الباحث القرآني
(p-٣٤)
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهم بِإيمانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ في جَنّاتِ النَّعِيمِ﴾ ﴿دَعْواهم فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وتَحِيَّتُهم فِيها سَلامٌ وآخِرُ دَعْواهم أنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا شَرَحَ أحْوالَ المُنْكِرِينَ والجاحِدِينَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ، ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أحْوالَ المُؤْمِنِينَ المُحِقِّينَ، واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ صِفاتِهِمْ أوَّلًا، ثُمَّ ذَكَرَ ما لَهم مِنَ الأحْوالِ السَّنِيَّةِ والدَّرَجاتِ الرَّفِيعَةِ ثانِيًا. أمّا أحْوالُهم وصِفاتُهم فَهي قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ وفي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ النَّفْسَ الإنْسانِيَّةَ لَها قُوَّتانِ:
القُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ، وكَمالُها في مَعْرِفَةِ الأشْياءِ، ورَئِيسُ المَعارِفِ وسُلْطانُها مَعْرِفَةُ اللَّهِ.
والقُوَّةُ العَمَلِيَّةُ، وكَمالُها في فِعْلِ الخَيْراتِ والطّاعاتِ، ورَئِيسُ الأعْمالِ الصّالِحَةِ وسُلْطانُها خِدْمَةُ اللَّهِ. فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إشارَةٌ إلى كَمالِ القُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى وقَوْلُهُ: ﴿وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ إشارَةٌ إلى كَمالِ القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ بِخِدْمَةِ اللَّهِ تَعالى، ولَمّا كانَتِ القُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ مُقَدَّمَةً عَلى القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ بِالشَّرَفِ والرُّتْبَةِ، لا جَرَمَ وجَبَ تَقْدِيمُها في الذِّكْرِ.
الوَجْهُ الثّانِي في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: قالَ القَفّالُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ أيْ: صَدَّقُوا بِقُلُوبِهِمْ، ثُمَّ حَقَّقُوا التَّصْدِيقَ بِالعَمَلِ الصّالِحِ الَّذِي جاءَتْ بِهِ الأنْبِياءُ والكُتُبُ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى.
الوَجْهُ الثّالِثُ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيْ شَغَلُوا قُلُوبَهم وأرْواحَهم بِتَحْصِيلِ المَعْرِفَةِ ﴿وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ أيْ شَغَلُوا جَوارِحَهم بِالخِدْمَةِ، فَعَيْنُهم مَشْغُولَةٌ بِالِاعْتِبارِ كَما قالَ: ﴿فاعْتَبِرُوا ياأُولِي الأبْصارِ﴾ [الحشر: ٢] وأُذُنُهم مَشْغُولَةٌ بِسَماعِ كَلامِ اللَّهِ تَعالى كَما قالَ: ﴿وإذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ﴾ [المائدة: ٨٣] ولِسانُهم مَشْغُولٌ بِذِكْرِ اللَّهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ﴾ [الأحزاب: ٤١] وجَوارِحُهم مَشْغُولَةٌ بِنُورِ طاعَةِ اللَّهِ كَما قالَ: ﴿ألّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [النمل: ٢٥] .
* * *
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَهم بِالإيمانِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ دَرَجاتِ كَراماتِهِمْ ومَراتِبَ سَعاداتِهِمْ وهي أرْبَعَةٌ.
المَرْتَبَةُ الأُولى قَوْلُهُ: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهم بِإيمانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ في جَنّاتِ النَّعِيمِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهم بِإيمانِهِمْ﴾ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى يَهْدِيهِمْ إلى الجَنَّةِ ثَوابًا لَهم عَلى إيمانِهِمْ وأعْمالِهِمُ الصّالِحَةِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا التَّأْوِيلِ وُجُوهٌ، أحَدُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَرى المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهم بَيْنَ أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ﴾ [الحديد: ١٢] .
وثانِيها: ما رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”«إنَّ المُؤْمِنَ إذا خَرَجَ مِن قَبْرِهِ صُوِّرَ لَهُ عَمَلُهُ في صُورَةٍ حَسَنَةٍ، فَيَقُولُ لَهُ: أنا عَمَلُكَ، فَيَكُونُ لَهُ نُورًا وقائِدًا إلى الجَنَّةِ، والكافِرُ إذا خَرَجَ مِن قَبْرِهِ صُوِّرَ لَهُ عَمَلُهُ في صُورَةٍ سَيِّئَةٍ، فَيَقُولُ لَهُ: أنا عَمَلُكَ، فَيَنْطَلِقُ بِهِ حَتّى يُدْخِلُهُ النّارَ» “ .
وثالِثُها: قالَ مُجاهِدٌ: المُؤْمِنُونَ يَكُونُ لَهم نُورٌ يَمْشِي بِهِمْ إلى الجَنَّةِ.
ورابِعُها: وهو الوَجْهُ العَقْلِيُّ أنَّ الإيمانَ عِبارَةٌ عَنْ نُورٍ اتَّصَلَ بِهِ مِن عالَمِ القُدْسِ، وذَلِكَ النُّورُ كالخَيْطِ المُتَّصِلِ بَيْنَ قَلْبِ المُؤْمِنِ وبَيْنَ ذَلِكَ العالَمِ المُقَدَّسِ، فَإنْ حَصَلَ هَذا الخَطُّ النُّورانِيُّ قَدَرَ العَبْدُ عَلى أنْ يَقْتَدِيَ بِذَلِكَ النُّورِ ويَرْجِعَ إلى (p-٣٥)عالَمِ القُدْسِ، فَأمّا إذا لَمْ يُوجَدُ هَذا الحَبْلُ النُّورانِيُّ تاهَ في ظُلُماتِ عالَمِ الضَّلالاتِ، نُعُوذُ بِاللَّهِ مِنهُ.
والتَّأْوِيلُ الثّانِي: قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: إنَّ إيمانَهم يَهْدِيهِمْ إلى خَصائِصَ في المَعْرِفَةِ ومَزايا في الألْفاظِ ولَوامِعَ مِنَ النُّورِ تَسْتَنِيرُ بِها قُلُوبُهم، وتَزُولُ بِواسِطَتِها الشُّكُوكُ والشُّبُهاتُ عَنْهم، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهم هُدًى﴾ [محمد: ١٧] وهَذِهِ الزَّوائِدُ والفَوائِدُ والمَزايا يَجُوزُ حُصُولُها في الدُّنْيا قَبْلَ المَوْتِ، ويَجُوزُ حُصُولُها في الآخِرَةِ بَعْدَ المَوْتِ. قالَ القَفّالُ: وإذا حَمَلْنا الآيَةَ عَلى هَذا الوَجْهِ، كانَ المَعْنى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهم بِإيمانِهِمْ وتَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ في جَنّاتِ النَّعِيمِ، إلّا أنَّهُ حُذِفَ الواوُ وجُعِلَ قَوْلُهُ: ﴿تَجْرِي﴾ خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا مُنْقَطِعًا عَمّا قَبْلَهُ:
والتَّأْوِيلُ الثّالِثُ: أنَّ الكَلامَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِمُقَدَّماتٍ.
المُقَدَّمَةُ الأُولى: أنَّ العِلْمَ نُورٌ والجَهْلَ ظُلْمَةٌ. وصَرِيحُ العَقْلِ يَشْهَدُ بِأنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ، ومِمّا يُقَرِّرُهُ أنَّكَ إذا ألْقَيْتَ مَسْألَةً جَلِيلَةً شَرِيفَةً عَلى شَخْصَيْنِ، فاتَّفَقَ أنْ فَهِمَها أحَدُهُما وما فَهِمَها الآخَرُ، فَإنَّكَ تَرى وجْهَ الفاهِمِ مُتَهَلِّلًا مُشْرِقًا مُضِيئًا، ووَجْهَ مَن لَمْ يَفْهَمْ عَبُوسًا مُظْلِمًا مُنْقَبِضًا، ولِهَذا السَّبَبِ جَرَتْ عادَةُ القُرْآنِ بِالتَّعْبِيرِ عَنِ العِلْمِ والإيمانِ بِالنُّورِ، وعَنِ الجَهْلِ والكُفْرِ بِالظُّلُماتِ.
والمُقَدَّمَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ الرُّوحَ كاللَّوْحِ والعُلُومَ والمَعارِفَ كالنُّقُوشِ المَنقُوشَةِ في ذَلِكَ اللَّوْحِ. ثُمَّ هاهُنا دَقِيقَةٌ، وهي أنَّ اللَّوْحَ الجُسْمانِيَّ إذا رُسِمَتْ فِيهِ نُقُوشٌ جُسْمانِيَّةٌ فَحُصُولُ بَعْضِ النُّقُوشِ في ذَلِكَ اللَّوْحِ مانِعٌ مِن حُصُولِ سائِرِ النُّقُوشِ فِيهِ، فَأمّا لَوْحُ الرُّوحِ فَخاصِّيَّتُهُ عَلى الضِّدِّ مِن ذَلِكَ، فَإنَّ الرُّوحَ إذا كانَتْ خالِيَةً عَنْ نُقُوشِ المَعارِفِ والعُلُومِ، فَإنَّهُ يَصْعُبُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ المَعارِفِ والعُلُومِ، فَإذا احْتالَ وحَصَلَ شَيْءٌ مِنها، كانَ حُصُولُ ما حَصَلَ مِنها مُعِينًا لَهُ عَلى سُهُولَةِ تَحْصِيلِ الباقِي، وكُلَّما كانَ الحاصِلُ أكْثَرَ كانَ تَحْصِيلُ البَقِيَّةِ أسْهَلَ، فالنُّقُوشُ الجُسْمانِيَّةُ يَكُونُ بَعْضُها مانِعًا مِن حُصُولِ الباقِي، والنُّقُوشُ الرُّوحانِيَّةُ يَكُونُ بَعْضُها مُعِينًا عَلى حُصُولِ البَقِيَّةِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ أحْوالَ العالَمِ الرُّوحانِيِّ بِالضِّدِّ مِن أحْوالِ العالَمِ الجُسْمانِيِّ.
المُقَدَّمَةُ الثّالِثَةُ: أنَّ الأعْمالَ الصّالِحَةَ عِبارَةٌ عَنِ الأعْمالِ الَّتِي تَحْمِلُ النَّفْسَ عَلى تَرْكِ الدُّنْيا وطَلَبِ الآخِرَةِ، والأعْمالَ المَذْمُومَةَ ما تَكُونُ بِالضِّدِّ مِن ذَلِكَ.
إذا عَرَفْتَ هَذِهِ المُقَدَّماتِ فَنَقُولُ: الإنْسانُ إذا آمَنَ بِاللَّهِ فَقَدْ أشْرَقَ رُوحُهُ بِنُورِ هَذِهِ المَعْرِفَةِ، ثُمَّ إذا واظَبَ عَلى الأعْمالِ الصّالِحَةِ حَصَلَتْ لَهُ مَلَكَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ في التَّوَجُّهِ إلى الآخِرَةِ وفي الإعْراضِ عَنِ الدُّنْيا، وكُلَّما كانَتْ هَذِهِ الأحْوالُ أكْمَلَ كانَ اسْتِعْدادُ النَّفْسِ لِتَحْصِيلِ سائِرِ المَعارِفِ أشَدَّ، وكُلَّما كانَ الِاسْتِعْدادُ أقْوى وأكْمَلَ كانَتْ مَعارِجُ المَعارِفِ أكْثَرَ وإشْراقُها ولَمَعانُها أقْوى، ولَمّا كانَ لا نِهايَةَ لِمَراتِبِ المَعارِفِ والأنْوارِ العَقْلِيَّةِ، لا جَرَمَ لا نِهايَةَ لِمَراتِبِ هَذِهِ الهِدايَةِ المُشارِ إلَيْها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهم بِإيمانِهِمْ﴾ .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ﴾ المُرادُ مِنهُ أنَّهم يَكُونُونَ جالِسِينَ عَلى سُرُرٍ مَرْفُوعَةٍ في البَساتِينِ والأنْهارُ تَجْرِي مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ [مريم: ٢٤] وهي ما كانَتْ قاعِدَةً عَلَيْها، ولَكِنَّ المَعْنى: بَيْنَ يَدَيْكِ، وكَذا قَوْلُهُ: ﴿وهَذِهِ الأنْهارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي﴾ [الزخرف: ٥١] المَعْنى: بَيْنَ يَدَيَّ، فَكَذا هاهُنا. (p-٣٦)
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الإيمانُ هو المَعْرِفَةُ والهِدايَةُ المُتَرَتِّبَةُ عَلَيْها أيْضًا مِن جِنْسِ المَعارِفِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمْ يَقُلْ يَهْدِيهِمْ رَبُّهم إيمانَهم. بَلْ قالَ: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهم بِإيمانِهِمْ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ العِلْمَ بِالمُقَدَّمَتَيْنِ لا يُوجِبُ العِلْمَ بِالنَّتِيجَةِ، بَلِ العِلْمُ بِالمُقَدَّمَتَيْنِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الِاسْتِعْدادِ التّامِّ لِقَبُولِ النَّفْسِ لِلنَّتِيجَةِ. ثُمَّ إذا حَصَلَ هَذا الِاسْتِعْدادُ، كانَ التَّكْوِينُ مِنَ الحَقِّ سُبْحانَهُ وتَعالى، وهَذا مَعْنى قَوْلِ الحُكَماءِ أنَّ الفَيّاضَ المُطْلَقَ والجَوادَ الحَقَّ، لَيْسَ إلّا اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى.
* * *
المَرْتَبَةُ الثّانِيَةُ مِن مَراتِبِ سَعاداتِهِمْ ودَرَجاتِ كَمالاتِهِمْ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿دَعْواهم فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في دَعْواهم وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ الدَّعْوى هاهُنا بِمَعْنى الدُّعاءِ، يُقالُ: دَعا يَدْعُو دُعاءً ودَعْوى، كَما يُقالُ: شَكا يَشْكُو شِكايَةً وشَكْوى. قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: ﴿دَعْواهُمْ﴾ أيْ: دُعاؤُهم. وقالَ تَعالى في أهْلِ الجَنَّةِ: ﴿لَهم فِيها فاكِهَةٌ ولَهم ما يَدَّعُونَ﴾ [يس: ٥٧] وقالَ في آيَةٍ أُخْرى ﴿يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾ [الدخان: ٥٥] ومِمّا يُقَوِّي أنَّ المُرادَ مِنَ الدَّعْوى هاهُنا الدُّعاءُ، هو أنَّهم قالُوا: اللَّهُمَّ، وهَذا نِداءٌ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، ومَعْنى قَوْلِهِمْ: ﴿سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ﴾ إنّا نُسَبِّحَكَ، كَقَوْلِ القانِتِ في دُعاءِ القُنُوتِ: ”اللَّهُمَّ إيّاكَ نَعْبُدُ“ .
الثّانِي: أنْ يُرادَ بِالدُّعاءِ العِبادَةُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأعْتَزِلُكم وما تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [مريم: ٤٨] أيْ: وما تَعْبُدُونَ. فَيَكُونُ مَعْنى الآيَةِ أنَّهُ لا عِبادَةَ لِأهْلِ الجَنَّةِ إلّا أنْ يُسَبِّحُوا اللَّهَ ويَحْمَدُوهُ، ويَكُونُ اشْتِغالُهم بِذَلِكَ الذِّكْرِ لا عَلى سَبِيلِ التَّكْلِيفِ، بَلْ عَلى سَبِيلِ الِابْتِهاجِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى.
الثّالِثُ: قالَ بَعْضُهم: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الدَّعْوى نَفْسَ الدَّعْوى الَّتِي تَكُونُ لِلْخَصْمِ عَلى الخَصْمِ، والمَعْنى: أنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَدْعُونَ في الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعالى عَنْ كُلِّ المَعايِبِ، والإقْرارَ لَهُ بِالإلَهِيَّةِ. قالَ القَفّالُ: أصِلُ ذَلِكَ أيْضًا مِنَ الدُّعاءِ؛ لِأنَّ الخَصْمَ يَدْعُو خَصْمَهُ إلى مَن يَحْكُمُ بَيْنَهُما.
الرّابِعُ: قالَ مُسْلِمٌ: ﴿دَعْواهُمْ﴾ أيْ: قَوْلُهم وإقْرارُهم ونِداؤُهم، وذَلِكَ هو قَوْلُهم: ﴿سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ﴾ .
الخامِسُ: قالَ القاضِي: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿دَعْواهُمْ﴾ أيْ: طَرِيقَتُهم في تَمْجِيدِ اللَّهِ تَعالى وتَقْدِيسِهِ وشَأْنُهم وسُنَّتُهم. والدَّلِيلُ عَلى أنَّ المُرادَ ذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ﴾ لَيْسَ بِدُعاءٍ ولا بِدَعْوى، إلّا أنَّ المُدَّعِيَ لِلشَّيْءِ يَكُونُ مُواظِبًا عَلى ذِكْرِهِ، لا جَرَمَ جَعَلَ لَفْظَ الدَّعْوى كِنايَةً عَنْ تِلْكَ المُواظَبَةِ والمُلازَمَةِ. فَأهْلُ الجَنَّةِ لَمّا كانُوا مُواظِبِينَ عَلى هَذا الذِّكْرِ، لا جَرَمَ أطْلَقَ لَفْظَ الدَّعْوى عَلَيْها.
السّادِسُ: قالَ القَفّالُ: قِيلَ في قَوْلِهِ: ﴿ولَهم ما يَدَّعُونَ﴾ [يس: ٥٧] أيْ: ما يَتَمَنَّوْنَهُ، والعَرَبُ تَقُولُ: ادْعُ ما شِئْتَ عَلَيَّ، أيْ: تَمَنَّ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أُخْبِرْتُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿دَعْواهم فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ﴾ هو أنَّهُ إذا مَرَّ بِهِمْ طَيْرٌ يَشْتَهُونَهُ قالُوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ، فَيَأْتِيهِمُ المَلَكُ بِذَلِكَ المُشْتَهى، فَقَدْ خَرَجَ تَأْوِيلُ الآيَةِ مِن هَذا الوَجْهِ عَلى أنَّهم إذا اشْتَهَوُا الشَّيْءَ قالُوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ، فَكانَ المُرادُ مِن دَعْواهم ما حَصَلَ في قُلُوبِهِمْ مِنَ التَّمَنِّي. وفي هَذا التَّفْسِيرِ وجْهٌ آخَرُ هو أفْضَلُ وأشْرَفُ مِمّا تَقَدَّمَ، وهو أنْ يَكُونَ المَعْنى أنَّ تَمَنِّيَهم في الجَنَّةِ أنْ يُسَبِّحُوا اللَّهَ تَعالى، أيْ: تَمَنِّيهِمْ لِما يَتَمَنَّوْنَهُ، لَيْسَ إلّا في تَسْبِيحِ اللَّهِ تَعالى وتَقْدِيسِهِ وتَنْزِيهِهِ.
السّابِعُ: قالَ القَفّالُ أيْضًا: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى في الدَّعْوى: ما كانُوا يَتَداعَوْنَهُ في الدُّنْيا في أوْقاتِ حُرُوبِهِمْ مِمَّنْ يَسْكُنُونَ إلَيْهِ ويَسْتَنْصِرُونَهُ، كَقَوْلِهِمْ: يا آلَ فُلانٍ، فَأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّ أُنْسَهم في الجَنَّةِ بِذِكْرِهِمُ اللَّهَ تَعالى، وسُكُونَهِمْ بِتَحْمِيدِهِمُ اللَّهَ. ولَذَّتَهم بِتَمْجِيدِهِمُ اللَّهَ تَعالى. (p-٣٧)
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ﴾ فِيهِ وجْهانِ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: قَوْلُ مَن يَقُولُ: إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ جَعَلُوا هَذا الذِّكْرَ عَلامَةً عَلى طَلَبِ المُشْتَهَياتِ، قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إذا مَرَّ بِهِمْ طَيْرٌ اشْتَهَوْهُ قالُوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ؛ فَيُؤْتَوْنَ بِهِ، فَإذا نالُوا مِنهُ شَهْوَتَهم قالُوا: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ وقالَ الكَلْبِيُّ: قَوْلُهُ: ﴿سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ﴾ عَلَمٌ بَيْنَ أهْلِ الجَنَّةِ والخُدّامِ، فَإذا سَمِعُوا ذَلِكَ مِن قَوْلِهِمْ أتَوْهم بِما يَشْتَهُونَ. واعْلَمْ أنَّ هَذا القَوْلَ عِنْدِي ضَعِيفٌ جِدًّا، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ حاصِلَ هَذا الكَلامِ يَرْجِعُ إلى أنَّ أهْلَ الجَنَّةِ جَعَلُوا هَذا الذِّكْرَ العالِيَ المُقَدَّسَ عَلامَةً عَلى طَلَبِ المَأْكُولِ والمَشْرُوبِ والمَنكُوحِ، وهَذا في غايَةِ الخَساسَةِ.
وثانِيها: أنَّهُ تَعالى قالَ في صِفَةِ أهْلِ الجَنَّةِ: ﴿ولَهم ما يَشْتَهُونَ﴾ فَإذا اشْتَهَوْا أكْلَ ذَلِكَ الطَّيْرِ، فَلا حاجَةَ بِهِمْ إلى الطَّلَبِ، وإذا لَمْ يَكُنْ بِهِمْ حاجَةٌ إلى الطَّلَبِ، فَقَدْ سَقَطَ هَذا الكَلامُ.
وثالِثُها: أنَّ هَذا يَقْتَضِي صَرْفَ الكَلامِ عَنْ ظاهِرِهِ الشَّرِيفِ العالِي إلى مَحْمَلٍ خَسِيسٍ لا إشْعارَ لِلَّفْظِ بِهِ، وهَذا باطِلٌ.
الوَجْهُ الثّانِي في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ أنْ نَقُولَ: المُرادُ اشْتِغالُ أهْلِ الجَنَّةِ بِتَقْدِيسِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَمْجِيدِهِ والثَّناءِ عَلَيْهِ، لِأجْلِ أنَّ سَعادَتَهم في هَذا الذِّكْرِ وابْتِهاجَهم بِهِ وسُرُورَهم بِهِ، وكَمالَ حالِهِمْ لا يَحْصُلُ إلّا مِنهُ، وهَذا القَوْلُ هو الصَّحِيحُ الَّذِي لا مَحِيدَ عَنْهُ. ثُمَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَفي الآيَةِ وُجُوهٌ، أحَدُها: قالَ القاضِي: إنَّهُ تَعالى وعَدَ المُتَّقِينَ بِالثَّوابِ العَظِيمِ، كَما ذَكَرَ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ﴾ فَإذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ ووَجَدُوا تِلْكَ النِّعَمَ العَظِيمَةَ، عَرَفُوا أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ صادِقًا في وعْدِهِ إيّاهم بِتِلْكَ النِّعَمِ، فَعِنْدَ هَذا قالُوا: ﴿سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ﴾ أيْ: نُسَبِّحُكَ عَنِ الخُلْفِ في الوَعْدِ والكَذِبِ في القَوْلِ.
وثانِيها: أنْ نَقُولَ: غايَةُ سَعادَةِ السُّعَداءِ ونِهايَةُ دَرَجاتِ الأنْبِياءِ والأوْلِياءِ اسْتِسْعادُهم بِمَراتِبِ مَعارِفِ الجَلالِ.
واعْلَمْ أنَّ مَعْرِفَةَ ذاتِ اللَّهِ تَعالى والِاطِّلاعَ عَلى كُنْهِ حَقِيقَتِهِ مِمّا لا سَبِيلَ لِلْخَلْقِ إلَيْهِ، بَلِ الغايَةُ القُصْوى مَعْرِفَةُ صِفاتِهِ السَّلْبِيَّةِ أوْ صِفاتِهِ الإضافِيَّةِ. أمّا الصِّفاتُ السَّلْبِيَّةُ فَهي المُسَمّاةُ بِصِفاتِ الجَلالِ، وأمّا الصِّفاتُ الإضافِيَّةُ فَهي المُسَمّاةُ بِصِفاتِ الإكْرامِ، فَلِذَلِكَ كانَ كَمالُ الذِّكْرِ العالِي مَقْصُورًا عَلَيْها، كَما قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكْرامِ﴾ [الرحمن: ٧٨] وكانَ ﷺ يَقُولُ: ”«ألِظُّوا بِياذا الجَلالِ والإكْرامِ» “ ولَمّا كانَتِ السُّلُوبُ مُتَقَدِّمَةٌ بِالرُّتْبَةِ عَلى الإضافاتِ، لا جَرَمَ كانَ ذِكْرُ الجَلالِ مُتَقَدِّمًا عَلى ذِكْرِ الإكْرامِ في اللَّفْظِ. وإذا ثَبَتَ أنَّ غايَةَ سَعادَةِ السُّعَداءِ لَيْسَ إلّا في هَذَيْنِ المَقامَيْنِ، لا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى كَوْنَهم مُواظِبِينَ عَلى هَذا الذِّكْرِ العالِي المُقَدَّسِ، ولَمّا كانَ لا نِهايَةَ لِمَعارِجِ جَلالِ اللَّهِ ولا غايَةَ لِمَدارِجِ إلَهِيَّتِهِ وإكْرامِهِ وإحْسانِهِ، فَكَذَلِكَ لا نِهايَةَ لِدَرَجاتِ تَرَقِّي الأرْواحِ المُقَدَّسَةِ في هَذِهِ المَقاماتِ العَلِيَّةِ الإلَهِيَّةِ.
وثالِثُها: أنَّ المَلائِكَةَ المُقَرَّبِينَ كانُوا قَبْلَ تَخْلِيقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مُشْتَغِلِينَ بِهَذا الذِّكْرِ، ألا تَرى أنَّهم قالُوا: ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] فالحَقُّ سُبْحانَهُ ألْهَمَ السُّعَداءَ مِن أوْلادِ آدَمَ، حَتّى أتَوْا بِهَذا التَّسْبِيحِ والتَّحْمِيدِ، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الَّذِي أتى بِهِ المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ قَبْلَ خَلْقِ العالَمِ مِنَ الذِّكْرِ العالِي، فَهو بِعَيْنِهِ أتى بِهِ السُّعَداءُ مِن أوْلادِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، بَعْدَ انْقِراضِ العالَمِ، ولَمّا كانَ هَذا الذِّكْرُ مُشْتَمِلًا عَلى هَذا الشَّرَفِ العالِي، لا جَرَمَ جاءَتِ الرِّوايَةُ بِقِراءَتِهِ في أوَّلِ الصَّلاةِ، فَإنَّ المُصَلِّيَ إذا كَبَّرَ قالَ: ”سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، (p-٣٨)تَبارَكَ اسْمُكَ، وتَعالى جَدُّكَ، ولا إلَهَ غَيْرُكَ“ .
* * *
المَرْتَبَةُ الثّالِثَةُ مِن مَراتِبِ سَعاداتِ أهْلِ الجَنَّةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَحِيَّتُهم فِيها سَلامٌ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: تَحِيَّةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ تَكُونُ بِالسَّلامِ، وتَحِيَّةُ المَلائِكَةِ لَهم بِالسَّلامِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [ الرَّعْدِ: ٢٣ - ٢٤] وتَحِيَّةُ اللَّهِ تَعالى لَهم أيْضًا بِالسَّلامِ كَما قالَ تَعالى: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨] قالَ الواحِدِيُّ: وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ هَذا مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى المَفْعُولِ. وعِنْدِي فِيهِ وجْهٌ آخَرُ: وهو أنَّ مُواظَبَتَهم عَلى ذِكْرِ هَذِهِ الكَلِمَةِ مُشْعِرَةٌ بِأنَّهم كانُوا في الدُّنْيا في مَنزِلِ الآفاتِ وفي مَعْرِضِ المَخافاتِ، فَإذا أُخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيا ووَصَلُوا إلى كَرامَةِ اللَّهِ تَعالى، فَقَدْ صارُوا سالِمِينَ مِنَ الآفاتِ، آمِنِينَ مِنَ المَخافاتِ والنُّقْصاناتِ. وقَدْ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم بِأنَّهم يَذْكُرُونَ هَذا المَعْنى في قَوْلِهِ: ﴿وقالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنّا الحَزَنَ إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ ﴿الَّذِي أحَلَّنا دارَ المُقامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ ولا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ﴾ [فاطر: ٣٤، ٣٥] .
* * *
المَرْتَبَةُ الرّابِعَةُ مِن مَراتِبِ سَعاداتِهِمْ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿وآخِرُ دَعْواهم أنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَدْ ذَكَرْنا أنَّ جَماعَةً مِنَ المُفَسِّرِينَ حَمَلُوا هَذِهِ الكَلِماتِ العالِيَةَ المُقَدَّسَةَ عَلى أحْوالِ أهْلِ الجَنَّةِ بِسَبَبِ الأكْلِ والشُّرْبِ. فَقالُوا: إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ إذا اشْتَهَوْا شَيْئًا قالُوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، وإذا أكَلُوا وفَرَغُوا قالُوا: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، وهَذا القائِلُ ما تَرَقّى نَظَرُهُ في دُنْياهُ وأُخْراهُ عَنِ المَأْكُولِ والمَشْرُوبِ، وحَقِيقٌ لِمِثْلِ هَذا الإنْسانِ أنْ يُعَدَّ في زُمْرَةِ البَهائِمِ. وأمّا المُحِقُّونَ المُحَقِّقُونَ، فَقَدْ تَرَكُوا ذَلِكَ، ولَهم فِيهِ أقْوالٌ. رَوى الحَسَنُ البَصْرِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يُلْهَمُونَ الحَمْدَ والتَّسْبِيحَ كَما تُلْهَمُونَ أنْفاسَكم» “ وقالَ الزَّجّاجُ: عِنْدِي في هَذا البابِ وُجُوهٌ أُخَرُ:
فَأحَدُها: أنَّ أهْلَ الجَنَّةِ لَمّا اسْتَسْعَدُوا بِذِكْرِ سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، وعايَنُوا ما هم فِيهِ مِنَ السَّلامَةِ عَنِ الآفاتِ والمَخافاتِ، عَلِمُوا أنَّ كُلَّ هَذِهِ الأحْوالِ السَّنِيَّةِ والمَقاماتِ القُدْسِيَّةِ إنَّما تَيَسَّرَتْ بِإحْسانِ الحَقِّ سُبْحانَهُ وإفْضالِهِ وإنْعامِهِ، فَلا جَرَمَ اشْتَغَلُوا بِالحَمْدِ والثَّناءِ. فَقالُوا: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ وإنَّما وقَعَ الخَتْمُ عَلى هَذا الكَلامِ لِأنَّ اشْتِغالَهم بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعالى وتَمْجِيدِهِ مِن أعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ. والِاشْتِغالُ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ مُتَأخِّرٌ عَنْ رُؤْيَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، فَلِهَذا السَّبَبِ وقَعَ الخَتْمُ عَلى هَذِهِ الكَلِمَةِ.
وثانِيها: أنَّ لِكُلِّ إنْسانٍ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ مِعْراجًا، فَتارَةً يَنْزِلُ عَنْ ذَلِكَ المِعْراجِ، وتارَةً يَصْعَدُ إلَيْهِ. ومِعْراجُ العارِفِينَ الصّادِقِينَ، مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعالى وتَسْبِيحُ اللَّهِ وتَحْمِيدُ اللَّهِ، فَإذا قالُوا: ﴿سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ﴾ فَهم في عَيْنِ المِعْراجِ، وإذا نَزَلُوا مِنهُ إلى عالَمِ المَخْلُوقاتِ، كانَ الحاصِلُ عِنْدَ ذَلِكَ النُّزُولِ إفاضَةُ الخَيْرِ عَلى جَمِيعِ المُحْتاجِينَ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وتَحِيَّتُهم فِيها سَلامٌ﴾ ثُمَّ إَنَّهُ مَرَّةً أُخْرى يَصْعَدُ إلى مِعْراجِهِ، وعِنْدَ الصُّعُودِ يَقُولُ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ فَهَذِهِ الكَلِماتُ العالِيَةُ إشارَةٌ إلى اخْتِلافِ أحْوالِ العَبْدِ بِسَبَبِ النُّزُولِ والعُرُوجِ.
وثالِثُها أنْ نَقُولَ: إنَّ قَوْلَنا: (اللَّهُ) اسْمٌ لَذّاتِ الحَقِّ سُبْحانَهُ، فَتارَةً يَنْظُرُ العَبْدُ إلى صِفاتِ الجَلالِ وهي المُشارُ إلَيْها بِقَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَكَ﴾ ثُمَّ يُحاوِلُ التَّرَقِّيَ مِنها إلى حَضْرَةِ جَلالِ الذّاتِ تَرَقِّيًا يَلِيقُ بِالطّاقَةِ البَشَرِيَّةِ، وهي المُشارُ إلَيْها بِقَوْلِهِ: (اللَّهُمَّ) فَإذا عَرَجَ عَنْ ذَلِكَ المَكانِ، واخْتَرَقَ في أوائِلِ تِلْكَ الأنْوارِ رَجَعَ إلى عالَمِ الإكْرامِ، وهو المُشارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ فَهَذِهِ كَلِماتٌ خَطَرَتْ بِالبالِ ودارَتْ في الخَيالِ، فَإنْ حَقَّتْ فالتَّوْفِيقُ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فالتُّكْلانُ عَلى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى. (p-٣٩)
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: (أنْ) في قَوْلِهِ: ﴿أنِ الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الشَّدِيدَةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَعْمَلْ؛ لِخُرُوجِها بِالتَّخْفِيفِ عَنْ شَبَهِ الفِعْلِ كَقَوْلِهِ:
؎أنْ هالِكٌ كُلُّ مَن يَحْفى ويَنْتَعِلُ
عَلى مَعْنى أنَّهُ هالِكٌ. وقالَ صاحِبُ ”النَّظْمِ“: (أنْ) هاهُنا زائِدَةٌ، والتَّقْدِيرُ: وآخِرُ دَعْواهُمُ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، وهَذا القَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وقَرَأ بَعْضُهم (أنَّ الحَمْدَ) بِالتَّشْدِيدِ، ونَصَبَ الحَمْدَ.
{"ayahs_start":9,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ یَهۡدِیهِمۡ رَبُّهُم بِإِیمَـٰنِهِمۡۖ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَـٰرُ فِی جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِیمِ","دَعۡوَىٰهُمۡ فِیهَا سُبۡحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِیَّتُهُمۡ فِیهَا سَلَـٰمࣱۚ وَءَاخِرُ دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"],"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ یَهۡدِیهِمۡ رَبُّهُم بِإِیمَـٰنِهِمۡۖ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَـٰرُ فِی جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِیمِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق