الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرى بِظُلْمٍ وأهْلُها مُصْلِحُونَ﴾ ﴿ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهم وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهُ ما أهْلَكَ أهْلَ القُرى إلّا بِظُلْمٍ وفِيهِ وُجُوهٌ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنَ الظُّلْمِ هَهُنا الشِّرْكُ، قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] والمَعْنى أنَّهُ تَعالى لا يُهْلِكُ أهْلَ القُرى بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ إذا كانُوا مُصْلِحِينَ في المُعامَلاتِ فِيما بَيْنَهم، والحاصِلُ أنَّ عَذابَ الِاسْتِئْصالِ لا يَنْزِلُ لِأجْلِ كَوْنِ القَوْمِ مُعْتَقِدِينَ لِلشِّرْكِ والكُفْرِ، بَلْ إنَّما يَنْزِلُ ذَلِكَ العَذابُ إذا أساءُوا في المُعامَلاتِ وسَعَوْا في الإيذاءِ والظُّلْمِ. ولِهَذا قالَ الفُقَهاءُ إنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعالى مَبْناها عَلى المُسامَحَةِ والمُساهَلَةِ، وحُقُوقَ العِبادِ مَبْناها عَلى الضِّيقِ والشُّحِّ. ويُقالُ في الأثَرِ: المُلْكُ يَبْقى مَعَ الكُفْرِ ولا يَبْقى مَعَ الظُّلْمِ، فَمَعْنى الآيَةِ: ﴿وما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرى بِظُلْمٍ﴾ أيْ لا يُهْلِكُهم بِمُجَرَّدِ شِرْكِهِمْ إذا كانُوا مُصْلِحِينَ، يُعامِلُ بَعْضُهم بَعْضًا عَلى الصَّلاحِ والسَّدادِ. وهَذا تَأْوِيلُ أهْلِ السُّنَّةِ لِهَذِهِ الآيَةِ، قالُوا: والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ قَوْمَ نُوحٍ وهُودٍ وصالِحٍ ولُوطٍ وشُعَيْبٍ إنَّما نَزَلَ عَلَيْهِمْ عَذابُ الِاسْتِئْصالِ لَمّا حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْهم مِن إيذاءِ النّاسِ وظُلْمِ الخَلْقِ. والوَجْهُ الثّانِي: في التَّأْوِيلِ وهو الَّذِي تَخْتارُهُ المُعْتَزِلَةُ: هو أنَّهُ تَعالى لَوْ أهْلَكَهم حالَ كَوْنِهِمْ مُصْلِحِينَ لَما كانَ مُتَعالِيًا عَنِ الظُّلْمِ فَلا جَرَمَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَلْ إنَّما يُهْلِكُهم لِأجْلِ سُوءِ أفْعالِهِمْ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً﴾ والمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَ هَذِهِ الآيَةَ عَلى مَشِيئَةِ الإلْجاءِ والإجْبارِ، وقَدْ سَبَقَ الكَلامُ عَلَيْهِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾ والمُرادُ افْتِراقُ النّاسِ في الأدْيانِ والأخْلاقِ والأفْعالِ. واعْلَمْ أنَّهُ لا سَبِيلَ إلى اسْتِقْصاءِ مَذاهِبِ العالَمِ في هَذا المَوْضِعِ، ومَن أرادَ ذَلِكَ فَلْيُطالِعْ كِتابَنا الَّذِي سَمَّيْناهُ بِالرِّياضِ المُونِقَةِ، إلّا أنّا نَذْكُرُ هَهُنا تَقْسِيمًا جامِعًا لِلْمَذاهِبِ، فَنَقُولُ: النّاسُ فَرِيقانِ، مِنهم مَن أقَرَّ بِالعُلُومِ الحِسِّيَّةِ كَعِلْمِنا بِأنَّ النّارَ حارَّةٌ والشَّمْسَ مُضِيئَةٌ، والعُلُومِ البَدِيهِيَّةِ كَعِلْمِنا بِأنَّ النَّفْيَ والإثْباتَ لا يَجْتَمِعانِ، ومِنهم مَن أنْكَرَهُما، والمُنْكِرُونَ هُمُ السُّوفِسْطائِيَّةُ، والمُقِرُّونَ هُمُ الجُمْهُورُ الأعْظَمُ مِن أهْلِ العالَمِ، وهم فَرِيقانِ: مِنهم مَن سَلَّمَ أنَّهُ يُمْكِنُ تَرْكِيبُ تِلْكَ العُلُومِ البَدِيهِيَّةِ بِحَيْثُ يَسْتَنْتِجُ مِنها نَتائِجَ عِلْمِيَّةً نَظَرِيَّةً، ومِنهم مَن أنْكَرَهُ، وهُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أيْضًا النَّظَرَ إلى العُلُومِ، وهم قَلِيلُونَ، والأوَّلُونَ هُمُ الجُمْهُورُ الأعْظَمُ مِن أهْلِ (p-٦٢)العالَمِ، وهم فَرِيقانِ: مِنهم مَن لا يُثْبِتُ لِهَذا العالَمِ الجُسْمانِيِّ مَبْدَأً أصْلًا وهُمُ الأقَلُّونَ، ومِنهم مَن يُثْبِتُ لَهُ مَبْدَأً وهَؤُلاءِ فَرِيقانِ: مِنهم مَن يَقُولُ: ذَلِكَ المَبْدَأُ مُوجَبٌ بِالذّاتِ، وهم جُمْهُورُ الفَلاسِفَةِ في هَذا الزَّمانِ، ومِنهم مَن يَقُولُ: إنَّهُ فاعِلٌ مُخْتارٌ وهم أكْثَرُ أهْلِ العالَمِ، ثُمَّ هَؤُلاءِ فَرِيقانِ: مِنهم مَن يَقُولُ: إنَّهُ ما أرْسَلَ رَسُولًا إلى العِبادِ، ومِنهم مَن يَقُولُ: إنَّهُ أرْسَلَ الرَّسُولَ، فالأوَّلُونَ هُمُ البَراهِمَةُ، والقِسْمَ الثّانِيَ أرْبابُ الشَّرائِعِ والأدْيانِ، وهُمُ المُسْلِمُونَ والنَّصارى واليَهُودُ والمَجُوسُ، وفي كُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الطَّوائِفِ اخْتِلافاتٌ لا حَدَّ لَها ولا حَصْرَ، والعُقُولُ مُضْطَرِبَةٌ، والمَطالِبُ غامِضَةٌ، ومُنازَعاتُ الوَهْمِ والخَيالِ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ، ولَمّا حَسُنَ مِن بُقْراطَ أنْ يَقُولَ في صِناعَةِ الطِّبِّ العُمْرُ قَصِيرٌ، والصِّناعَةُ طَوِيلَةٌ، والقَضاءُ عُسْرٌ، والتَّجْرِبَةُ خَطَرٌ، فَلِأنْ يَحْسُنَ ذِكْرُهُ في هَذِهِ المَطالِبِ العالِيَةِ والمَباحِثِ الغامِضَةِ، كانَ ذَلِكَ أوْلى. فَإنْ قِيلَ: إنَّكم حَمَلْتُمْ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ عَلى الِاخْتِلافِ في الأدْيانِ، فَما الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، ولِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُحْمَلَ عَلى الِاخْتِلافِ في الألْوانِ والألْسِنَةِ والأرْزاقِ والأعْمالِ ؟ قُلْنا: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ ما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ هو قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً﴾ فَيَجِبُ حَمْلُ هَذا الِاخْتِلافِ عَلى ما يُخْرِجُهم مِن أنْ يَكُونُوا أُمَّةً واحِدَةً، وما بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ هو قَوْلُهُ: ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾ فَيَجِبُ حَمْلُ هَذا الِاخْتِلافِ عَلى مَعْنًى يَصِحُّ أنْ يُسْتَثْنى مِنهُ قَوْلُهُ: ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾ وذَلِكَ لَيْسَ إلّا ما قُلْنا. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾ احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الهِدايَةَ والإيمانَ لا تَحْصُلُ إلّا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ زَوالَ الِاخْتِلافِ في الدِّينِ لا يَحْصُلُ إلّا لِمَن خَصَّهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وتِلْكَ الرَّحْمَةُ لَيْسَتْ عِبارَةً عَنْ إعْطاءِ القُدْرَةِ والعَقْلِ، وإرْسالِ الرُّسُلِ، وإنْزالِ الكُتُبِ، وإزاحَةِ العُذْرِ، فَإنَّ كُلَّ ذَلِكَ حاصِلٌ في حَقِّ الكُفّارِ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقالَ: تِلْكَ الرَّحْمَةُ هو أنَّهُ سُبْحانَهُ خَلَقَ فِيهِ تِلْكَ الهِدايَةَ والمَعْرِفَةَ. قالَ القاضِي مَعْناهُ: إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ بِأنْ يَصِيرَ مِن أهْلِ الجَنَّةِ والثَّوابِ، فَيَرْحَمُهُ اللَّهُ بِالثَّوابِ، ويَحْتَمِلُ " إلّا مَن رَحِمَهُ اللَّهُ بِألْطافِهِ، فَصارَ مُؤْمِنًا بِألْطافِهِ وتَسْهِيلِهِ، وهَذانِ الجَوابانِ في غايَةِ الضَّعْفِ. أمّا الأوَّلُ: فَلِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾ يُفِيدُ أنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلافَ إنَّما زالَ بِسَبَبِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ، فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الرَّحْمَةُ جارِيَةً مَجْرى السَّبَبِ المُتَقَدِّمِ عَلى زَوالِ هَذا الِاخْتِلافِ، والثَّوابُ شَيْءٌ مُتَأخِّرٌ عَنْ زَوالِ هَذا الِاخْتِلافِ، فالِاخْتِلافُ جارٍ مَجْرى المُسَبَّبِ لَهُ، ومَجْرى المَعْلُولِ، فَحَمْلُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ عَلى الثَّوابِ بَعِيدٌ. وأمّا الثّانِي: وهو حَمْلُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ عَلى الألْطافِ. فَنَقُولُ: جَمِيعُ الألْطافِ الَّتِي فَعَلَها في حَقِّ المُؤْمِنِ فَهي مَفْعُولَةٌ أيْضًا في حَقِّ الكافِرِ، وهَذِهِ الرَّحْمَةُ أمْرٌ اخْتُصَّ بِهِ المُؤْمِنُ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ شَيْئًا زائِدًا عَلى تِلْكَ الألْطافِ، وأيْضًا فَحُصُولُ تِلْكَ الألْطافِ هَلْ يُوجِبُ رُجْحانَ وُجُودِ الإيمانِ عَلى عَدَمِهِ أوْ لا يُوجِبُهُ، فَإنْ لَمْ يُوجِبْهُ كانَ وُجُودُ تِلْكَ الألْطافِ وعَدَمُها بِالنِّسْبَةِ إلى حُصُولِ هَذا المَقْصُودِ سِيّانِ، فَلَمْ يَكُ لُطْفًا فِيهِ، وإنْ أوْجَبَ الرُّجْحانَ فَقَدْ بَيَّنّا في الكُتُبِ العَقْلِيَّةِ أنَّهُ مَتى حَصَلَ الرُّجْحانُ فَقَدْ وجَبَ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ حُصُولُ الإيمانِ (p-٦٣)مِنَ اللَّهِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ حُصُولَ الإيمانِ لا يَكُونُ إلّا بِخَلْقِ اللَّهِ، أنَّهُ ما لَمْ يَتَمَيَّزِ الإيمانُ عَنِ الكُفْرِ، والعِلْمُ عَنِ الجَهْلِ، امْتَنَعَ القَصْدُ إلى تَكْوِينِ الإيمانِ والعِلْمِ، وإنَّما يَحْصُلُ هَذا الِامْتِيازُ إذا عُلِمَ كَوْنُ أحَدِ هَذَيْنِ الِاعْتِقادَيْنِ مُطابِقًا لِلْمُعْتَقَدِ وكَوْنُ الآخَرِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وإنَّما يَصِحُّ حُصُولُ هَذا العِلْمِ أنْ لَوْ عَرَفَ أنَّ ذَلِكَ المُعْتَقَدَ في نَفْسِهِ كَيْفَ يَكُونُ، وهَذا يُوجِبُ أنَّهُ لا يَصِحُّ مِنَ العَبْدِ القَصْدُ إلى تَكْوِينِ العِلْمِ بِالشَّيْءِ إلّا بَعْدَ أنْ كانَ عالِمًا، وذَلِكَ يَقْتَضِي تَكْوِينَ الكائِنِ وتَحْصِيلَ الحاصِلِ وهو مُحالٌ. فَثَبَتَ أنَّ زَوالَ الِاخْتِلافِ في الدِّينِ وحُصُولَ العِلْمِ والهِدايَةِ لا يَحْصُلُ إلّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى، وهو المَطْلُوبُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ وفِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: القَوْلُ الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ولِلرَّحْمَةِ خَلَقَهم، وهَذا اخْتِيارُ جُمْهُورِ المُعْتَزِلَةِ. قالُوا: ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: ولِلِاخْتِلافِ خَلَقَهم، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلى أقْرَبِ المَذْكُورَيْنِ أوْلى مِن عَوْدِهِ إلى أبْعَدِهِما، وأقْرَبُ المَذْكُورَيْنِ هَهُنا هو الرَّحْمَةُ، والِاخْتِلافُ أبْعَدُهُما. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى لَوْ خَلَقَهم لِلِاخْتِلافِ وأرادَ مِنهم ذَلِكَ الإيمانَ، لَكانَ لا يَجُوزُ أنْ يُعَذِّبَهم عَلَيْهِ إذا كانُوا مُطِيعِينَ لَهُ بِذَلِكَ الِاخْتِلافِ. الثّالِثُ: إذا فَسَّرْنا الآيَةَ بِهَذا المَعْنى، كانَ مُطابِقًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [ الذّارِياتِ: ٥٦] . فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ المُرادُ: ولِلرَّحْمَةِ خَلَقَهم لَقالَ: ولِتِلْكَ خَلَقَهم ولَمْ يَقُلْ: ولِذَلِكَ خَلَقَهم. قُلْنا: إنَّ تَأْنِيثَ الرَّحْمَةِ لَيْسَ تَأْنِيثًا حَقِيقِيًّا، فَكانَ مَحْمُولًا عَلى الفَضْلِ والغُفْرانِ كَقَوْلِهِ: ﴿هَذا رَحْمَةٌ مِن رَبِّي﴾ [الكهف: ٩٨] وقَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ [ الأعْرافِ: ٥٦] . والقَوْلُ الثّانِي أنَّ المُرادَ: ولِلِاخْتِلافِ خَلَقَهم. والقَوْلُ الثّالِثُ وهو المُخْتارُ: أنَّهُ خَلَقَ أهْلَ الرَّحْمَةِ لِلرَّحْمَةِ وأهْلَ الِاخْتِلافِ لِلِاخْتِلافِ. رَوى أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: خَلَقَ اللَّهُ أهْلَ الرَّحْمَةِ لِئَلّا يَخْتَلِفُوا، وأهْلَ العَذابِ لِأنْ يَخْتَلِفُوا، وخَلَقَ الجَنَّةَ وخَلَقَ لَها أهْلًا، وخَلَقَ النّارَ وخَلَقَ لَها أهْلًا. والَّذِي يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا التَّأْوِيلِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: الدَّلائِلُ القاطِعَةُ الدّالَّةُ عَلى أنَّ العِلْمَ والجَهْلَ لا يُمْكِنُ حُصُولُهُما في العَبْدِ إلّا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعالى. الثّانِي: أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا حَكَمَ عَلى البَعْضِ بِكَوْنِهِمْ مُخْتَلِفِينَ وعَلى الآخَرِينَ بِأنَّهم مِن أهْلِ الرَّحْمَةِ وعَلِمَ ذَلِكَ امْتَنَعَ انْقِلابُ ذَلِكَ، وإلّا لَزِمَ انْقِلابُ العِلْمِ جَهْلًا وهو مُحالٌ. الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى قالَ بَعْدَهُ: ﴿وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ﴾ وهَذا تَصْرِيحٌ بِأنَّهُ تَعالى خَلَقَ أقْوامًا لِلْهِدايَةِ والجَنَّةِ، وأقْوامًا آخَرِينَ لِلضَّلالَةِ والنّارِ، وذَلِكَ يُقَوِّي هَذا التَّأْوِيلَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب