الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمالَهم فِيها وهم فِيها لا يُبْخَسُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهم في الآخِرَةِ إلّا النّارُ وحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ الكُفّارَ كانُوا يُنازِعُونَ مُحَمَّدًا ﷺ في أكْثَرِ الأحْوالِ، فَكانُوا يُظْهِرُونَ مِن أنْفُسِهِمْ أنَّ مُحَمَّدًا مُبْطِلٌ ونَحْنُ مُحِقُّونَ، وإنَّما نُبالِغُ في مُنازَعَتِهِ لِتَحْقِيقِ الحَقِّ وإبْطالِ الباطِلِ، وكانُوا كاذِبِينَ فِيهِ، بَلْ كانَ غَرَضُهم مَحْضَ الحَسَدِ والِاسْتِنْكافِ مِنَ المُتابَعَةِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ لِتَقْرِيرِ هَذا المَعْنى. ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَن نُرِيدُ﴾ [الإسْراءِ: ١٨]، وقَوْلُهُ: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ ومَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنها وما لَهُ في الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ﴾ [الشُّورى: ٢٠] وفي الآيَةِ مَسائِلُ: (p-١٥٩)المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ قَوْلَيْنِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّها مُخْتَصَّةٌ بِالكُفّارِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا﴾ يَنْدَرِجُ فِيهِ المُؤْمِنُ والكافِرُ والصِّدِّيقُ والزِّنْدِيقُ؛ لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ يُرِيدُ التَّمَتُّعَ بِلَذّاتِ الدُّنْيا وطَيِّباتِها والِانْتِفاعَ بِخَيْراتِها وشَهَواتِها، إلّا أنَّ آخِرَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِن هَذا العامِّ الخاصُّ وهو الكافِرُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهم في الآخِرَةِ إلّا النّارُ وحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لا يَلِيقُ إلّا بِالكُفّارِ، فَصارَ تَقْدِيرُ الآيَةِ: مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها فَقَطْ، أيْ تَكُونُ إرادَتُهُ مَقْصُورَةً عَلى حُبِّ الدُّنْيا وزِينَتِها ولَمْ يَكُنْ طالِبًا لِسَعاداتِ الآخِرَةِ، كانَ حُكْمُهُ كَذا وكَذا، ثُمَّ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنهم مَن قالَ: المُرادُ مِنهم مُنْكِرُو البَعْثِ فَإنَّهم يُنْكِرُونَ الآخِرَةَ ولا يَرْغَبُونَ إلّا في سَعاداتِ الدُّنْيا، وهَذا قَوْلُ الأصَمِّ، وكَلامُهُ ظاهِرٌ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ الَّذِينَ كانُوا يَطْلُبُونَ بِغَزْوِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ الغَنائِمَ مِن دُونِ أنْ يُؤْمِنُوا بِالآخِرَةِ وثَوابِها. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ المُرادَ: اليَهُودُ والنَّصارى، وهو مَنقُولٌ عَنْ أنَسٍ. والقَوْلُ الرّابِعُ: وهو الَّذِي اخْتارَهُ القاضِي: أنَّ المُرادَ مَن كانَ يُرِيدُ بِعَمَلِ الخَيْرِ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها. وعَمَلُ الخَيْرِ قِسْمانِ: العِباداتُ، وإيصالُ المَنفَعَةِ إلى الحَيَوانِ، ويَدْخُلُ في هَذا القِسْمِ الثّانِي البِرُّ وصِلَةُ الرَّحِمِ والصَّدَقَةُ وبِناءُ القَناطِرِ وتَسْوِيَةُ الطُّرُقِ والسَّعْيُ في دَفْعِ الشُّرُورِ وإجْراءُ الأنْهارِ. فَهَذِهِ الأشْياءُ إذا أتى بِها الكافِرُ لِأجْلِ الثَّناءِ في الدُّنْيا، فَإنَّ بِسَبَبِها تَصِلُ الخَيْراتُ والمَنافِعُ إلى المُحْتاجِينَ، فَكُلُّها تَكُونُ مِن أعْمالِ الخَيْرِ، فَلا جَرَمَ هَذِهِ الأعْمالُ تَكُونُ طاعاتٍ، سَواءٌ صَدَرَتْ مِنَ الكافِرِ أوِ المُسْلِمِ. وأمّا العِباداتُ: فَهي إنَّما تَكُونُ طاعاتٍ بِنِيّاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَإذا لَمْ يُؤْتَ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، وإنَّما أتى فاعِلُها بِها عَلى طَلَبِ زِينَةِ الدُّنْيا، وتَحْصِيلِ الرِّياءِ والسُّمْعَةِ فِيها صارَ وُجُودُها كَعَدَمِها، فَلا تَكُونُ مِن بابِ الطّاعاتِ. وإذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها﴾ المُرادُ مِنهُ الطّاعاتُ الَّتِي يَصِحُّ صُدُورُها مِنَ الكافِرِ. القَوْلُ الثّانِي: وهو أنْ تَجْرِيَ الآيَةُ عَلى ظاهِرِها في العُمُومِ، ونَقُولُ: إنَّهُ يَنْدَرِجُ فِيهِ المُؤْمِنُ الَّذِي يَأْتِي بِالطّاعاتِ عَلى سَبِيلِ الرِّياءِ والسُّمْعَةِ، ويَنْدَرِجُ فِيهِ الكافِرُ الَّذِي هَذا صِفَتُهُ، وهَذا القَوْلُ مُشْكِلٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهم في الآخِرَةِ إلّا النّارُ﴾ لا يَلِيقُ المُؤْمِنَ إلّا إذا قُلْنا: المُرادُ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهم في الآخِرَةِ إلّا النّارُ﴾ بِسَبَبِ هَذِهِ الأعْمالِ الفاسِدَةِ والأفْعالِ الباطِلَةِ المَقْرُونَةِ بِالرِّياءِ. ثُمَّ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ ذَكَرُوا أخْبارًا كَثِيرَةً في هَذا البابِ: رُوِيَ أنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”«تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِن جُبِّ الحَزَنِ، قِيلَ: وما جُبُّ الحَزَنِ ؟ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: وادٍ في جَهَنَّمَ يُلْقى فِيهِ القُرّاءُ المُراءُونَ» “ . وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أشَدُّ النّاسِ عَذابًا يَوْمَ القِيامَةِ مَن يَرى النّاسُ أنَّ فِيهِ خَيْرًا ولا خَيْرَ فِيهِ» “ . وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ يُدْعى بِرَجُلٍ جَمَعَ القُرْآنَ، فَيُقالُ لَهُ: ما عَمِلْتَ فِيهِ ؟ فَيَقُولُ: يا رَبِّ، قُمْتُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ والنَّهارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعالى: كَذَبْتَ، بَلْ أرَدْتَ أنْ يُقالَ: فُلانٌ قارِئٌ، وقَدْ قِيلَ ذَلِكَ، ويُؤْتى بِصاحِبِ المالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: ألَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ فَماذا عَمِلْتَ فِيما آتَيْتُكَ ؟ فَيَقُولُ: وصَلْتُ الرَّحِمَ وتَصَدَّقْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ (p-١٦٠)تَعالى: كَذَبْتَ بَلْ أرَدْتَ أنْ يُقالَ: فُلانٌ جَوادٌ، وقَدْ قِيلَ ذَلِكَ، ويُؤْتى بِمَن قُتِلَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقُولُ: قاتَلْتُ في الجِهادِ حَتّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعالى: كَذَبْتَ، بَلْ أرَدْتَ أنْ يُقالَ: فُلانٌ جَرِيءٌ وقَدْ قِيلَ ذَلِكَ“ . قالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رُكْبَتِي وقالَ: يا أبا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلاثَةُ أوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النّارُ يَوْمَ القِيامَةِ» . ورُوِيَ أنَّ أبا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرَ هَذا الحَدِيثَ عِنْدَ مُعاوِيَةَ قالَ الرّاوِي: فَبَكى حَتّى ظَنَنّا أنَّهُ هالِكٌ ثُمَّ أفاقَ وقالَ: صَدَقَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمالَهم فِيها﴾ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المُرادُ مِن تَوْفِيَةِ أُجُورِ تِلْكَ الأعْمالِ هو أنَّ كُلَّ ما يَسْتَحِقُّونَ بِها مِنَ الثَّوابِ فَإنَّهُ يَصِلُ إلَيْهِمْ حالَ كَوْنِهِمْ في دارِ الدُّنْيا، فَإذا خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيا لَمْ يَبْقَ مَعَهم مِن تِلْكَ الأعْمالِ أثَرٌ مِن آثارِ الخَيْراتِ، بَلْ لَيْسَ لَهم مِنها إلّا النّارُ. واعْلَمْ أنَّ العَقْلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا؛ وذَلِكَ لِأنَّ مَن أتى بِالأعْمالِ لِأجْلِ طَلَبِ الثَّناءِ في الدُّنْيا ولِأجْلِ الرِّياءِ، فَذَلِكَ لِأجْلِ أنَّهُ غَلَبَ عَلى قَلْبِهِ حُبُّ الدُّنْيا، ولَمْ يَحْصُلْ في قَلْبِهِ حُبُّ الآخِرَةِ؛ إذْ لَوْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الآخِرَةِ وما فِيها مِنَ السَّعاداتِ لامْتَنَعَ أنْ يَأْتِيَ بِالخَيْراتِ لِأجْلِ الدُّنْيا ويَنْسى أمْرَ الآخِرَةِ، فَثَبَتَ أنَّ الآتِيَ بِأعْمالِ البِرِّ لِأجْلِ الدُّنْيا لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ في الدُّنْيا، عَدِيمَ الطَّلَبِ لِلْآخِرَةِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ فَإذا ماتَ فَإنَّهُ يَفُوتُهُ جَمِيعُ مَنافِعِ الدُّنْيا ويَبْقى عاجِزًا عَنْ وِجْدانِها، غَيْرَ قادِرٍ عَلى تَحْصِيلِها، ومَن أحَبَّ شَيْئًا ثُمَّ حِيلَ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَطْلُوبِ فَإنَّهُ لا بُدَّ وأنْ تَشْتَعِلَ في قَلْبِهِ نِيرانُ الحَسَراتِ، فَثَبَتَ بِهَذا البُرْهانِ العَقْلِيِّ أنَّ كُلَّ مَن أتى بِعَمَلٍ مِنَ الأعْمالِ لِطَلَبِ الأحْوالِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَإنَّهُ يَجِدُ تِلْكَ المَنفَعَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ اللّائِقَةَ بِذَلِكَ العَمَلِ، ثُمَّ إذا ماتَ فَإنَّهُ لا يَحْصُلُ لَهُ مِنهُ إلّا النّارُ ويَصِيرُ ذَلِكَ العَمَلُ في الدّارِ الآخِرَةِ مُحْبَطًا باطِلًا عَدِيمَ الأثَرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب