الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ أخْذُ رَبِّكَ إذا أخَذَ القُرى وهي ظالِمَةٌ إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ﴾ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِمَن خافَ عَذابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ ﴿وما نُؤَخِّرُهُ إلّا لِأجَلٍ مَعْدُودٍ﴾ . وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ عاصِمٌ والجَحْدَرِيُّ: ”إذْ أخَذَ القُرى“ بِألِفٍ واحِدَةٍ، وقَرَأ الباقُونَ بِألِفَيْنِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أخْبَرَ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في كِتابِهِ بِما فَعَلَ بِأُمَمِ مَن تَقَدَّمَ مِنَ الأنْبِياءِ لَمّا خالَفُوا الرُّسُلَ ورَدُّوا عَلَيْهِمْ مِن عَذابِ الِاسْتِئْصالِ، وبَيَّنَ أنَّهم ظَلَمُوا أنْفُسَهم، فَحَلَّ بِهِمُ العَذابُ في الدُّنْيا، قالَ بَعْدَهُ: ﴿وكَذَلِكَ أخْذُ رَبِّكَ إذا أخَذَ القُرى وهي ظالِمَةٌ﴾ فَبَيَّنَ أنَّ عَذابَهُ لَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلى مَن تَقَدَّمَ، بَلِ الحالُ في أخْذِ كُلِّ الظّالِمِينَ يَكُونُ كَذَلِكَ، وقَوْلُهُ: ﴿وهِيَ ظالِمَةٌ﴾ الضَّمِيرُ فِيهِ عائِدٌ إلى القُرى، وهو في (p-٤٧)الحَقِيقَةِ عائِدٌ إلى أهْلِها، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿وكَمْ قَصَمْنا مِن قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً﴾ [الأنْبِياءِ: ١١ ] وقَوْلُهُ: ﴿وكَمْ أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها﴾ [القَصَصِ: ٥٨ ] . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ أخْذِ الأُمَمِ المُتَقَدِّمَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهُ إنَّما يَأْخُذُ جَمِيعَ الظّالِمِينَ عَلى ذَلِكَ الوَجْهِ - أتْبَعَهُ بِما يَزِيدُهُ تَأْكِيدًا وتَقْوِيَةً، فَقالَ: ﴿إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ﴾ فَوَصَفَ ذَلِكَ العَذابَ بِالإيلامِ وبِالشِّدَّةِ، ولا مُنَغِّصَةَ في الدُّنْيا إلّا الألَمَ، ولا تَشْدِيدَ في الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ، وفي الوَهْمِ والعَقْلِ، إلّا تَشْدِيدَ الألَمِ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ مَن أقْدَمَ عَلى ظُلْمٍ، فَإنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَتَدارَكَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ والإنابَةِ؛ لِئَلّا يَقَعَ في الأخْذِ الَّذِي وصَفَهُ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ، ولا يَنْبَغِي أنْ يُظَنَّ أنَّ هَذِهِ الأحْكامَ مُخْتَصَّةٌ بِأُولَئِكَ المُتَقَدِّمِينَ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى أحْوالَ المُتَقَدِّمِينَ قالَ: ﴿وكَذَلِكَ أخْذُ رَبِّكَ إذا أخَذَ القُرى وهي ظالِمَةٌ﴾ فَبَيَّنَ أنَّ كُلَّ مَن شارَكَ أُولَئِكَ المُتَقَدِّمِينَ في فِعْلِ ما لا يَنْبَغِي، فَلا بُدَّ وأنْ يُشارِكَهم في ذَلِكَ الأخْذِ الألِيمِ الشَّدِيدِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِمَن خافَ عَذابَ الآخِرَةِ﴾ قالَ القَفّالُ: تَقْرِيرُ هَذا الكَلامِ أنْ يُقالَ: إنَّ هَؤُلاءِ إنَّما عُذِّبُوا في الدُّنْيا لِأجْلِ تَكْذِيبِهِمُ الأنْبِياءَ وإشْراكِهِمْ بِاللَّهِ، فَإذا عُذِّبُوا في الدُّنْيا عَلى ذَلِكَ - وهي دارُ العَمَلِ - فَلَأنْ يُعَذَّبُوا عَلَيْهِ في الآخِرَةِ الَّتِي هي دارُ الجَزاءِ كانَ أوْلى. واعْلَمْ أنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَنَبَّهَ لِهَذا البَحْثِ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَوَّلُوا عَلى هَذا الوَجْهِ، بَلْ هو ضَعِيفٌ؛ وذَلِكَ لِأنَّ عَلى هَذا الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ القَفّالُ يَكُونُ ظُهُورُ عَذابِ الِاسْتِئْصالِ في الدُّنْيا دَلِيلًا عَلى أنَّ القَوْلَ بِالقِيامَةِ والبَعْثِ والنَّشْرِ حَقٌّ وصِدْقٌ. وظاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ العِلْمَ بِأنَّ القِيامَةَ حَقٌّ، كالشَّرْطِ في حُصُولِ الِاعْتِبارِ بِظُهُورِ عَذابِ الِاسْتِئْصالِ، وهَذا المَعْنى كالمُضادِّ لِما ذَكَرَهُ القَفّالُ؛ لِأنَّ القَفّالَ يَجْعَلُ العِلْمَ بِعَذابِ الِاسْتِئْصالِ أصْلًا لِلْعِلْمِ بِأنَّ القِيامَةَ حَقٌّ، فَبَطَلَ ما ذَكَرَهُ القَفّالُ، والأصْوَبُ عِنْدِي أنْ يُقالَ: العِلْمُ بِأنَّ القِيامَةَ حَقٌّ مَوْقُوفٌ عَلى العِلْمِ بِأنَّ المُدَبِّرَ لِوُجُودِ هَذِهِ السَّماواتِ والأرْضِينَ فاعِلٌ مُخْتارٌ، لا مُوجَبٌ بِالذّاتِ، وما لَمْ يَعْرِفِ الإنْسانُ أنَّ إلَهَ العالَمِ فاعِلٌ مُخْتارٌ، وقادِرٌ عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ، وأنَّ جَمِيعَ الحَوادِثِ الواقِعَةِ في السَّماواتِ والأرْضِينَ لا تَحْصُلُ إلّا بِتَكْوِينِهِ وقَضائِهِ - لا يُمْكِنُهُ أنْ يَعْتَبِرَ بِعَذابِ الِاسْتِئْصالِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّ المُؤَثِّرَ في وُجُودِ هَذا العالَمِ مُوجَبٌ بِالذّاتِ لا فاعِلٌ مُخْتارٌ يَزْعُمُونَ أنَّ هَذِهِ الأحْوالَ الَّتِي ظَهَرَتْ في أيّامِ الأنْبِياءِ مِثْلُ الغَرَقِ، والحَرَقِ، والخَسْفِ، والمَسْخِ، والصَّيْحَةِ، كُلُّها إنَّما حَدَثَتْ بِسَبَبِ قِراناتِ الكَواكِبِ واتِّصالِ بَعْضِها بِبَعْضٍ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لا يَكُونُ حُصُولُها دَلِيلًا عَلى صِدْقِ الأنْبِياءِ، فَأمّا الَّذِي يُؤْمِنُ بِالقِيامَةِ، فَلا يَتِمُّ ذَلِكَ الإيمانُ إلّا إذا اعْتَقَدَ أنَّ إلَهَ العالَمِ فاعِلٌ مُخْتارٌ، وأنَّهُ عالِمٌ بِجَمِيعِ الجُزْئِيّاتِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ القَطْعُ بِأنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الحَوادِثِ الهائِلَةِ والوَقائِعِ العَظِيمَةِ إنَّما كانَ بِسَبَبِ أنَّ إلَهَ العالَمِ خَلَقَها وأوْجَدَها، وأنَّها لَيْسَتْ بِسَبَبِ طَوالِعِ الكَواكِبِ وقِراناتِها، وحِينَئِذٍ يَنْتَفِعُ بِسَماعِ هَذِهِ القِصَصِ، ويَسْتَدِلُّ بِها عَلى صِدْقِ الأنْبِياءِ، فَثَبَتَ بِهَذا صِحَّةُ قَوْلِهِ: (﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِمَن خافَ عَذابَ الآخِرَةِ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الآخِرَةَ وصَفَ ذَلِكَ اليَوْمَ بِوَصْفَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ، والمَعْنى أنَّ خَلْقَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ كُلُّهم يُحْشَرُونَ في ذَلِكَ اليَوْمِ ويُجْمَعُونَ. والثّانِي: أنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ قالَ (p-٤٨)ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: يَشْهَدُهُ البَرُّ والفاجِرُ، وقالَ آخَرُونَ: يَشْهَدُهُ أهْلُ السَّماءِ وأهْلُ الأرْضِ، والمُرادُ مِنَ الشُّهُودِ الحُضُورُ، والمَقْصُودُ مِن ذِكْرِهِ أنَّهُ رُبَّما وقَعَ في قَلْبِ إنْسانٍ أنَّهم لَمّا جُمِعُوا في ذَلِكَ الوَقْتِ لَمْ يَعْرِفْ كُلُّ أحَدٍ إلّا واقِعَةَ نَفْسِهِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ تِلْكَ الوَقائِعَ تَصِيرُ مَعْلُومَةً لِلْكُلِّ؛ بِسَبَبِ المُحاسَبَةِ والمُساءَلَةِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما نُؤَخِّرُهُ إلّا لِأجَلٍ مَعْدُودٍ﴾ والمَعْنى أنَّ تَأْخِيرَ الآخِرَةِ وإفْناءَ الدُّنْيا مَوْقُوفٌ عَلى أجَلٍ مَعْدُودٍ، وكُلُّ ما لَهُ عَدَدٌ فَهو مُتَناهٍ، وكُلُّ ما كانَ مُتَناهِيًا فَإنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَفْنى، فَيَلْزَمُ أنْ يُقالَ: إنَّ تَأْخِيرَ الآخِرَةِ سَيَنْتَهِي إلى وقْتٍ لا بُدَّ وأنْ يُقِيمَ اللَّهُ القِيامَةَ فِيهِ، وأنْ تَخَرَبَ الدُّنْيا فِيهِ، وكُلُّ ما هو آتٍ قَرِيبٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب