الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إلَيْكَ وضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إنَّما أنْتَ نَذِيرٌ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا نَوْعٌ آخَرُ مِن كَلِماتِ الكُفّارِ، واللَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ قَلْبَ الرَّسُولِ ضاقَ بِسَبَبِهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قَوّاهُ وأيَّدَهُ بِالإكْرامِ والتَّأْيِيدِ، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ «رُؤَساءَ مَكَّةَ قالُوا: يا مُحَمَّدُ، اجْعَلْ لَنا جِبالَ مَكَّةَ ذَهَبًا إنْ كُنْتَ رَسُولًا. وقالَ آخَرُونَ: ائْتِنا بِالمَلائِكَةِ يَشْهَدُونَ بِنُبُوَّتِكَ. فَقالَ: لا أقْدِرُ عَلى ذَلِكَ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» . واخْتَلَفُوا في المُرادِ بِقَوْلِهِ: ﴿تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إلَيْكَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما: «قالَ المُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ”ائْتِنا بِكِتابٍ لَيْسَ فِيهِ شَتْمُ آلِهَتِنا حَتّى نَتَّبِعَكَ ونُؤْمِنَ بِكَ» “ . وقالَ الحَسَنُ: اطْلُبُوا مِنهُ لا يَقُولُ: ﴿إنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ﴾ [طه: ١٥] وقالَ بَعْضُهم: المُرادُ نِسْبَتُهم إلى الجَهْلِ والتَّقْلِيدِ والإصْرارِ عَلى الباطِلِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ عَلى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يَخُونَ في الوَحْيِ والتَّنْزِيلِ، وأنْ يَتْرُكَ بَعْضَ ما يُوحى إلَيْهِ؛ لِأنَّ تَجْوِيزَهُ يُؤَدِّي إلى الشَّكِّ في كُلِّ الشَّرائِعِ والتَّكالِيفِ، وذَلِكَ يَقْدَحُ في النُّبُوَّةِ، وأيْضًا فالمَقْصُودُ مِنَ الرِّسالَةِ تَبْلِيغُ تَكالِيفِ اللَّهِ تَعالى وأحْكامِهِ، فَإذا لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الفائِدَةُ فَقَدْ خَرَجَتِ الرِّسالَةُ عَنْ أنْ تُفِيدَ فائِدَتَها المَطْلُوبَةَ مِنها، وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إلَيْكَ﴾ شَيْئًا آخَرَ سِوى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَعَلَ ذَلِكَ. ولِلنّاسِ فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ في مَعْلُومِ اللَّهِ تَعالى أنَّهُ إنَّما يَتْرُكُ التَّقْصِيرَ في أداءِ الوَحْيِ والتَّنْزِيلِ لِسَبَبٍ يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعالى أمْثالَ هَذِهِ التَّهَيُّئاتِ البَلِيغَةِ. الثّانِي: أنَّهم كانُوا لا يَعْتَقِدُونَ بِالقُرْآنِ ويَتَهاوَنُونَ بِهِ، فَكانَ يَضِيقُ صَدْرُ الرَّسُولِ ﷺ أنْ يُلْقِيَ إلَيْهِمْ ما لا يَقْبَلُونَهُ ويَضْحَكُونَ مِنهُ، فَهَيَّجَهُ اللَّهُ تَعالى لِأداءِ الرِّسالَةِ وطَرْحِ المُبالاةِ بِكَلِماتِهِمُ الفاسِدَةِ وتَرْكِ الِالتِفاتِ إلى اسْتِهْزائِهِمْ، والغَرَضُ مِنهُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهُ إنْ أدّى ذَلِكَ الوَحْيَ وقَعَ في سُخْرِيَّتِهِمْ وسَفاهَتِهِمْ (p-١٥٥)وإنْ لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ الوَحْيَ إلَيْهِمْ وقَعَ في تَرْكِ وحْيِ اللَّهِ تَعالى وفي إيقاعِ الخِيانَةِ فِيهِ، فَإذًا لا بُدَّ مِن تَحَمُّلِ أحَدِ الضَّرَرَيْنِ. وتَحَمُّلُ سَفاهَتِهِمْ أسْهَلُ مِن تَحَمُّلِ إيقاعِ الخِيانَةِ في وحْيِ اللَّهِ تَعالى، والغَرَضُ مِن ذِكْرِ هَذا الكَلامِ التَّنْبِيهُ عَلى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ إذا عَلِمَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن طَرَفَيِ الفِعْلِ والتَّرْكِ يَشْتَمِلُ عَلى ضَرَرٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ عَلِمَ أنَّ الضَّرَرَ في جانِبِ التَّرْكِ أعْظَمُ وأقْوى سَهُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الفِعْلُ وخَفَّ، فالمَقْصُودُ مِن ذِكْرِ هَذا الكَلامِ ما ذَكَرْناهُ. فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿فَلَعَلَّكَ﴾ كَلِمَةُ شَكٍّ فَما الفائِدَةُ فِيها ؟ قُلْنا: المُرادُ مِنهُ الزَّجْرُ، والعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ إذا أرادُوا إبْعادَهُ عَنْ أمْرٍ: لَعَلَّكَ تَقْدِرُ أنْ تَفْعَلَ كَذا مَعَ أنَّهُ لا شَكَّ فِيهِ، ويَقُولُ لِوَلَدِهِ لَوْ أمَرَهُ: لَعَلَّكَ تُقَصِّرُ فِيما أمَرْتُكَ بِهِ، ويُرِيدُ تَوْكِيدَ الأمْرِ فَمَعْناهُ لا تَتْرُكْ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ فالضّائِقُ بِمَعْنى الضَّيِّقِ، قالَ الواحِدِيُّ: الفَرْقُ بَيْنَهُما أنَّ الضّائِقَ يَكُونُ بِضِيقٍ عارِضٍ غَيْرِ لازِمٍ؛ لِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ أفْسَحَ النّاسِ صَدْرًا، ومِثْلُهُ قَوْلُكَ: زَيْدٌ سَيِّدٌ جَوادٌ تُرِيدُ السِّيادَةَ والجُودَ الثّابِتَيْنِ المُسْتَقِرَّيْنِ، فَإذا أرَدْتَ الحُدُوثَ قُلْتَ: سائِدٌ وجائِدٌ، والمَعْنى: ضائِقٌ صَدْرُكَ لِأجْلِ أنْ يَقُولُوا: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ﴾ . فَإنْ قِيلَ: الكَنْزُ كَيْفَ يَنْزِلُ ؟ قُلْنا: المُرادُ ما يُكْنَزُ، وجَرَتِ العادَةُ عَلى أنَّهُ يُسَمّى المالُ الكَثِيرُ بِهَذا الِاسْمِ، فَكَأنَّ القَوْمَ قالُوا: إنْ كُنْتَ صادِقًا في أنَّكَ رَسُولُ الإلَهِ الَّذِي تَصِفُهُ بِالقُدْرَةِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وأنَّكَ عَزِيزٌ عِنْدَهُ، فَهَلّا أنْزَلَ عَلَيْكَ ما تَسْتَغْنِي بِهِ وتُغْنِي أحْبابَكَ مِنَ الكَدِّ والعَناءِ وتَسْتَعِينُ بِهِ عَلى مُهِمّاتِكَ وتُعِينُ أنْصارَكَ، وإنْ كُنْتَ صادِقًا فَهَلّا أنْزَلَ اللَّهُ مَعَكَ مَلَكًا يَشْهَدُ لَكَ عَلى صِدْقِ قَوْلِكَ ويُعِينُكَ عَلى تَحْصِيلِ مَقْصُودِكَ، فَتَزُولَ الشُّبْهَةُ في أمْرِكَ، فَلَمّا لَمْ يَفْعَلْ إلَهُكَ ذَلِكَ فَأنْتَ غَيْرُ صادِقٍ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ رَسُولٌ مُنْذِرٌ بِالعِقابِ ومُبَشِّرٌ بِالثَّوابِ، ولا قُدْرَةَ لَهُ عَلى إيجادِ هَذِهِ الأشْياءِ. والَّذِي أرْسَلَهُ هو القادِرُ عَلى ذَلِكَ، فَإنْ شاءَ فَعَلَ وإنْ شاءَ لَمْ يَفْعَلْ، ولا اعْتِراضَ لِأحَدٍ عَلَيْهِ في فِعْلِهِ وفي حُكْمِهِ. ومَعْنى ﴿وكِيلٌ﴾ حَفِيظٌ أيْ: يَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أعْمالَهم، أيْ: يُجازِيهِمْ بِها. ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَبارَكَ الَّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِن ذَلِكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ ويَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ [الفُرْقانِ: ١٠]، وقَوْلُهُ: ﴿وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ [الإسْراءِ: ٩٠] إلى قَوْلِهِ: ﴿قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسْراءِ: ٩٣] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب