الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ﴾ في الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في قَوْلِهِ: (فَصَلِّ) وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ هو الأمْرُ بِالصَّلاةِ، فَإنْ قِيلَ: اللّائِقُ عِنْدَ النِّعْمَةِ الشُّكْرُ، فَلِمَ قالَ: فَصَلِّ ولَمْ يَقُلْ: فاشْكُرْ ؟ الجَوابُ: مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ الشُّكْرَ عِبارَةٌ عَنِ التَّعْظِيمِ ولَهُ ثَلاثَةُ أرْكانٍ: أحَدُها: يَتَعَلَّقُ بِالقَلْبِ وهو أنْ يَعْلَمَ أنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ مِنهُ لا مِن غَيْرِهِ. والثّانِي: بِاللِّسانِ وهو أنْ يَمْدَحَهُ. والثّالِثُ: بِالعَمَلِ وهو أنْ يَخْدِمَهُ ويَتَواضَعَ لَهُ، والصَّلاةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلى هَذِهِ المَعانِي، وعَلى ما هو أزْيَدُ مِنها فالأمْرُ بِالصَّلاةِ أمْرٌ بِالشُّكْرِ وزِيادَةٌ فَكانَ الأمْرُ بِالصَّلاةِ أحْسَنَ. وثانِيها: أنَّهُ لَوْ قالَ فاشْكُرْ، لَكانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أنَّهُ ما كانَ شاكِرًا لَكِنَّهُ كانَ مِن أوَّلِ أمْرِهِ عارِفًا بِرَبِّهِ مُطِيعًا لَهُ شاكِرًا لِنِعَمِهِ، أمّا الصَّلاةُ فَإنَّهُ إنَّما عَرَفَها بِالوَحْيِ، قالَ: ﴿ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ ولا الإيمانُ﴾ [الشورى: ٥٢] . الثّالِثُ: أنَّهُ في أوَّلِ ما أمَرَهُ بِالصَّلاةِ قالَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: كَيْفَ أُصَلِّي ولَسْتُ عَلى الوُضُوءِ، فَقالَ اللَّهُ: ﴿إنّا أعْطَيْناكَ الكَوْثَرَ﴾ (p-١٢١)[الكوثر: ١] ثُمَّ ضَرَبَ جِبْرِيلُ بِجَناحِهِ عَلى الأرْضِ فَنَبَعَ ماءُ الكَوْثَرِ فَتَوَضَّأ فَقِيلَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ: فَصَلِّ، فَأمّا إذا حَمَلْنا الكَوْثَرَ عَلى الرِّسالَةِ، فَكَأنَّهُ قالَ: أعْطَيْتُكَ الرِّسالَةَ لِتَأْمُرَ نَفْسَكَ وسائِرَ الخَلْقِ بِالطّاعاتِ، وأشْرَفُها الصَّلاةُ فَصَلِّ لِرَبِّكَ. القَوْلُ الثّانِي: فَصَلِّ لِرَبِّكَ أيْ فاشْكُرْ لِرَبِّكَ، وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ وعِكْرِمَةَ، وعَلى هَذا القَوْلِ ذَكَرُوا في فائِدَةِ الفاءِ في قَوْلِهِ: ”فَصَلِّ“ وُجُوهًا: أحَدُها: التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ يَجِبُ عَلى الفَوْرِ لا عَلى التَّراخِي. وثانِيها: أنَّ المُرادَ مِن فاءِ التَّعْقِيبِ هَهُنا الإشارَةُ، إلى ما قَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] ثُمَّ إنَّهُ خَصَّ مُحَمَّدًا ﷺ في هَذا البابِ بِمَزِيدِ مُبالَغَةٍ، وهو قَوْلُهُ: ﴿واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ [الحجر: ٩٩] ولِأنَّهُ قالَ لَهُ: ﴿فَإذا فَرَغْتَ فانْصَبْ﴾ [الشرح: ٧] أيْ فَعَلَيْكَ بِأُخْرى عَقِيبَ الأُولى فَكَيْفَ بَعْدَ وُصُولِ نِعْمَتِي إلَيْكَ، ألا يَجِبَ عَلَيْكَ أنْ تَشْرَعَ في الشُّكْرِ عَقِيبَ ذَلِكَ. القَوْلُ الثّالِثُ: فَصَلِّ أيْ: فادْعُ اللَّهَ لِأنَّ الصَّلاةَ هي الدُّعاءُ، وفائِدَةُ الفاءِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: قَبْلَ سُؤالِكَ ودُعائِكَ ما بَخِلْنا عَلَيْكَ: (بِالكَوْثَرِ) فَكَيْفَ بَعْدَ سُؤالِكَ لَكِنْ: ”«سَلْ تُعْطَهْ واشْفَعْ تُشَفَّعْ» “ وذَلِكَ لِأنَّهُ كانَ أبَدًا في هَمِّ أُمَّتِهِ، واعْلَمْ أنَّ القَوْلَ الأوَّلَ أوْلى؛ لِأنَّهُ أقْرَبُ إلى عُرْفِ الشَّرْعِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿لِرَبِّكَ وانْحَرْ﴾ قَوْلانِ: الأوَّلُ: وهو قَوْلُ عامَّةِ المُفَسِّرِينَ: أنَّ المُرادَ هو نَحْرُ البُدْنِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: (وانْحَرْ) فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلاةِ، إمّا قَبْلَها أوْ فِيها أوْ بَعْدَها، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: قالَ الفَرّاءُ: مَعْناها اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ. وثانِيها: رَوى الأصْبَغُ بْنُ نُباتَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ قالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِجِبْرِيلَ: ”«ما هَذِهِ النَّحِيرَةُ الَّتِي أمَرَنِي بِها رَبِّي ؟ قالَ لَيْسَتْ بِنَحِيرَةٍ ولَكِنَّهُ يَأْمُرُكَ إذا تَحَرَّمْتَ لِلصَّلاةِ أنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ إذا كَبَّرْتَ وإذا رَكَعْتَ وإذا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ وإذا سَجَدْتَ فَإنَّهُ صَلاتُنا، وصَلاةُ المَلائِكَةِ الَّذِينَ في السَّماواتِ السَّبْعِ وإنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةً، وزِينَةُ الصَّلاةِ رَفْعُ اليَدَيْنِ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ» “ . وثالِثُها: رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ أنَّهُ فَسَّرَ هَذا النَّحْرَ بِوَضْعِ اليَدَيْنِ عَلى النَّحْرِ في الصَّلاةِ، وقالَ: رَفْعُ اليَدَيْنِ قَبْلَ الصَّلاةِ عادَةُ المُسْتَجِيرِ العائِذِ، ووَضْعُها عَلى النَّحْرِ عادَةُ الخاضِعِ الخاشِعِ. ورابِعُها: قالَ عَطاءٌ: مَعْناهُ اقْعُدْ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتّى يَبْدُوَ نَحْرُكَ. وخامِسُها: رُوِيَ عَنِ الضَّحّاكِ، وسُلَيْمانَ التَّيْمِيِّ أنَّهُما قالا: (انْحَرْ) مَعْناهُ ارْفَعْ يَدَيْكَ عَقِيبَ الدُّعاءِ إلى نَحْرِكَ، قالَ الواحِدِيُّ: وأصْلُ هَذِهِ الأقْوالِ كُلِّها مِنَ النَّحْرِ الَّذِي هو الصَّدْرُ يُقالُ لِمَذْبَحِ البَعِيرِ النَّحْرُ؛ لِأنَّ مَنحَرَهُ في صَدْرِهِ حَيْثُ يَبْدُو الحُلْقُومُ مِن أعْلى الصَّدْرِ فَمَعْنى النَّحْرِ في هَذا المَوْضِعِ هو إصابَةُ النَّحْرِ كَما يُقالُ: رَأْسُهُ وبَطْنُهُ إذا أصابَ ذَلِكَ مِنهُ، وأمّا قَوْلُ الفَرّاءِ: إنَّهُ عِبارَةٌ عَنِ اسْتِقْبالِ القِبْلَةِ فَقالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: النَّحْرُ انْتِصابُ الرَّجُلِ في الصَّلاةِ بِإزاءِ المِحْرابِ وهو أنْ يَنْصِبَ نَحْرَهُ بِإزاءِ القِبْلَةِ، ولا يَلْتَفِتَ يَمِينًا ولا شِمالًا، وقالَ الفَرّاءُ: مَنازِلُهم تَتَناحَرُ أيْ تَتَقابَلُ وأنْشَدَ: ؎أبا حَكَمٍ هَلْ أنْتَ عَمُّ مُجالِدٍ وسَيِّدُ أهْلِ الأبْطَحِ المُتَناحِرِ والنُّكْتَةُ المَعْنَوِيَّةُ فِيهِ كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: الكَعْبَةُ بَيْتِي وهي قِبْلَةُ صَلاتِكَ وقَلْبِكَ وقِبْلَةُ رَحْمَتِي ونَظَرُ عِنايَتِي، فَلْتَكُنِ القِبْلَتانِ مُتَناحِرَتَيْنِ قالَ الأكْثَرُونَ: حَمْلُهُ عَلى نَحْرِ البُدْنِ أوْلى لِوُجُوهٍ: أحَدُها: هو أنَّ اللَّهَ تَعالى كُلَّما ذَكَرَ الصَّلاةَ في كِتابِهِ ذَكَرَ الزَّكاةَ بَعْدَها. وثانِيها: أنَّ القَوْمَ كانُوا يُصَلُّونَ ويَنْحَرُونَ لِلْأوْثانِ فَقِيلَ لَهُ: فَصَلٍّ وانْحَرْ لِرَبِّكَ. وثالِثُها: أنَّ هَذِهِ الأشْياءَ آدابُ الصَّلاةِ وأبْعاضُها فَكانَتْ داخِلَةً تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾ فَوَجَبَ (p-١٢٢)أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ النَّحْرِ غَيْرَها؛ لِأنَّهُ يَبْعُدُ أنْ يُعْطَفَ بَعْضُ الشَّيْءِ عَلى جَمِيعِهِ. ورابِعُها: أنَّ قَوْلَهُ: (فَصَلِّ) إشارَةٌ إلى التَّعْظِيمِ لِأمْرِ اللَّهِ، وقَوْلُهُ: (وانْحَرْ) إشارَةٌ إلى الشَّفَقَةِ عَلى خَلْقِ اللَّهِ وجُمْلَةُ العُبُودِيَّةِ لا تَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ. وخامِسُها: أنَّ اسْتِعْمالَ لَفْظَةِ النَّحْرِ عَلى نَحْرِ البُدْنِ أشْهَرُ مِنِ اسْتِعْمالِهِ في سائِرِ الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ، فَيَجِبُ حَمْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: اسْتَدَلَّتِ الحَنَفِيَّةُ عَلى وُجُوبِ الأُضْحِيَّةِ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَهُ بِالنَّحْرِ، ولا بُدَّ وأنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَهُ؛ لِأنَّ تَرْكَ الواجِبِ عَلَيْهِ غَيْرُ جائِزٍ، وإذا فَعَلَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وجَبَ عَلَيْنا مِثْلُهُ لِقَوْلِهِ: (واتَّبِعُوهُ) [الأعراف: ١٥٨] ولِقَوْلِهِ: ﴿فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١] وأصْحابُنا قالُوا: الأمْرُ بِالمُتابَعَةِ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ: ”«ثَلاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ ولَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمُ، الضُّحى والأضْحى والوِتْرُ» “ . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفَ مَن فَسَّرَ قَوْلَهُ: (فَصَلِّ) بِالصَّلاةِ عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ أرادَ بِالصَّلاةِ جِنْسَ الصَّلاةِ؛ لِأنَّهم كانُوا يُصَلُّونَ لِغَيْرِ اللَّهِ، ويَنْحَرُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأمَرَهُ أنْ لا يُصَلِّيَ ولا يَنْحَرَ إلّا لِلَّهِ تَعالى، واحْتَجَّ مَن جَوَّزَ تَأْخِيرَ بَيانِ المُجْمَلِ بِهَذِهِ الآيَةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى أمَرَ بِالصَّلاةِ مَعَ أنَّهُ ما بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الصَّلاةِ، أجابَ أبُو مُسْلِمٍ، وقالَ: أرادَ بِهِ الصَّلاةَ المَفْرُوضَةَ أعْنِي الخَمْسَ وإنَّما لَمْ يَذْكُرِ الكَيْفِيَّةَ؛ لِأنَّ الكَيْفِيَّةَ كانَتْ مَعْلُومَةً مِن قَبْلُ. القَوْلُ الثّانِي: أرادَ صَلاةَ العِيدِ والأُضْحِيَّةَ؛ لِأنَّهم كانُوا يُقَدِّمُونَ الأُضْحِيَّةَ عَلى الصَّلاةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، قالَ المُحَقِّقُونَ: هَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِأنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلى غَيْرِهِ بِالواوِ لا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ. القَوْلُ الثّالِثُ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ صَلِّ الفَجْرَ بِالمُزْدَلِفَةِ وانْحَرْ بِمِنى، والأقْرَبُ القَوْلُ الأوَّلُ؛ لِأنَّهُ لا يَجِبُ إذا قُرِنَ ذِكْرُ النَّحْرِ بِالصَّلاةِ أنْ تُحْمَلَ الصَّلاةُ عَلى ما يَقَعُ يَوْمَ النَّحْرِ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿لِرَبِّكَ﴾ فِيها فَوائِدُ: الفائِدَةُ الأُولى: هَذِهِ اللّامُ لِلصَّلاةِ كالرُّوحِ لِلْبَدَنِ، فَكَما أنَّ البَدَنَ مِنَ الفَرْقِ إلى القَدَمِ، إنَّما يَكُونُ حَسَنًا مَمْدُوحًا إذا كانَ فِيهِ رُوحٌ أمّا إذا كانَ مَيِّتًا فَيَكُونُ مَرْمِيًّا، كَذا الصَّلاةُ والرُّكُوعُ والسُّجُودُ، وإنْ حَسُنَتْ في الصُّورَةِ وطالَتْ، لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيها لامُ لِرَبِّكَ، كانَتْ مَيْتَةً مَرْمِيَّةً، والمُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى لِمُوسى: ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: ١٤] وقِيلَ: إنَّهُ كانَتْ صَلاتُهم ونَحْرُهم لِلصَّنَمِ، فَقِيلَ لَهُ: لِتَكُنْ صَلاتُكَ ونَحْرُكَ لِلَّهِ. الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: ذَكَرَ في السُّورَةِ المُتَقَدِّمَةِ أنَّهم كانُوا يُصَلُّونَ لِلْمُراءاةِ، فَصَلِّ أنْتَ لا لِلرِّياءِ لَكِنْ عَلى سَبِيلِ الإخْلاصِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: الفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَصَلِّ﴾ تُفِيدُ سَبَبِيَّةَ أمْرَيْنِ: أحَدُهُما: سَبَبِيَّةُ العِبادَةِ كَأنَّهُ قِيلَ: تَكْثِيرُ الإنْعامِ عَلَيْكَ يُوجِبُ عَلَيْكَ الِاشْتِغالَ بِالعُبُودِيَّةِ. والثّانِي: سَبَبِيَّةُ تَرْكِ المُبالاةِ كَأنَّهم لَمّا قالُوا لَهُ: إنَّكَ أبْتَرُ فَقِيلَ لَهُ: كَما أنْعَمْنا عَلَيْكَ بِهَذِهِ النِّعَمِ الكَثِيرَةِ، فاشْتَغِلْ أنْتَ بِطاعَتِكَ، ولا تُبالِ بِقَوْلِهِمْ وهَذَيانِهِمْ. واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا كانَتِ النِّعَمُ الكَثِيرَةُ مَحْبُوبَةً ولازِمُ المَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ، والفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَصَلِّ﴾ اقْتَضَتْ كَوْنَ الصَّلاةِ مِن لَوازِمِ تِلْكَ النِّعَمِ، لا جَرَمَ صارَتِ الصَّلاةُ أحَبَّ الأشْياءِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَقالَ: ”«وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ» “ «ولَقَدْ صَلّى حَتّى تَوَرَّمَتْ قَدَماهُ، فَقِيلَ لَهُ: أوَلَيْسَ قَدْ غُفِرَ لَكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ ؟ فَقالَ: ”أفَلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» “ فَقَوْلُهُ: ”«أفَلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» “ إشارَةٌ إلى أنَّهُ يَجِبُ عَلَيَّ الِاشْتِغالُ بِالطّاعَةِ بِمُقْتَضى الفاءِ في قَوْلِهِ: (فَصَلِّ) . (p-١٢٣)المَسْألَةُ السّادِسَةُ: كانَ الألْيَقُ في الظّاهِرِ أنْ يَقُولَ: إنّا أعْطَيْناكَ الكَوْثَرَ، فَصَلِّ لَنا وانْحَرْ، لَكِنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ إلى قَوْلِهِ: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾ لِفَوائِدَ: إحْداها: أنَّ وُرُودَهُ عَلى طَرِيقِ الِالتِفاتِ مِن أُمَّهاتِ أبْوابِ الفَصاحَةِ. وثانِيها: أنَّ صَرْفَ الكَلامِ مِنَ المُضْمَرِ إلى المُظْهَرِ يُوجِبُ نَوْعَ عَظَمَةٍ ومَهابَةٍ، ومِنهُ قَوْلُ الخُلَفاءِ لِمَن يُخاطِبُونَهم: يَأْمُرُكَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ، ويَنْهاكَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ. وثالِثُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنّا أعْطَيْناكَ﴾ لَيْسَ في صَرِيحِ لَفْظِهِ أنَّ هَذا القائِلَ هو اللَّهُ أوْ غَيْرُهُ، وأيْضًا كَلِمَةُ: ”إنّا“ تَحْتَمِلُ الجَمْعَ كَما تَحْتَمِلُ الواحِدَ المُعَظِّمَ نَفْسَهُ، فَلَوْ قالَ: صَلِّ لَنا، لَنُفِيَ ذَلِكَ الِاحْتِمالُ وهو أنَّهُ ما كانَ يَعْرِفُ أنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لِلَّهِ وحْدَهُ أمْ لَهُ ولِغَيْرِهِ عَلى سَبِيلِ التَّشْرِيكِ، فَلِهَذا تَرَكَ اللَّفْظَ، وقالَ: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾ لِيَكُونَ ذَلِكَ إزالَةً لِذَلِكَ الِاحْتِمالِ وتَصْرِيحًا بِالتَّوْحِيدِ في الطّاعَةِ والعَمَلِ لِلَّهِ تَعالى. المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾ أبْلَغُ مِن قَوْلِهِ: فَصَلِّ لِلَّهِ؛ لِأنَّ لَفْظَ الرَّبِّ يُفِيدُ التَّرْبِيَةَ المُتَقَدِّمَةَ المُشارَ إلَيْها بِقَوْلِهِ: ﴿إنّا أعْطَيْناكَ الكَوْثَرَ﴾ ويُفِيدُ الوَعْدَ الجَمِيلَ في المُسْتَقْبَلِ أنَّهُ يُرَبِّيهِ ولا يَتْرُكُهُ. المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: في الآيَةِ سُؤالانِ: أحَدُهُما: أنَّ المَذْكُورَ عَقِبَ الصَّلاةِ هو الزَّكاةُ، فَلِمَ كانَ المَذْكُورُ هَهُنا هو النَّحْرَ ؟ . والثّانِي: لِمَ لَمْ يَقُلْ: ضَحِّ حَتّى يَشْمَلَ جَمِيعَ أنْواعِ الضَّحايا ؟ والجَوابُ: عَنِ الأوَّلِ، أمّا عَلى قَوْلِ مَن قالَ: المُرادُ مِنَ الصَّلاةِ صَلاةُ العِيدِ، فالأمْرُ ظاهِرٌ فِيهِ، وأمّا عَلى قَوْلِ مَن حَمَلَهُ عَلى مُطْلَقِ الصَّلاةِ، فَلِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ المُشْرِكِينَ كانَتْ صَلَواتُهم وقَرابِينُهم لِلْأوْثانِ، فَقِيلَ لَهُ: اجْعَلْهُما لِلَّهِ. وثانِيها: أنَّ مِنَ النّاسِ مَن قالَ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ يَدْخُلُ في مِلْكِهِ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيا، بَلْ كانَ يَمْلِكُ بِقَدْرِ الحاجَةِ، فَلا جَرَمَ لَمْ تَجِبِ الزَّكاةُ عَلَيْهِ، أمّا النَّحْرُ فَقَدْ كانَ واجِبًا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: ”«ثَلاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ ولَمْ تُكْتَبْ عَلى أُمَّتِي: الضُّحى والأضْحى والوِتْرُ» “ . وثالِثُها: أنَّ أعَزَّ الأمْوالِ عِنْدَ العَرَبِ، هو الإبِلُ فَأمَرَهُ بِنَحْرِها وصَرَفَها إلى طاعَةِ اللَّهِ تَعالى تَنْبِيهًا عَلى قَطْعِ العَلائِقِ النَّفْسانِيَّةِ عَنْ لَذّاتِ الدُّنْيا وطَيِّباتِها، رُوِيَ «أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أهْدى مِائَةَ بَدَنَةٍ فِيها جَمَلٌ لِأبِي جَهْلٍ في أنْفِهِ بُرَةٌ مِن ذَهَبٍ فَنَحَرَ هو عَلَيْهِ السَّلامُ حَتّى أعْيا، ثُمَّ أمَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَلِكَ، وكانَتِ النُّوقُ يَزْدَحِمْنَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ، فَلَمّا أخَذَ عَلِيٌّ السِّكِّينَ تَباعَدَتْ مِنهُ» . والجَوابُ عَنِ الثّانِي: أنَّ الصَّلاةَ أعْظَمُ العِباداتِ البَدَنِيَّةِ فَقَرَنَ بِها أعْظَمَ أنْواعِ الضَّحايا، وأيْضًا فِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّكَ بَعْدَ فَقْرِكَ تَصِيرُ بِحَيْثُ تَنْحَرُ المِائَةَ مِنَ الإبِلِ. المَسْألَةُ التّاسِعَةُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الصَّلاةِ عَلى النَّحْرِ، لا لِأنَّ الواوَ تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، بَلْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «ابْدَءُوا بِما بَدَأ اللَّهُ بِهِ» . المَسْألَةُ العاشِرَةُ: السُّورَةُ مَكِّيَّةُ في أصَحِّ الأقْوالِ، وكانَ الأمْرُ بِالنَّحْرِ جارِيًا مُجْرى البِشارَةِ بِحُصُولِ الدَّوْلَةِ، وزَوالِ الفَقْرِ والخَوْفِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب