الباحث القرآني

أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ (p-١٣٥)فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ لا تِكْرارَ فِيها. والثّانِي: أنَّ فِيها تِكْرارًا أمّا الأوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ الأوَّلَ لِلْمُسْتَقْبَلِ، والثّانِيَ لِلْحالِ والدَّلِيلُ عَلى أنَّ الأوَّلَ لِلْمُسْتَقْبَلِ أنَّ ”لا“ لا تَدْخُلُ إلّا عَلى مُضارِعٍ في مَعْنى الِاسْتِقْبالِ، أنْ تَرى أنَّ ”لَنْ“ تَأْكِيدٌ فِيما يَنْفِيهِ ”لا“ وقالَ الخَلِيلُ في ”لَنْ“: أصْلُهُ لا أنْ، إذا ثَبَتَ هَذا فَقَوْلُهُ: ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ أيْ لا أفْعَلُ في المُسْتَقْبَلِ ما تَطْلُبُونَهُ مِنِّي مِن عِبادَةِ آلِهَتِكم ولا أنْتُمْ فاعِلُونَ في المُسْتَقْبَلِ ما أطْلُبُهُ مِنكم مِن عِبادَةِ إلَهِي، ثُمَّ قالَ: ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ أيْ ولَسْتُ في الحالِ بِعابِدٍ مَعْبُودَكم، ولا أنْتُمْ في الحالِ بِعابِدِينَ لِمَعْبُودِي. الوَجْهُ الثّانِي: أنْ تَقْلِبَ الأمْرَ فَتَجْعَلَ الأوَّلَ لِلْحالِ، والثّانِيَ لِلِاسْتِقْبالِ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ قَوْلَ: ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ لِلِاسْتِقْبالِ أنَّهُ رُفِعَ لِمَفْهُومِ قَوْلِنا: أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ ولا شَكَّ أنَّ هَذا لِلِاسْتِقْبالِ بِدَلِيلِ أنَّهُ لَوْ قالَ: أنا قاتِلٌ زَيْدًا فُهِمَ مِنهُ الِاسْتِقْبالُ. الوَجْهُ الثّالِثُ: قالَ بَعْضُهم: كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَصْلُحُ لِلْحالِ ولِلِاسْتِقْبالِ، ولَكِنّا نَخُصُّ أحَدَهُما بِالحالِ، والثّانِي بِالِاسْتِقْبالِ دَفْعًا لِلتِّكْرارِ، فَإنْ قُلْنا: إنَّهُ أخْبَرَ عَنِ الحالِ، ثُمَّ عَنِ الِاسْتِقْبالِ، فَهو التَّرْتِيبُ، وإنْ قُلْنا: أخْبَرَ أوَّلًا عَنِ الِاسْتِقْبالِ؛ فَلِأنَّهُ هو الَّذِي دَعَوْهُ إلَيْهِ، فَهو الأهَمُّ فَبَدَأ بِهِ، فَإنْ قِيلَ: ما فائِدَةُ الإخْبارِ عَنِ الحالِ وكانَ مَعْلُومًا أنَّهُ ما كانَ يَعْبُدُ الصَّنَمَ، وأمّا الكُفّارُ فَكانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ في بَعْضِ الأحْوالِ ؟ قُلْنا: أمّا الحِكايَةُ عَنْ نَفْسِهِ فَلِئَلّا يَتَوَهَّمَ الجاهِلُ أنَّهُ يَعْبُدُها سِرًّا خَوْفًا مِنها أوْ طَمَعًا إلَيْها، وأمّا نَفْيُهُ عِبادَتَهم؛ فَلِأنَّ فِعْلَ الكافِرِ لَيْسَ بِعِبادَةٍ أصْلًا. الوَجْهُ الرّابِعُ: وهو اخْتِيارُ أبِي مُسْلِمٍ أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الأوَّلَيْنِ المَعْبُودُ ”وما“ بِمَعْنى الَّذِي، فَكَأنَّهُ قالَ: لا أعْبُدُ الأصْنامَ ولا تَعْبُدُونَ اللَّهَ، وأمّا في الأخِيرَيْنِ ”فَما“ مَعَ الفِعْلِ في تَأْوِيلِ المَصْدَرِ أيْ لا أعْبُدُ عِبادَتَكُمُ المَبْنِيَّةَ عَلى الشِّرْكَ وتَرْكِ النَّظَرِ، ولا أنْتُمْ تَعْبُدُونَ عِبادَتِي المَبْنِيَّةَ عَلى اليَقِينِ، فَإنْ زَعَمْتُمْ أنَّكم تَعْبُدُونَ إلَهِي، كانَ ذَلِكَ باطِلًا؛ لِأنَّ العِبادَةَ فِعْلٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وما تَفْعَلُونَهُ أنْتُمْ فَهو مَنهِيٌّ عَنْهُ، وغَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ. الوَجْهُ الخامِسُ: أنْ تُحْمَلَ الأُولى عَلى نَفْيِ الِاعْتِبارِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، والثّانِيَةُ عَلى النَّفْيِ العامِّ المُتَناوِلِ لِجَمِيعِ الجِهاتِ فَكَأنَّهُ أوَّلًا قالَ: ﴿ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ رَجاءَ أنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، ولا أنْتُمْ تَعْبُدُونَ اللَّهَ رَجاءَ أنْ أعْبُدَ أصْنامَكم، ثُمَّ قالَ: ولا أنا عابِدٌ صَنَمَكم لِغَرَضٍ مِنَ الأغْراضِ، ومَقْصُودٍ مِنَ المَقاصِدِ البَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ: ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، واعْتِبارٍ مِنَ الِاعْتِباراتِ، ومِثالُهُ مَن يَدْعُو غَيْرَهُ إلى الظُّلْمِ لِغَرَضِ التَّنْعِيمِ، فَيَقُولُ: لا أظْلِمُ لِغَرَضِ التَّنَعُّمِ بَلْ لا أظْلِمُ أصْلًا لا لِهَذا الغَرَضِ ولا لِسائِرِ الأغْراضِ. القَوْلُ الثّانِي: وهو أنْ نُسَلِّمَ حُصُولَ التِّكْرارِ، وعَلى هَذا القَوْلِ العُذْرُ عَنْهُ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّ التَّكْرِيرَ يُفِيدُ التَّوْكِيدَ وكُلَّما كانَتِ الحاجَةُ إلى التَّأْكِيدِ أشَدَّ كانَ التَّكْرِيرُ أحْسَنَ، ولا مَوْضِعَ أحْوَجُ إلى التَّأْكِيدِ مِن هَذا المَوْضِعِ؛ لِأنَّ أُولَئِكَ الكُفّارَ رَجَعُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في هَذا المَعْنى مِرارًا، وسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الجَوابِ، فَوَقَعَ في قُلُوبِهِمْ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ مالَ إلى دِينِهِمْ بَعْضَ المَيْلِ، فَلا جَرَمَ دَعَتِ الحاجَةُ إلى التَّأْكِيدِ والتَّكْرِيرِ في هَذا النَّفْيِ والإبْطالِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ كانَ القُرْآنُ يَنْزِلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وآيَةً بَعْدَ آيَةٍ جَوابًا عَمّا يَسْألُونَ فالمُشْرِكُونَ قالُوا: اسْتَلِمْ بَعْدُ آلِهَتَنا حَتّى نُؤْمِنَ بِإلَهِكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ ثُمَّ قالُوا بَعْدَ مُدَّةٍ: تَعْبُدُ آلِهَتَنا شَهْرًا ونَعْبُدُ إلَهَكَ شَهْرًا فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ ولَمّا كانَ هَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ مُحْتَمَلًا لَمْ يَكُنِ التِّكْرارُ عَلى هَذا الوَجْهِ مُضِرًّا البَتَّةَ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ الكُفّارَ ذَكَرُوا تِلْكَ الكَلِمَةَ مَرَّتَيْنِ تَعْبُدُ آلِهَتَنا شَهْرًا ونَعْبُدُ إلَهَكَ شَهْرًا وتَعْبُدُ آلِهَتَنا سَنَةً ونَعْبُدُ إلَهَكَ سَنَةً، فَأتى (p-١٣٦)الجَوابُ عَلى التَّكْرِيرِ عَلى وفْقِ قَوْلِهِمْ وهو ضَرْبٌ مِنَ التَّهَكُّمِ فَإنَّ مَن كَرَّرَ الكَلِمَةَ الواحِدَةَ لِغَرَضٍ فاسِدٍ يُجازى بِدَفْعِ تِلْكَ الكَلِمَةِ عَلى سَبِيلِ التِّكْرارِ اسْتِخْفافًا بِهِ واسْتِحْقارًا لِقَوْلِهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في الآيَةِ سُؤالٌ وهو أنَّ كَلِمَةَ: (ما) لا تَتَناوَلُ مَن يَعْلَمُ فَهَبْ أنَّ مَعْبُودَهم كانَ كَذَلِكَ فَصَحَّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِلَفْظِ ”ما“ لَكِنَّ مَعْبُودَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ هو أعْلَمُ العالَمِينَ فَكَيْفَ قالَ: ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ أجابُوا عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ المُرادَ مِنهُ الصِّفَةُ كَأنَّهُ قالَ: لا أعْبُدُ الباطِلَ وأنْتُمْ لا تَعْبُدُونَ الحَقَّ. وثانِيها: أنَّ ”ما“ مَصْدَرِيَّةٌ في الجُمْلَتَيْنِ كَأنَّهُ قالَ: لا أعْبُدُ عِبادَتَكم ولا تَعْبُدُونَ عِبادَتِي في المُسْتَقْبَلِ، ثُمَّ قالَ ثانِيًا: لا أعْبُدُ عِبادَتَكم ولا تَعْبُدُونَ عِبادَتِي في الحالِ. وثالِثُها: أنْ يَكُونَ ”ما“ بِمَعْنى الَّذِي وحِينَئِذٍ يَصِحُّ الكَلامُ. ورابِعُها: أنَّهُ لَمّا قالَ أوَّلًا: ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ حُمِلَ الثّانِي عَلَيْهِ لِيَتَّسِقَ الكَلامُ كَقَوْلِهِ: ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠] . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ أهْلُ الجَبْرِ بِأنَّهُ تَعالى أخْبَرَ عَنْهم مَرَّتَيْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ والخَبَرُ الصِّدْقُ عَنْ عَدَمِ الشَّيْءِ يُضادُّ وُجُودَ ذَلِكَ الشَّيِّ فالتَّكْلِيفُ بِتَحْصِيلِ العِبادَةِ مَعَ وُجُودِ الخَبَرِ الصِّدْقِ بِعَدَمِ العِبادَةِ تَكْلِيفٌ بِالجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، واعْلَمْ أنَّهُ بَقِيَ في الآيَةِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: ألَيْسَ أنَّ ذِكْرَ الوَجْهِ الَّذِي لِأجْلِهِ تُقَبَّحُ عِبادَةُ غَيْرِ اللَّهِ كانَ أوْلى مِن هَذا التَّكْرِيرِ ؟ الجَوابُ بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّأْكِيدُ والتَّكْرِيرُ أوْلى مِن ذِكْرِ الحُجَّةِ، إمّا لِأنَّ المُخاطَبَ بَلِيدٌ يَنْتَفِعُ بِالمُبالَغَةِ والتَّكْرِيرِ ولا يَنْتَفِعُ بِذِكْرِ الحُجَّةِ أوْ لِأجْلِ أنَّ مَحَلَّ النِّزاعِ يَكُونُ في غايَةِ الظُّهُورِ فالمُناظَرَةُ في مَسْألَةِ الجَبْرِ والقَدَرِ حَسَنَةٌ، أمّا القائِلُ بِالصَّنَمِ فَهو إمّا مَجْنُونٌ يَجِبُ شَدُّهُ أوْ عاقِلٌ مُعانِدٌ فَيَجِبُ قَتْلُهُ، وإنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلى قَتْلِهِ فَيَجِبُ شَتْمُهُ، والمُبالَغَةُ في الإنْكارِ عَلَيْهِ كَما في هَذِهِ الآيَةِ. السُّؤالُ الثّانِي: أنَّ أوَّلَ السُّورَةِ اشْتَمَلَ عَلى التَّشْدِيدِ، وهو النِّداءُ بِالكُفْرِ والتَّكْرِيرُ، وآخِرَها عَلى اللُّطْفِ والتَّساهُلِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿لَكم دِينُكم ولِيَ دِينِ﴾ فَكَيْفَ وجْهُ الجَمْعِ بَيْنَ الأمْرَيْنِ ؟ الجَوابُ: كَأنَّهُ يَقُولُ: إنِّي قَدْ بالَغْتُ في تَحْذِيرِكم عَلى هَذا الأمْرِ القَبِيحِ، وما قَصَّرْتُ فِيهِ، فَإنْ لَمْ تَقْبَلُوا قَوْلِي، فاتْرُكُونِي سَواءً بِسَواءٍ. السُّؤالُ الثّالِثُ: لَمّا كانَ التِّكْرارُ لِأجْلِ التَّأْكِيدِ والمُبالَغَةِ فَكانَ يَنْبَغِي أنْ يَقُولَ: لَنْ أعْبُدَ ما تَعْبُدُونَ؛ لِأنَّ هَذا أبْلَغُ، ألا تَرى أنَّ أصْحابَ الكَهْفِ لَمّا بالَغُوا قالُوا: ﴿لَنْ نَدْعُوَ مِن دُونِهِ إلَهًا﴾ [الكهف: ١٤] . والجَوابُ: المُبالَغَةُ إنَّما يُحْتاجُ إلَيْها في مَوْضِعِ التُّهْمَةِ، وقَدْ عَلِمَ كُلُّ أحَدٍ مِن مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ ما كانَ يَعْبُدُ الصَّنَمَ قَبْلَ الشَّرْعِ، فَكَيْفَ يَعْبُدُهُ بَعْدَ ظُهُورِ الشَّرْعِ، بِخِلافِ أصْحابِ الكَهْفِ فَإنَّهُ وُجِدَ مِنهم ذَلِكَ فِيما قَبْلُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب