الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ إنَّنِي لَكم مِنهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ﴾ ﴿وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكم مَتاعًا حَسَنًا إلى أجَلٍ مُسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وإنْ تَوَلَّوْا فَإنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ ﴿إلى اللَّهِ مَرْجِعُكم وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ اعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ مَسائِلَ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ في قَوْلِهِ: ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ﴾ وُجُوهًا: الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، والتَّقْدِيرُ: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ لِأجْلِ ألّا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ، وأقُولُ: هَذا التَّأْوِيلُ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا مَقْصُودَ مِن هَذا الكِتابِ الشَّرِيفِ إلّا هَذا الحَرْفُ الواحِدُ، فَكُلُّ مَن صَرَفَ عُمُرَهُ إلى سائِرِ المَطالِبِ، فَقَدْ خابَ وخَسِرَ. الثّانِي: أنْ تَكُونَ ”أنْ“ مُفَسِّرَةً؛ لِأنَّ في تَفْصِيلِ الآياتِ مَعْنى القَوْلِ، والحَمْلُ عَلى هَذا أوْلى؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأنِ اسْتَغْفِرُوا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ألّا تَعْبُدُوا﴾ فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: أيْ لا تَعْبُدُوا؛ لِيَكُونَ الأمْرُ مَعْطُوفًا عَلى النَّهْيِ، فَإنَّ كَوْنَهُ بِمَعْنى لِئَلّا تَعْبُدُوا يَمْنَعُ عَطْفَ الأمْرِ عَلَيْهِ. والثّالِثُ: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ لِيَأْمُرَ النّاسَ أنْ لا يَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ ويَقُولَ لَهم: إنَّنِي لَكم مِنهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلى التَّكْلِيفِ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى أمَرَ بِأنْ لا يَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ، وإذا قُلْنا: الِاسْتِثْناءُ مِنَ النَّفْيِ إثْباتٌ، كانَ مَعْنى هَذا الكَلامِ النَّهْيَ عَنْ عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى، والأمْرَ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ هو الحَقُّ؛ لِأنّا بَيِّنّا أنَّ ما سِوى اللَّهِ فَهو مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ، وإنَّما حَصَلَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ وإيجادِهِ، والعِبادَةُ عِبارَةٌ عَنْ إظْهارِ الخُضُوعِ والخُشُوعِ ونِهايَةِ التَّواضُعِ والتَّذَلُّلِ، وهَذا لا يَلِيقُ إلّا بِالخالِقِ المُدَبِّرِ الرَّحِيمِ المُحْسِنِ، فَثَبَتَ أنَّ عِبادَةَ غَيْرِ اللَّهِ مُنْكَرَةٌ، والإعْراضَ عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ مُنْكَرٌ. (p-١٤٥)واعْلَمْ أنَّ عِبادَةَ اللَّهِ مَشْرُوطَةٌ بِتَحْصِيلِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى قَبْلَ العِبادَةِ؛ لِأنَّ مَن لا يَعْرِفُ مَعْبُودَهُ لا يَنْتَفِعُ بِعِبادَتِهِ، فَكانَ الأمْرُ بِعِبادَةِ اللَّهِ أمْرًا بِتَحْصِيلِ المَعْرِفَةِ أوَّلًا. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿ياأيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البَقَرَةِ: ٢١] ثُمَّ أتْبَعَهُ بِالدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿الَّذِي خَلَقَكم والَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ٢١] وإنَّما حَسُنَ ذَلِكَ لِأنَّ الأمْرَ بِالعِبادَةِ يَتَضَمَّنُ الأمْرَ بِتَحْصِيلِ المَعْرِفَةِ، فَلا جَرَمَ ذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى تَحْصِيلِ المَعْرِفَةِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّنِي لَكم مِنهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: (مِنهُ) عائِدٌ إلى الحَكِيمِ الخَبِيرِ، والمَعْنى: إنَّنِي لَكم نَذِيرٌ وبَشِيرٌ مِن جِهَتِهِ. البَحْثُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ﴾ مُشْتَمِلٌ عَلى المَنعِ عَنْ عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وعَلى التَّرْغِيبِ في عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، فَهو عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ نَذِيرٌ عَلى الأوَّلِ بِإلْحاقِ العَذابِ الشَّدِيدِ لِمَن لَمْ يَأْتِ بِها، وبَشِيرٌ عَلى الثّانِي بِإلْحاقِ الثَّوابِ العَظِيمِ لِمَن أتى بِها. واعْلَمْ أنَّهُ ﷺ ما بُعِثَ إلّا لِهَذَيْنِ الأمْرَيْنِ، وهو الإنْذارُ عَلى فِعْلِ ما لا يَنْبَغِي، والبِشارَةُ عَلى فِعْلِ ما يَنْبَغِي. المَرْتَبَةُ الثّانِيَةُ مِنَ الأُمُورِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ . والمَرْتَبَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ﴾ واخْتَلَفُوا في بَيانِ الفَرْقِ بَيْنَ هاتَيْنِ المَرْتَبَتَيْنِ عَلى وُجُوهٍ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وأنِ اسْتَغْفِرُوا﴾ اطْلُبُوا مِن رَبِّكُمُ المَغْفِرَةَ لِذُنُوبِكم، ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْءَ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ ذَلِكَ وهو التَّوْبَةُ، فَقالَ: ﴿ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ﴾؛ لِأنَّ الدّاعِيَ إلى التَّوْبَةِ والمُحَرِّضَ عَلَيْها هو الِاسْتِغْفارُ الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنْ طَلَبِ المَغْفِرَةِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا سَبِيلَ إلى طَلَبِ المَغْفِرَةِ مِن عِنْدِ اللَّهِ إلّا بِإظْهارِ التَّوْبَةِ، والأمْرُ في الحَقِيقَةِ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ المُذْنِبَ مُعْرِضٌ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ، والمُعْرِضُ المُتَمادِي في التَّباعُدِ ما لَمْ يَرْجِعْ عَنْ ذَلِكَ الإعْراضِ لا يُمْكِنُهُ التَّوَجُّهُ إلى المَقْصُودِ بِالذّاتِ، فالمَقْصُودُ بِالذّاتِ هو التَّوَجُّهُ إلى المَطْلُوبِ، إلّا أنَّ ذَلِكَ لا يُمْكِنُ إلّا بِالإعْراضِ عَمّا يُضادُّهُ، فَثَبَتَ أنَّ الِاسْتِغْفارَ مَطْلُوبٌ بِالذّاتِ، وأنَّ التَّوْبَةَ مَطْلُوبَةٌ لِكَوْنِها مِن مُتَمِّماتِ الِاسْتِغْفارِ، وما كانَ آخِرًا في الحُصُولِ كانَ أوَّلًا في الطَّلَبِ، فَلِهَذا السَّبَبِ قَدَّمَ ذِكْرَ الِاسْتِغْفارِ عَلى التَّوْبَةِ. الوَجْهُ الثّانِي في فائِدَةِ هَذا التَّرْتِيبِ أنَّ المُرادَ: اسْتَغْفِرُوا مِن سالِفِ الذُّنُوبِ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ في المُسْتَأْنَفِ. الوَجْهُ الثّالِثُ: وأنِ اسْتَغْفِرُوا مِنَ الشِّرْكِ والمَعاصِي، ثُمَّ تُوبُوا مِنَ الأعْمالِ الباطِلَةِ. الوَجْهُ الرّابِعُ: الِاسْتِغْفارُ طَلَبٌ مِنَ اللَّهِ لِإزالَةِ ما لا يَنْبَغِي، والتَّوْبَةُ سَعْيٌ مِنَ الإنْسانِ في إزالَةِ ما لا يَنْبَغِي، فَقَدَّمَ الِاسْتِغْفارَ لِيَدُلَّ عَلى أنَّ المَرْءَ يَجِبُ أنْ لا يَطْلُبَ الشَّيْءَ إلّا مِن مَوْلاهُ فَإنَّهُ هو الَّذِي يَقْدِرُ عَلى تَحْصِيلِهِ، ثُمَّ بَعْدَ الِاسْتِغْفارِ ذَكَرَ التَّوْبَةَ لِأنَّها عَمَلٌ يَأْتِي بِهِ الإنْسانُ ويَتَوَسَّلُ بِهِ إلى دَفْعِ المَكْرُوهِ، والِاسْتِعانَةُ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعالى مُقَدَّمَةٌ عَلى الِاسْتِعانَةِ بِسَعْيِ النَّفْسِ. (p-١٤٦)واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ هَذِهِ المَراتِبَ الثَّلاثَةَ ذَكَرَ بَعْدَها ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْها مِنَ الآثارِ النّافِعَةِ والنَّتائِجِ المَطْلُوبَةِ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ المَطالِبَ مَحْصُورَةٌ في نَوْعَيْنِ؛ لِأنَّهُ إمّا أنْ يَكُونَ حُصُولُها في الدُّنْيا أوْ في الآخِرَةِ، أمّا المَنافِعُ الدُّنْيَوِيَّةُ: فَهي المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿يُمَتِّعْكم مَتاعًا حَسَنًا إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُقْبِلَ عَلى عِبادَةِ اللَّهِ والمُشْتَغِلَ بِها يَبْقى في الدُّنْيا مُنْتَظِمَ الحالِ مُرَفَّهَ البالِ. * * * وفِي الآيَةِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: ألَيْسَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ”«الدُّنْيا سِجْنُ المُؤْمِنِ وجَنَّةُ الكافِرِ» “ وقالَ أيْضًا: ”«خُصَّ البَلاءُ بِالأنْبِياءِ ثُمَّ الأوْلِياءِ ثُمَّ الأمْثَلِ فالأمْثَلِ» “، وقالَ تَعالى: ﴿ولَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فَضَّةٍ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٣٣] فَهَذِهِ النُّصُوصُ دالَّةٌ عَلى أنَّ نَصِيبَ المُشْتَغِلِ بِالطّاعاتِ في الدُّنْيا هو الشِّدَّةُ والبَلِيَّةُ. ومُقْتَضى هَذِهِ الآيَةِ أنَّ نَصِيبَ المُشْتَغِلِ بِالطّاعاتِ الرّاحَةُ في الدُّنْيا، فَكَيْفَ الجَمْعُ بَيْنَهُما ؟ الجَوابُ: مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: المُرادُ أنَّهُ تَعالى لا يُعَذِّبُهم بِعَذابِ الِاسْتِئْصالِ كَما اسْتَأْصَلَ أهْلَ القُرى الَّذِينَ كَفَرُوا. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى يُوَصِّلُ إلَيْهِمُ الرِّزْقَ كَيْفَ كانَ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وأْمُرْ أهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْألُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ﴾ [طه: ١٣٢] . الثّالِثُ: وهو الأقْوى عِنْدِي أنْ يُقالَ: إنَّ المُشْتَغِلَ بِعِبادَةِ اللَّهِ وبِمَحَبَّةِ اللَّهِ مُشْتَغِلٌ بِحُبِّ شَيْءٍ يَمْتَنِعُ تَغَيُّرُهُ وزَوالُهُ وفَناؤُهُ، فَكُلُّ مَن كانَ إمْعانُهُ في ذَلِكَ الطَّرِيقِ أكْثَرَ وتَوَغُّلُهُ فِيهِ أتَمَّ، كانَ انْقِطاعُهُ عَنِ الخَلْقِ أتَمَّ وأكْمَلَ، وكُلَّما كانَ الكَمالُ في هَذا البابِ أكْثَرَ، كانَ الِابْتِهاجُ والسُّرُورُ أتَمَّ؛ لِأنَّهُ أمِنَ مِن تَغَيُّرِ مَطْلُوبِهِ، وأمِنَ مِن زَوالِ مَحْبُوبِهِ، فَأمّا مَن كانَ مُشْتَغِلًا بِحُبِّ غَيْرِ اللَّهِ، كانَ أبَدًا في ألَمِ الخَوْفِ مِن فَواتِ المَحْبُوبِ وزَوالِهِ، فَكانَ عَيْشُهُ مُنَغَّصًا وقَلْبُهُ مُضْطَرِبًا، ولِذَلِكَ قالَ اللَّهُ تَعالى في صِفَةِ المُشْتَغِلِينَ بِخِدْمَتِهِ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً﴾ [النَّحْلِ: ٩٧] . السُّؤالُ الثّانِي: هَلْ يَدُلُّ قَوْلُهُ: ﴿إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ عَلى أنَّ لِلْعَبْدِ أجَلَيْنِ، وأنَّهُ يَقَعُ في ذَلِكَ التَّقْدِيمُ والتَّأْخِيرُ ؟ والجَوابُ: لا. ومَعْنى الآيَةِ أنَّهُ تَعالى حَكَمَ بِأنَّ هَذا العَبْدَ لَوِ اشْتَغَلَ بِالعِبادَةِ لَكانَ أجَلُهُ في الوَقْتِ الفُلانِيِّ، ولَوْ أعْرَضَ عَنْها لَكانَ أجَلُهُ في وقْتٍ آخَرَ، لَكِنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِأنَّهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِالعِبادَةِ أمْ لا فَإنَّ أجَلَهُ لَيْسَ إلّا في ذَلِكَ الوَقْتِ المُعَيَّنِ، فَثَبَتَ أنَّ لِكُلِّ إنْسانٍ أجَلًا واحِدًا فَقَطْ. السُّؤالُ الثّالِثُ: لِمَ سَمّى مَنافِعَ الدُّنْيا بِالمَتاعِ ؟ الجَوابُ: لِأجْلِ التَّنْبِيهِ عَلى حَقارَتِها وقِلَّتِها، ونَبَّهَ عَلى كَوْنِها مُنْقَضِيَةً بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ فَصارَتْ هَذِهِ الآيَةُ دالَّةً عَلى كَوْنِها حَقِيرَةً خَسِيسَةً مُنْقَضِيَةً، ثُمَّ لَمّا بَيَّنَ تَعالى ذَلِكَ قالَ: ﴿ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ والمُرادُ مِنهُ السَّعاداتُ الأُخْرَوِيَّةُ، وفِيها لَطائِفُ وفَوائِدُ. الفائِدَةُ الأُولى: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ مَعْناهُ ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلِ مُوجِبَ فَضْلِهِ ومَعْلُولَهُ، والأمْرُ كَذَلِكَ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ إذا كانَ في نِهايَةِ البُعْدِ عَنِ الِاشْتِغالِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وكانَ في غايَةِ الرَّغْبَةِ في تَحْصِيلِ أسْبابِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَلْبُهُ فَصًّا لِنَقْشِ المَلَكُوتِ، ومِرْآةً يَتَجَلّى بِها قُدْسُ اللّاهُوتِ، إلّا أنَّ العَلائِقَ الجَسَدانِيَّةَ الظُّلْمانِيَّةَ تُكَدِّرُ تِلْكَ الأنْوارَ الرُّوحانِيَّةَ، فَإذا زالَتْ هَذِهِ العَلائِقُ أشْرَقَتْ تِلْكَ الأنْوارُ وتَلَأْلَأتْ تِلْكَ الأضْواءُ، وتَوالَتْ مُوجِباتُ السَّعاداتِ، فَهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ . (p-١٤٧)الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ هَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ مَراتِبَ السَّعاداتِ في الآخِرَةِ مُخْتَلِفَةٌ؛ وذَلِكَ لِأنَّها مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدارِ الدَّرَجاتِ الحاصِلَةِ في الدُّنْيا، فَلَمّا كانَ الإعْراضُ عَنْ غَيْرِ الحَقِّ والإقْبالُ عَلى عُبُودِيَّةِ الحَقِّ دَرَجاتٍ غَيْرَ مُتَناهِيَةٍ، فَكَذَلِكَ مَراتِبُ السَّعاداتِ الأُخْرَوِيَّةِ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ، فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ: ﴿ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ . الفائِدَةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ تَعالى قالَ في مَنافِعِ الدُّنْيا: ﴿يُمَتِّعْكم مَتاعًا حَسَنًا﴾، وقالَ في سَعاداتِ الآخِرَةِ: ﴿ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ جَمِيعَ خَيْراتِ الدُّنْيا والآخِرَةِ لَيْسَ إلّا مِنهُ، ولَيْسَ إلّا بِإيجادِهِ وتَكْوِينِهِ وإعْطائِهِ وجُودِهِ. وكانَ الشَّيْخُ الإمامُ الوالِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى يَقُولُ: لَوْلا الأسْبابُ لَما ارْتابَ مُرْتابٌ، فَأكْثَرُ النّاسِ عُقُولُهم ضَعِيفَةٌ، واشْتِغالُ عُقُولِهِمْ بِهَذِهِ الوَسائِطِ الفانِيَةِ يُعْمِيها عَنْ مُشاهَدَةِ أنَّ الكُلَّ مِنهُ، فَأمّا الَّذِينَ تَوَغَّلُوا في المَعارِفِ الإلَهِيَّةِ وخاضُوا في بِحارِ أنْوارِ الحَقِيقَةِ، عَلِمُوا أنَّ ما سِواهُ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، مَوْجُودٌ بِإيجادِهِ، فانْقَطَعَ نَظَرُهم عَمّا سِواهُ، وعَلِمُوا أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى هو الضّارُّ والنّافِعُ، والمُعْطِي والمانِعُ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ هَذِهِ الأحْوالَ قالَ: ﴿وإنْ تَوَلَّوْا فَإنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾، والأمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِعِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ صارَ في الدُّنْيا أعْمى، ومَن كانَ في هَذِهِ أعْمى فَهو في الآخِرَةِ أعْمى وأضَلُّ سَبِيلًا، والَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ أنَّ مَن أقْبَلَ عَلى طَلَبِ الدُّنْيا ولَذّاتِها وطَيِّباتِها قَوِيَ حُبُّهُ لَها ومالَ طَبْعُهُ إلَيْها وعَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فِيها، فَإذا ماتَ بَقِيَ مَعَهُ ذَلِكَ الحُبُّ الشَّدِيدُ والمَيْلُ التّامُّ، وصارَ عاجِزًا عَنِ الوُصُولِ إلى مَحْبُوبِهِ، فَحِينَئِذٍ يَعْظُمُ البَلاءُ ويَتَكامَلُ الشَّقاءُ، فَهَذا القَدْرُ المَعْلُومُ عِنْدَنا مِن عَذابِ ذَلِكَ اليَوْمِ، وأمّا تَفاصِيلُ تِلْكَ الأحْوالِ فَهي غائِبَةٌ عَنّا ما دُمْنا في هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيَوِيَّةِ. ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إلى اللَّهِ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿إلى اللَّهِ مَرْجِعُكم وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ . واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ فِيهِ دَقِيقَةٌ، وهي أنَّ هَذا اللَّفْظَ يُفِيدُ الحَصْرَ، يَعْنِي أنَّ مَرْجِعَنا إلى اللَّهِ لا إلى غَيْرِهِ، فَيَدُلُّ هَذا عَلى أنَّهُ لا مُدَبِّرَ ولا مُتَصَرِّفَ هُناكَ إلّا هو، والأمْرُ كَذَلِكَ أيْضًا في هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، إلّا أنَّ أقْوامًا اشْتَغَلُوا بِالنَّظَرِ إلى الوَسائِطِ فَعَجَزُوا عَنِ الوُصُولِ إلى مُسَبِّبِ الأسْبابِ، فَظَنُّوا أنَّهم في دارِ الدُّنْيا قادِرُونَ عَلى شَيْءٍ، وأمّا في دارِ الآخِرَةِ فَهَذا الحالُ الفاسِدُ زائِلٌ أيْضًا، فَلِهَذا المَعْنى بَيَّنَ هَذا الحَصْرَ بِقَوْلِهِ: ﴿إلى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وأقُولُ: إنَّ هَذا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، وبِشارَةٌ عَظِيمَةٌ مِن سائِرِ الوُجُوهِ. أمّا إنَّهُ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ فَلِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إلى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ مَرْجِعُنا إلّا إلَيْهِ، وقَوْلَهُ: ﴿وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ قادِرٌ عَلى جَمِيعِ المَقْدُوراتِ، لا دافِعَ لِقَضائِهِ، ولا مانِعَ لِمَشِيئَتِهِ. والرُّجُوعُ إلى الحاكِمِ المَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَعَ العُيُوبِ الكَثِيرَةِ والذُّنُوبِ العَظِيمَةِ مُشْكِلٌ، وأمّا إنَّهُ بِشارَةٌ عَظِيمَةٌ فَلِأنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى قُدْرَةٍ غالِبَةٍ وجَلالَةٍ عَظِيمَةٍ لِهَذا الحاكِمِ، وعَلى ضَعْفٍ تامٍّ وعَجْزٍ عَظِيمٍ لِهَذا العَبْدِ، والمَلِكُ القاهِرُ العالِي الغالِبُ إذا رَأى عاجِزًا مُشْرِفًا عَلى الهَلاكِ فَإنَّهُ يُخَلِّصُهُ مِنَ الهَلاكِ، ومِنهُ المَثَلُ المَشْهُورُ: مَلَكْتَ فاسْجَحْ. يَقُولُ مُصَنِّفُ هَذا الكِتابِ: قَدْ أفْنَيْتُ عُمُرِي في خِدْمَةِ العِلْمِ والمُطالَعَةِ لِلْكُتُبِ، ولا رَجاءَ لِي في شَيْءٍ إلّا أنِّي في غايَةِ الذِّلَّةِ والقُصُورِ، والكَرِيمُ إذا قَدَرَ غَفَرَ، وأسْألُكَ يا أكْرَمَ الأكْرَمِينَ ويا أرْحَمَ الرّاحِمِينَ وساتِرَ عُيُوبِ المَعْيُوبِينَ ومُجِيبَ دَعْوَةِ المُضْطَرِّينَ أنْ تُفِيضَ سِجالَ رَحْمَتِكَ عَلى ولَدِي وفِلْذَةِ كَبِدِي، وأنْ تُخَلِّصَنا بِالفَضْلِ والتَّجاوُزِ والجُودِ والكَرَمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب