الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ مِن أنْباءِ القُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنها قائِمٌ وحَصِيدٌ﴾ ﴿وما ظَلَمْناهم ولَكِنْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم فَما أغْنَتْ عَنْهم آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَمّا جاءَ أمْرُ رَبِّكَ وما زادُوهم غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ قَصَصَ الأوَّلِينَ قالَ: ﴿ذَلِكَ مِن أنْباءِ القُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ﴾ والفائِدَةُ في ذِكْرِها أُمُورٌ: أوَّلُها: أنَّ الِانْتِفاعَ بِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ المَحْضِ إنَّما يَحْصُلُ لِلْإنْسانِ الكامِلِ، وذَلِكَ إنَّما يَكُونُ في غايَةِ النُّدْرَةِ، فَأمّا إذا ذَكَرْتَ الدَّلائِلَ ثُمَّ أكَّدْتَ بِأقاصِيصِ الأوَّلِينَ - صارَ ذِكْرُ هَذِهِ الأقاصِيصِ كالمُوَصِّلِ لِتِلْكَ الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ إلى العُقُولِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى خَلَطَ بِهَذِهِ الأقاصِيصِ أنْواعَ الدَّلائِلِ الَّتِي كانَ الأنْبِياءُ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - يَتَمَسَّكُونَ بِها، ويَذْكُرُ مُدافَعاتِ الكُفّارِ لِتِلْكَ الدَّلائِلِ وشُبُهاتِهِمْ في دَفْعِها، ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَهُما أجْوِبَةَ الأنْبِياءِ عَنْها، ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَها أنَّهم لَمّا أصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا وقَعُوا في عَذابِ الدُّنْيا، وبَقِيَ عَلَيْهِمُ اللَّعْنُ والعِقابُ في الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ، فَكانَ ذِكْرُ هَذِهِ القَصَصِ سَبَبًا لِإيصالِ الدَّلائِلِ والجَواباتِ عَنِ الشُّبَهاتِ إلى قُلُوبِ المُنْكِرِينَ، وسَبَبًا لِإزالَةِ القَسْوَةِ والغِلْظَةِ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَثَبَتَ أنَّ أحْسَنَ الطُّرُقِ في الدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ تَعالى ما ذَكَرْناهُ. الفائِدَةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ يَذْكُرُ هَذِهِ القَصَصَ مِن غَيْرِ مُطالَعَةِ كُتُبٍ، ولا تَلْمَذَ لِأحَدٍ، وذَلِكَ مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ تَدُلُّ عَلى النُّبُوَّةِ كَما قَرَّرْناهُ. الفائِدَةُ الرّابِعَةُ: أنَّ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ هَذِهِ القِصَصَ يَتَقَرَّرُ عِنْدَهم أنَّ عاقِبَةَ الصِّدِّيقِ والزِّنْدِيقِ والمُوافِقِ والمُنافِقِ إلى تَرْكِ الدُّنْيا والخُرُوجِ عَنْها، إلّا أنَّ المُؤْمِنَ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيا مَعَ الثَّناءِ الجَمِيلِ في الدُّنْيا، والثَّوابِ الجَزِيلِ في الآخِرَةِ، والكافِرَ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيا مَعَ اللَّعْنِ في الدُّنْيا والعِقابِ في الآخِرَةِ، فَإذا تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الأقاصِيصُ عَلى السَّمْعِ، فَلا بُدَّ وأنْ يَلِينَ القَلْبُ، وتَخْضَعَ النَّفْسُ، وتَزُولَ العَداوَةُ، ويَحْصُلَ في القَلْبِ خَوْفٌ يَحْمِلُهُ عَلى النَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ، فَهَذا كَلامٌ جَلِيلٌ في فَوائِدِ ذِكْرِ هَذِهِ القِصَصِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ مِن أنْباءِ القُرى﴾ فَفِيهِ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارَةٌ إلى الغائِبِ، والمُرادُ مِنهُ هَهُنا الإشارَةُ إلى هَذِهِ القِصَصِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وهي حاضِرَةٌ، إلّا أنَّ الجَوابَ عَنْهُ ما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البَقَرَةِ: ٢ ] . البَحْثُ الثّانِي: أنَّ لَفْظَ ”ذَلِكَ“ يُشارُ بِهِ إلى الواحِدِ والِاثْنَيْنِ والجَماعَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: (p-٤٦)﴿لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البَقَرَةِ: ٦٨ ] وأيْضًا يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْناهُ هو كَذا وكَذا. البَحْثُ الثّالِثُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ﴿ذَلِكَ﴾ مُبْتَدَأٌ ﴿مِن أنْباءِ القُرى﴾ خَبَرٌ ﴿نَقُصُّهُ عَلَيْكَ﴾ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أيْ ذَلِكَ المَذْكُورُ بَعْضُ أنْباءِ القُرى مَقْصُوصٌ عَلَيْكَ، ثُمَّ قالَ: ﴿مِنها قائِمٌ وحَصِيدٌ﴾ والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿مِنها﴾ يَعُودُ إلى القُرى، شَبَّهَ ما بَقِيَ مِن آثارِ القُرى وجُدْرانِها بِالزَّرْعِ القائِمِ عَلى ساقِهِ، وما عَفا مِنها وبَطِرَ بِالحَصِيدِ، والمَعْنى أنَّ تِلْكَ القُرى بَعْضُها بَقِيَ مِنهُ شَيْءٌ، وبَعْضُها هَلَكَ وما بَقِيَ مِنهُ أثَرٌ ألْبَتَّةَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما ظَلَمْناهم ولَكِنْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: وما ظَلَمْناهم بِالعَذابِ والإهْلاكِ، ولَكِنْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِالكُفْرِ والمَعْصِيَةِ. الثّانِي: أنَّ الَّذِي نَزَلَ بِالقَوْمِ لَيْسَ بِظُلْمٍ مِنَ اللَّهِ، بَلْ هو عَدْلٌ وحِكْمَةٌ؛ لِأجْلِ أنَّ القَوْمَ أوَّلًا ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِسَبَبِ إقْدامِهِمْ عَلى الكُفْرِ والمَعاصِي، فاسْتَوْجَبُوا لِأجْلِ تِلْكَ الأعْمالِ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ العَذابَ. الثّالِثُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: يُرِيدُ: وما نَقَصْناهم مِنَ النَّعِيمِ في الدُّنْيا والرِّزْقِ، ولَكِنْ نَقَصُوا حَظَّ أنْفُسِهِمْ حَيْثُ اسْتَخَفُّوا بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعالى. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿فَما أغْنَتْ عَنْهم آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ أيْ ما نَفَعَتْهم تِلْكَ الآلِهَةُ في شَيْءٍ ألْبَتَّةَ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وما زادُوهم غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: غَيْرَ تَخْسِيرٍ، يُقالُ: تَبَّ، إذا خَسِرَ، وتَبَّبَهُ غَيْرُهُ إذا أوْقَعَهُ في الخُسْرانِ، والمَعْنى أنَّ الكُفّارَ كانُوا يَعْتَقِدُونَ في الأصْنامِ أنَّها تُعِينُ عَلى تَحْصِيلِ المَنافِعِ ودَفْعِ المَضارِّ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أخْبَرَ أنَّهم عِنْدَ مَساسِ الحاجَةِ إلى المُعِينِ ما وجَدُوا مِنها شَيْئًا لا جَلْبَ نَفْعٍ ولا دَفْعَ ضُرٍّ، ثُمَّ كَما لَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ فَقَدْ وجَدُوا ضِدَّهُ، وهو أنَّ ذَلِكَ الِاعْتِقادَ زالَ عَنْهم بِهِ مَنافِعُ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وجَلَبَ إلَيْهِمْ مَضارَّ الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَكانَ ذَلِكَ مِن أعْظَمِ مُوجِباتِ الخُسْرانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب