَّةِ والضَّعْفِ.
والصِّفَةُ التّاسِعَةُ: أنَّهم لَيْسَ لَهم أوْلِياءُ يَدْفَعُونَ عَذابَ اللَّهِ عَنْهم، والمُرادُ مِنهُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ في وصْفِهِمُ الأصْنامَ بِأنَّها شُفَعاؤُهم عِنْدَ اللَّهِ، والمَقْصُودُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ في الأرْضِ﴾ دَلَّ عَلى أنَّهم لا قُدْرَةَ لَهم عَلى الفِرارِ. وقَوْلُهُ: ﴿وما كانَ لَهم مِن دُونِ اللَّهِ مِن أوْلِياءَ﴾ هو أنَّ أحَدًا لا يَقْدِرُ عَلى تَخْلِيصِهِمْ مِن ذَلِكَ العَذابِ، فَجَمَعَ تَعالى بَيْنَ ما يَرْجِعُ إلَيْهِمْ وبَيْنَ ما يَرْجِعُ إلى غَيْرِهِمْ، وبَيَّنَ بِذَلِكَ انْقِطاعَ حِيَلِهِمْ في الخَلاصِ مِن عَذابِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقالَ قَوْمٌ: المُرادُ أنَّ عَدَمَ نُزُولِ العَذابِ لَيْسَ لِأجْلِ أنَّهم قَدَرُوا عَلى مَنعِ اللَّهِ مِن إنْزالِ العَذابِ ولا لِأجْلِ أنَّ لَهم ناصِرًا يَمْنَعُ ذَلِكَ العَذابَ عَنْهم، بَلْ إنَّما حَصَلَ ذَلِكَ الإمْهالُ؛ لِأنَّهُ تَعالى أمْهَلَهم كَيْ يَتُوبُوا فَيَزُولُوا عَنْ كُفْرِهِمْ، فَإذا أبَوْا إلّا الثَّباتَ عَلَيْهِ فَلا بُدَّ مِن مُضاعَفَةِ العَذابِ في الآخِرَةِ، وقالَ بَعْضُهم: بَلِ المُرادُ أنْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ لِلَّهِ عَمّا يُرِيدُ إنْزالَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ العَذابِ في الآخِرَةِ أوْ في الدُّنْيا، ولا يَجِدُونَ ولِيًّا يَنْصُرُهم ويَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْهم.
والصِّفَةُ العاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ﴾ قِيلَ: سَبَبُ تَضْعِيفِ العَذابِ في حَقِّهِمْ أنَّهم كَفَرُوا بِاللَّهِ وبِالبَعْثِ وبِالنُّشُورِ، فَكُفْرُهم بِالمَبْدَأِ والمَعادِ صارَ سَبَبًا لِتَضْعِيفِ العَذابِ، والأصْوَبُ أنْ يُقالَ: إنَّهم مَعَ ضَلالِهِمُ الشَّدِيدِ، سَعَوْا في الإضْلالِ ومَنعِ النّاسِ عَنِ الدِّينِ الحَقِّ، فَلِهَذا المَعْنى حَصَلَ هَذا التَّضْعِيفُ عَلَيْهِمْ.
الصِّفَةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: ﴿ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وما كانُوا يُبْصِرُونَ﴾ والمُرادُ ما هم عَلَيْهِ في الدُّنْيا مِن صَمَمِ القَلْبِ وعَمى النَّفْسِ، واحْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ تَعالى قَدْ يَخْلُقُ في المُكَلَّفِ ما يَمْنَعُهُ الإيمانَ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ: إنَّهُ تَعالى مَنَعَ الكافِرَ مِنَ الإيمانِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، أمّا في الدُّنْيا فَفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وما كانُوا يُبْصِرُونَ﴾، وأمّا في الآخِرَةِ فَهو قَوْلُهُ: ﴿ويُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القَلَمِ: ٤٢] وحاصِلُ الكَلامِ في هَذا الِاسْتِدْلالِ أنَّهُ تَعالى أخْبَرَ عَنْهم أنَّهم لا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، فَإمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهم ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعَ الأصْواتِ والحُرُوفِ، وإمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ كَوْنَهم عاجِزِينَ عَنِ الوُقُوفِ عَلى دَلائِلِ اللَّهِ تَعالى، والقَوْلُ الأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ البَدِيهَةَ دَلَّتْ عَلى أنَّهم كانُوا يَسْمَعُونَ الأصْواتَ والحُرُوفَ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى الثّانِي. أجابَ الجُبّائِيُّ عَنْهُ بِأنَّ السَّمْعَ إمّا أنْ يَكُونَ عِبارَةً عَنِ الحاسَّةِ المَخْصُوصَةِ، أوْ عَنْ مَعْنى يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعالى في صِماخِ الأُذُنِ، وكِلاهُما لا يَقْدِرُ العَبْدُ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ لَوِ اجْتَهَدَ في أنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ أوْ يَتْرُكَهُ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ، وإذا ثَبَتَ هَذا كانَ إثْباتُ الِاسْتِطاعَةِ فِيهِ مُحالًا، وإذا كانَ إثْباتُها مُحالًا كانَ نَفْيُ الِاسْتِطاعَةِ عَنْهُ هو الحَقَّ، فَثَبَتَ أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ لا يَقْدَحُ في قَوْلِنا. ثُمَّ قالَ: المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾ إهْمالُهم لَهُ ونُفُورُهم عَنْهُ، كَما يَقُولُ القائِلُ: هَذا كَلامٌ لا أسْتَطِيعُ أنْ أسْمَعَهُ، وهَذا مِمّا يَمُجُّهُ سَمْعِي. وذَكَرَ غَيْرُ الجُبّائِيِّ عُذْرًا آخَرَ، فَقالَ: إنَّهُ تَعالى نَفى أنْ يَكُونَ لَهم أوْلِياءُ، والمُرادُ الأصْنامُ، ثُمَّ بَيَّنَ نَفْيَ كَوْنِهِمْ أوْلِياءَ بِقَوْلِهِ: ﴿ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وما كانُوا يُبْصِرُونَ﴾ فَكَيْفَ يَصْلُحُونَ لِلْوِلايَةِ.
(p-١٦٦)والجَوابُ: أمّا حَمْلُ الآيَةِ عَلى أنَّهُ لا قُدْرَةَ لَهم عَلى خَلْقِ الحاسَّةِ وعَلى خَلْقِ المَعْنى فِيها فَباطِلٌ؛ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ ورَدَتْ في مَعْرِضِ الوَعِيدِ فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنًى مُخْتَصًّا بِهِمْ، والمَعْنى الَّذِي قالُوهُ حاصِلٌ في المَلائِكَةِ والأنْبِياءِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ.
وأمّا قَوْلُهُ: إنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلى أنَّهم كانُوا يَسْتَثْقِلُونَ سَماعَ كَلامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وإبْصارَ صُورَتِهِ، فالجَوابُ أنَّهُ تَعالى نَفى الِاسْتِطاعَةَ فَحَمَلَهُ عَلى مَعْنًى آخَرَ خِلافَ الظّاهِرِ، وأيْضًا أنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الِاسْتِثْقالِ إمّا أنْ يَمْنَعَ مِنَ الفَهْمِ والوُصُولِ إلى الغَرَضِ أوْ لَمْ يَمْنَعْ، فَإنْ مَنَعَ فَهو المَقْصُودُ، وإنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنهُ فَحِينَئِذٍ كانَ ذَلِكَ سَبَبًا أجْنَبِيًّا عَنِ المَعانِي المُعْتَبَرَةِ في الفَهْمِ والإدْراكِ، ولا تَخْتَلِفُ أحْوالُ القَلْبِ في العِلْمِ والمَعْرِفَةِ بِسَبَبِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُهُ ذَمًّا لَهم في هَذا المَعْرِضِ، وأيْضًا قَدْ بَيَّنّا مِرارًا كَثِيرَةً في هَذا الكِتابِ أنَّ حُصُولَ الفِعْلِ مَعَ قِيامِ الصّارِفِ مُحالٌ، فَلَمّا بَيَّنَ تَعالى كَوْنَ هَذا المَعْنى صارِفًا عَنْ قَبُولِ الدِّينِ الحَقِّ، وبَيَّنَ فِيهِ أنَّهُ حَصَلَ حُصُولًا عَلى سَبِيلِ اللُّزُومِ بِحَيْثُ لا يَزُولُ البَتَّةَ في ذَلِكَ الوَقْتِ، كانَ المُكَلَّفُ في ذَلِكَ الوَقْتِ مَمْنُوعًا عَنِ الإيمانِ، وحِينَئِذٍ يَحْصُلُ المَطْلُوبُ، وأمّا قَوْلُهُ فَإنّا نَجْعَلُ هَذِهِ الصِّفَةَ مِن صِفَةِ الأوْثانِ فَبَعِيدٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في هَذِهِ الآيَةِ المُتَأخِّرَةِ عائِدًا إلى عَيْنِ ما عادَ إلَيْهِ الضَّمِيرُ المَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ الأُولى.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وما كانُوا يُبْصِرُونَ﴾ فَقِيلَ: المُرادُ مِنهُ البَصِيرَةُ، وقِيلَ: المُرادُ مِنهُ أنَّهم عَدَلُوا عَنْ إبْصارِ ما يَكُونُ حُجَّةً لَهم.
الصِّفَةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ ومَعْناهُ أنَّهُمُ اشْتَرَوْا عِبادَةَ الآلِهَةِ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، فَكانَ هَذا الخُسْرانُ أعْظَمَ وُجُوهِ الخُسْرانِ.
الصِّفَةُ الثّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: ﴿وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ والمَعْنى أنَّهم لَمّا باعُوا الدِّينَ بِالدُّنْيا فَقَدْ خَسِرُوا؛ لِأنَّهم أعْطَوُا الشَّرِيفَ، ورَضُوا بِأخْذِ الخَسِيسِ، وهَذا عَيْنُ الخُسْرانِ في الدُّنْيا ثُمَّ في الآخِرَةِ، فَهَذا الخَسِيسُ يَضِيعُ ويَهْلَكُ ولا يَبْقى مِنهُ أثَرٌ، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ .
الصِّفَةُ الرّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: ﴿لا جَرَمَ أنَّهم في الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ﴾ وتَقْرِيرُهُ ما تَقَدَّمَ، وهو أنَّهُ لَمّا أعْطى الشَّرِيفَ الرَّفِيعَ ورَضِيَ بِالخَسِيسِ الوَضِيعِ فَقَدْ خَسِرَ في التِّجارَةِ. ثُمَّ لَمّا كانَ هَذا الخَسِيسُ بِحَيْثُ لا يَبْقى بَلْ لا بُدَّ وأنْ يَهْلَكَ ويَفْنى انْقَلَبَتْ تِلْكَ التِّجارَةُ إلى النِّهايَةِ في صِفَةِ الخَسارَةِ، فَلِهَذا قالَ: ﴿لا جَرَمَ أنَّهم في الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ﴾ . وقَوْلُهُ ﴿لا جَرَمَ﴾ قالَ الفَرّاءُ: إنَّها بِمَنزِلَةِ قَوْلِنا: لا بُدَّ ولا مَحالَةَ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمالُها حَتّى صارَتْ بِمَنزِلَةِ حَقًّا، تَقُولُ العَرَبُ: لا جَرَمَ أنَّكَ مُحْسِنٌ، عَلى مَعْنى حَقًّا إنَّكَ مُحْسِنٌ، وأمّا النَّحْوِيُّونَ فَلَهم فِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: ”لا“ حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ، أيْ قَطْعٍ، فَإذا قُلْنا: لا جَرَمَ مَعْناهُ أنَّهُ لا قَطْعَ قاطِعٍ عَنْهم أنَّهم في الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ.
الثّانِي: قالَ الزَّجّاجُ: إنَّ كَلِمَةَ ”لا“ نَفْيٌ لِما ظَنُّوا أنَّهُ يَنْفَعُهم، و”جَرَمَ“ مَعْناهُ كَسَبَ ذَلِكَ الفِعْلُ، والمَعْنى: لا يَنْفَعُهم ذَلِكَ وكَسَبَ ذَلِكَ الفِعْلُ لَهُمُ الخُسْرانَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وذَكَرْنا ”جَرَمَ“ بِمَعْنى كَسَبَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ [المائِدَةِ: ٢] قالَ الأزْهَرِيُّ: وهَذا مِن أحْسَنِ ما قِيلَ في هَذا البابِ.
الثّالِثُ: قالَ سِيبَوَيْهِ والأخْفَشُ: ”لا“ رَدٌّ عَلى أهْلِ الكُفْرِ كَما ذَكَرْنا، و”جَرَمَ“ مَعْناهُ حَقَّ وصَحَّ، والتَّأْوِيلُ أنَّهُ حَقُّ كُفْرِهِمْ وُقُوعُ العَذابِ والخُسْرانِ بِهِمْ. واحْتَجَّ سِيبَوَيْهِ بِقَوْلِ الشّاعِرِ:(p-١٦٧)
؎ولَقَدْ طَعَنْتُ أبا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً جَرَمَتْ فَزارَةَ بَعْدَها أنْ يَغْضَبُوا
أرادَ حَقَّتِ الطَّعْنَةُ فَزارَةَ أنْ يَغْضَبُوا.
{"ayahs_start":18,"ayahs":["وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یُعۡرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمۡ وَیَقُولُ ٱلۡأَشۡهَـٰدُ هَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ كَذَبُوا۟ عَلَىٰ رَبِّهِمۡۚ أَلَا لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِینَ","ٱلَّذِینَ یَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَیَبۡغُونَهَا عِوَجࣰا وَهُم بِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ كَـٰفِرُونَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَمۡ یَكُونُوا۟ مُعۡجِزِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِیَاۤءَۘ یُضَـٰعَفُ لَهُمُ ٱلۡعَذَابُۚ مَا كَانُوا۟ یَسۡتَطِیعُونَ ٱلسَّمۡعَ وَمَا كَانُوا۟ یُبۡصِرُونَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ خَسِرُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُوا۟ یَفۡتَرُونَ","لَا جَرَمَ أَنَّهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ"],"ayah":"أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَمۡ یَكُونُوا۟ مُعۡجِزِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِیَاۤءَۘ یُضَـٰعَفُ لَهُمُ ٱلۡعَذَابُۚ مَا كَانُوا۟ یَسۡتَطِیعُونَ ٱلسَّمۡعَ وَمَا كَانُوا۟ یُبۡصِرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق