الباحث القرآني

ثُمَّ وصَفَهُ تَعالى بِضَرْبٍ آخَرَ مِنَ الجَهْلِ فَقالَ: ﴿يَحْسَبُ أنَّ مالَهُ أخْلَدَهُ﴾ . واعْلَمْ أنْ أخْلَدَهُ وخَلَّدَهُ بِمَعْنًى واحِدٍ، ثُمَّ في التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ: أحَدُها: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى طُولَ المالِ أمَّلَهُ، حَتّى أصْبَحَ لِفَرْطِ غَفْلَتِهِ وطُولِ أمَلِهِ، يَحْسَبُ أنَّ مالَهُ تَرَكَهُ خالِدًا في الدُّنْيا لا يَمُوتُ وإنَّما قالَ: (أخْلَدَهُ) ولَمْ يَقُلْ: يُخَلِّدُهُ؛ لِأنَّ المُرادَ يَحْسَبُ هَذا الإنْسانُ أنَّ المالَ ضَمِنَ لَهُ الخُلُودَ وأعْطاهُ الأمانَ مِنَ المَوْتِ وكَأنَّهُ حُكْمٌ قَدْ فُرِغَ مِنهُ، ولِذَلِكَ ذَكَرَهُ عَلى الماضِي. قالَ الحَسَنُ: ما رَأيْتُ يَقِينًا لا شَكَّ فِيهِ أشْبَهَ بِشَكٍّ لا يَقِينَ فِيهِ كالمَوْتِ. وثانِيها: يَعْمَلُ الأعْمالَ المُحْكَمَةَ كَتَشْيِيدِ البُنْيانِ بِالآجُرِّ والجِصِّ، عَمَلَ مَن يَظُنُّ أنَّهُ يَبْقى حَيًّا أوْ لِأجْلِ أنْ يُذْكَرَ بِسَبَبِهِ بَعْدَ المَوْتِ. وثالِثُها: أحَبَّ المالَ حُبًّا شَدِيدًا حَتّى اعْتَقَدَ أنَّهُ: إنِ انْتَقَصَ مالِي أمُوتُ، فَلِذَلِكَ يَحْفَظُهُ مِنَ النُّقْصانِ لِيَبْقى حَيًّا، وهَذا غَيْرُ بَعِيدٍ مِنِ اعْتِقادِ البَخِيلِ. ورابِعُها: أنَّ هَذا تَعْرِيضٌ بِالعَمَلِ الصّالِحِ وأنَّهُ هو الَّذِي يُخَلِّدُ صاحِبَهُ في الدُّنْيا بِالذِّكْرِ الجَمِيلِ وفي الآخِرَةِ في النَّعِيمِ المُقِيمِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: (كَلّا) فَفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ رَدْعٌ لَهُ عَنْ حُسْبانِهِ أيْ: لَيْسَ الأمْرُ كَما يَظُنُّ أنَّ المالَ يُخَلِّدُهُ بَلِ العِلْمُ والصَّلاحُ، ومِنهُ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ: ماتَ خُزّانُ المالِ وهم أحْياءٌ والعُلَماءُ باقُونَ ما بَقِيَ الدَّهْرُ والقَوْلُ الثّانِي مَعْناهُ: حَقًّا (لَيُنْبَذَنَّ) واللّامُ في: (لَيُنْبَذَنَّ) جَوابُ القَسَمِ المُقَدَّرِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى حُصُولِ مَعْنى القَسَمِ في ”كَلّا“ . أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيُنْبَذَنَّ في الحُطَمَةِ﴾ ﴿وما أدْراكَ ما الحُطَمَةُ﴾ فَإنَّما ذَكَرَهُ بِلَفْظِ النَّبْذِ الدّالِّ عَلى الإهانَةِ، لِأنَّ الكافِرَ كانَ يَعْتَقِدُ أنَّهُ مِن أهْلِ الكَرامَةِ، وقُرِئَ ”لَيُنْبَذانِ“ أيْ هو ومالُهُ، و”لَيُنْبَذُنَّ“ بِضَمِّ الذّالِ أيْ هو وأنْصارُهُ، وأمّا: (الحُطَمَةِ) فَقالَ المُبَرِّدُ: إنَّها النّارُ الَّتِي تَحْطِمُ كُلَّ مَن وقَعَ فِيها ورَجُلٌ حُطَمَةٌ أيْ شَدِيدُ الأكْلِ يَأْتِي عَلى زادِ القَوْمِ، وأصْلُ الحَطْمِ في اللُّغَةِ الكَسْرُ، ويُقالُ: شَرُّ الرِّعاءِ الحُطَمَةُ، يُقالُ: راعٍ حُطَمَةٌ وحُطَمٌ بِغَيْرِ هاءٍ كَأنَّهُ يَحْطِمُ الماشِيَةَ أيْ يَكْسِرُها عِنْدَ سَوْقِها لِعُنْفِهِ، قالَ المُفَسِّرُونَ: الحُطَمَةُ اسْمٌ مِن أسْماءِ النّارِ وهي الدَّرَكَةُ الثّانِيَةُ مِن دَرَكاتِ النّارِ، وقالَ مُقاتِلٌ: هي تَحْطِمُ العِظامَ وتَأْكُلُ اللُّحُومَ حَتّى تَهْجُمَ عَلى القُلُوبِ، (p-٨٩)ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «إنِ المَلَكَ لَيَأْخُذُ الكافِرَ فَيَكْسِرُهُ عَلى صُلْبِهِ كَما تُوضَعُ الخَشَبَةُ عَلى الرُّكْبَةِ فَتُكْسَرُ، ثُمَّ يُرْمى بِهِ في النّارِ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب