الباحث القرآني
(p-١٠٩)قَوْلُهُ تَعالى ﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ نُوحٍ إذْ قالَ لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكم مَقامِي وتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأجْمِعُوا أمْرَكم وشُرَكاءَكم ثُمَّ لا يَكُنْ أمْرُكم عَلَيْكم غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ ولا تُنْظِرُونِ﴾ ﴿فَإنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَألْتُكم مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا بالَغَ في تَقْرِيرِ الدَّلائِلِ والبَيِّناتِ، وفي الجَوابِ عَنِ الشُّبَهِ والسُّؤالاتِ، شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ في بَيانِ قَصَصِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الكَلامَ إذا أطالَ في تَقْرِيرِ نَوْعٍ مِن أنْواعِ العُلُومِ، فَرُبَّما حَصَلَ نَوْعٌ مِن أنْواعِ المَلالَةِ فَإذا انْتَقَلَ الإنْسانُ مِن ذَلِكَ الفَنِّ مِنَ العِلْمِ إلى فَنٍّ آخَرَ، انْشَرَحَ صَدْرُهُ وطابَ قَلْبُهُ ووَجَدَ في نَفْسِهِ رَغْبَةً جَدِيدَةً وقُوَّةً حادِثَةً ومَيْلًا قَوِيًّا.
وثانِيها: لِيَكُونَ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - ولِأصْحابِهِ أُسْوَةٌ بِمَن سَلَفَ مِنَ الأنْبِياءِ؛ فَإنَّ الرَّسُولَ إذا سَمِعَ أنَّ مُعامَلَةَ هَؤُلاءِ الكُفّارِ مَعَ كُلِّ الرُّسُلِ ما كانَتْ إلّا عَلى هَذا الوَجْهِ خَفَّ ذَلِكَ عَلى قَلْبِهِ، كَما يُقالُ: المُصِيبَةُ إذا عَمَّتْ خَفَّتْ.
وثالِثُها: أنَّ الكُفّارَ إذا سَمِعُوا هَذِهِ القَصَصَ، وعَلِمُوا أنَّ الجُهّالَ، وإنْ بالَغُوا في إيذاءِ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى أعانَهم بِالآخِرَةِ ونَصَرَهم وأيَّدَهم وقَهَرَ أعْداءَهم، كانَ سَماعُ هَؤُلاءِ الكُفّارِ لِأمْثالِ هَذِهِ القَصَصِ سَبَبًا لِانْكِسارِ قُلُوبِهِمْ، ووُقُوعِ الخَوْفِ والوَجَلِ في صُدُورِهِمْ، وحِينَئِذٍ يُقَلِّلُونَ مِن أنْواعِ الإيذاءِ والسَّفاهَةِ.
ورابِعُها: أنّا قَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّ مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لَمّا لَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمًا، ولَمْ يُطالِعْ كِتابًا ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الأقاصِيصَ مِن غَيْرِ تَفاوُتٍ، ومِن غَيْرِ زِيادَةٍ ومِن غَيْرِ نُقْصانٍ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ ﷺ إنَّما عَرَفَها بِالوَحْيِ والتَّنْزِيلِ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في هَذِهِ السُّورَةِ مِن قَصَصِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ثَلاثَةً.
فالقِصَّةُ الأُولى: قِصَّةُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وهي المَذْكُورَةُ في هَذِهِ الآيَةِ، وفِيها وجْهانِ مِنَ الفائِدَةِ:
الأوَّلُ: أنَّ قَوْمَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا أصَرُّوا عَلى الكُفْرِ والجَحْدِ عَجَّلَ اللَّهُ هَلاكَهم بِالغَرَقِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعالى قِصَّتَهم لِتَصِيرَ تِلْكَ القِصَّةُ عِبْرَةً لِهَؤُلاءِ الكُفّارِ، وداعِيَةً إلى مُفارَقَةِ الجَحْدِ بِالتَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ.
والثّانِي: أنَّ كُفّارَ مَكَّةَ كانُوا يَسْتَعْجِلُونَ العَذابَ الَّذِي يَذْكُرُهُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَهم وكانُوا يَقُولُونَ لَهُ: كَذَبْتَ، فَإنَّهُ ما جاءَنا هَذا العَذابُ، فاللَّهُ تَعالى ذَكَرَ لَهم قِصَّةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ يُخَوِّفُهم بِهَذا العَذابِ وكانُوا يُكَذِّبُونَهُ فِيهِ، ثُمَّ بِالآخِرَةِ وقَعَ كَما أخْبَرَ، فَكَذا هَهُنا.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ لِقَوْمِهِ: ﴿إنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكم مَقامِي وتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ﴾ وهَذا جُمْلَةٌ مِنَ الشَّرْطِ والجَزاءِ، أمّا الشَّرْطُ فَهو مُرَكَّبٌ مِن قَيْدَيْنِ:
القَيْدُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿إنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكم مَقامِي﴾ قالَ الواحِدِيُّ في ”البَسِيطِ“: يُقالُ كَبِرَ يَكْبَرُ كِبَرًا في السِّنِّ، وكَبُرَ الأمْرُ والشَّيْءُ إذا عَظُمَ يَكْبُرُ كِبَرًا وكَبارَةً.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ثَقُلَ عَلَيْكم وشَقَّ عَلَيْكم وعَظُمَ أمْرُهُ عِنْدَكم، والمَقامُ بِفَتْحِ المِيمِ مَصْدَرٌ كالإقامَةِ.
يُقالُ: أقامَ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ مَقامًا وإقامَةً، والمُقامُ بِضَمِّ المِيمِ المَوْضِعُ الَّذِي يُقامُ فِيهِ، وأرادَ بِالمَقامِ هَهُنا مُكْثَهُ ولُبْثَهُ فِيهِمْ وبِالجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: ﴿كَبُرَ عَلَيْكم مَقامِي﴾ جارٍ مَجْرى قَوْلِهِمْ: فُلانٌ ثَقِيلُ الظِّلِّ.
واعْلَمْ أنَّ سَبَبَ هَذا الثِّقَلِ أمْرانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَكَثَ فِيهِمْ ألْفَ سَنَةٍ إلّا خَمْسِينَ عامًا.
والثّانِي: أنَّ أُولَئِكَ الكُفّارَ كانُوا قَدْ ألِفُوا تِلْكَ المَذاهِبَ الفاسِدَةَ والطَّرائِقَ الباطِلَةَ، والغالِبُ أنَّ مَن ألِفَ طَرِيقَةً (p-١١٠)فِي الدِّينِ فَإنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ أنْ يُدْعى إلى خِلافِها، ويُذْكَرَ لَهُ رَكاكَتُها، فَإنِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ طُولُ مُدَّةِ الدُّعاءِ كانَ أثْقَلَ وأشَدَّ كَراهِيَةً، فَإنِ اقْتَرَنَ بِهِ إيرادُ الدَّلائِلِ القاهِرَةِ عَلى فَسادِ ذَلِكَ المَذْهَبِ كانَتِ النَّفْرَةُ أشَدَّ، فَهَذا هو السَّبَبُ في حُصُولِ ذَلِكَ الثِّقَلِ.
والقَيْدُ الثّانِي: هو قَوْلُهُ: ﴿وتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ الطِّباعَ المَشْغُوفَةَ بِالدُّنْيا الحَرِيصَةَ عَلى طَلَبِ اللَّذّاتِ العاجِلَةِ تَكُونُ شَدِيدَةَ النَّفْرَةِ عَنِ الأمْرِ بِالطّاعاتِ والنَّهْيِ عَنِ المَعاصِي والمُنْكَراتِ، قَوِيَّةَ الكَراهَةِ لِسَماعِ ذِكْرِ المَوْتِ وتَقْبِيحِ صُورَةِ الدُّنْيا، ومَن كانَ كَذَلِكَ فَإنَّهُ يَسْتَثْقِلُ الإنْسانَ الَّذِي يَأْمُرُهُ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهاهُ عَنِ المُنْكَرِ، وفي الآيَةِ وجْهٌ آخَرُ، وهو أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿إنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكم مَقامِي وتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ﴾ مَعْناهُ أنَّهم كانُوا إذا وعَظُوا الجَماعَةَ قامُوا عَلى أرْجُلِهِمْ يَعِظُونَهم لِيَكُونَ مَكانُهم ظاهِرًا وكَلامُهم مَسْمُوعًا، كَما يُحْكى عَنْ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ كانَ يَعِظُ الحَوارِيِّينَ قائِمًا وهم قُعُودٌ، واعْلَمْ أنَّ هَذا هو الشَّرْطُ المَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ، أمّا الجَزاءُ فَفِيهِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ الجَزاءَ هو قَوْلُهُ: ﴿فَعَلى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ﴾ يَعْنِي أنَّ شِدَّةَ بُغْضِكم لِي تَحْمِلُكم عَلى الإقْدامِ عَلى إيذائِي، وأنا لا أُقابِلُ ذَلِكَ الشَّرَّ إلّا بِالتَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ.
واعْلَمْ أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ أبَدًا مُتَوَكِّلًا عَلى اللَّهِ تَعالى، وهَذا اللَّفْظُ يُوهِمُ أنَّهُ تَوَكَّلَ عَلى اللَّهِ في هَذِهِ السّاعَةِ، لَكِنَّ المَعْنى أنَّهُ إنَّما تَوَكَّلَ عَلى اللَّهِ في دَفْعِ هَذا الشَّرِّ في هَذِهِ السّاعَةِ.
والقَوْلُ الثّانِي: وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ إنَّ جَوابَ الشَّرْطِ هو قَوْلُهُ: ﴿فَأجْمِعُوا أمْرَكم وشُرَكاءَكُمْ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿فَعَلى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ﴾ كَلامٌ اعْتُرِضَ بِهِ بَيْنَ الشَّرْطِ وجَوابِهِ كَما تَقُولُ في الكَلامِ إنْ كُنْتَ أنْكَرْتَ عَلَيَّ شَيْئًا فاللَّهُ حَسْبِي فاعْمَلْ ما تُرِيدُ واعْلَمْ أنَّ جَوابَ هَذا الشَّرْطِ مُشْتَمِلٌ عَلى قُيُودٍ خَمْسَةٍ عَلى التَّرْتِيبِ.
القَيْدُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿فَأجْمِعُوا أمْرَكُمْ﴾ وفِيهِ بَحْثانِ:
البَحْثُ الأوَّلُ: قالَ الفَرّاءُ: الإجْماعُ الإعْدادُ والعَزِيمَةُ عَلى الأمْرِ وأنْشَدَ:
؎يا لَيْتَ شِعْرِي والمُنى لا يَنْفَعُ هَلْ أغْدُوَنْ يَوْمًا وأمْرِي مُجْمَعُ
فَإذا أرَدْتَ جَمْعَ التَّفَرُّقِ قُلْتَ: جَمَعْتُ القَوْمَ فَهم مَجْمُوعُونَ، وقالَ أبُو الهَيْثَمِ: أجْمَعَ أمْرَهُ، أيْ جَعَلَهَ جَمِيعًا بَعْدَ ما كانَ مُتَفَرِّقًا، قالَ: وتَفَرَّقَهُ، أيْ جَعَلَ يَتَدَبَّرُهُ فَيَقُولُ مَرَّةً أفْعَلُ كَذا ومَرَّةً أفْعَلُ كَذا، فَلَمّا عَزَمَ عَلى أمْرٍ واحِدٍ فَقَدْ جَمَعَهُ، أيْ جَعَلَهُ جَمِيعًا، فَهَذا هو الأصْلُ في الإجْماعِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ أجْمَعُوا أمْرَهُمْ﴾ [يوسف: ١٠٢] ثُمَّ صارَ بِمَعْنى العَزْمِ حَتّى وُصِلَ بِعَلى، فَقِيلَ: أجْمَعْتُ عَلى الأمْرِ، أيْ عَزَمْتُ عَلَيْهِ، والأصْلُ أجْمَعْتُ الأمْرَ.
البَحْثُ الثّانِي: رَوى الأصْمَعِيُّ عَنْ نافِعٍ ”فاجْمَعُوا أمْرَكم“ بِوَصْلِ الألِفِ مِنَ الجَمْعِ، وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: فاجْمَعُوا ذَوِي الأمْرِ مِنكم، فَحُذِفَ المُضافُ، وجَرى عَلى المُضافِ إلَيْهِ ما كانَ يَجْرِي عَلى المُضافِ لَوْ ثَبَتَ.
الثّانِي: قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: المُرادُ مِنَ الأمْرِ هَهُنا وُجُوهُ كَيْدِهِمْ ومَكْرِهِمْ، (p-١١١)فالتَّقْدِيرُ: ولا تَدَعُوا مِن أمْرِكم شَيْئًا إلّا أحْضَرْتُمُوهُ.
والقَيْدُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿وشُرَكاءَكُمْ﴾ وفِيهِ أبْحاثٌ:
البَحْثُ الأوَّلُ: الواوُ هَهُنا بِمَعْنى مَعَ، والمَعْنى: فَأجْمِعُوا أمْرَكم مَعَ شُرَكائِكم، ونَظِيرُهُ قَوْلُهم: لَوْ تُرِكَتِ النّاقَةُ وفَصِيلَها لَرَضَعَها، ولَوْ خَلَّيْتَ نَفْسَكَ والأسَدَ لَأكَلَكَ.
البَحْثُ الثّانِي: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الشُّرَكاءِ الأوْثانَ الَّتِي سَمَّوْها بِالآلِهَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنها مَن كانَ عَلى مِثْلِ قَوْلِهِمْ ودِينِهِمْ، فَإنْ كانَ المُرادُ هو الأوَّلُ فَإنَّما حَثَّ الكُفّارَ عَلى الِاسْتِعانَةِ بِالأوْثانِ بِناءً عَلى مَذْهَبِهِمْ مِن أنَّها تَضُرُّ وتَنْفَعُ، وإنْ كانَ المُرادُ هو الثّانِيَ فَوَجْهُ الِاسْتِعانَةِ بِها ظاهِرٌ.
البَحْثُ الثّالِثُ: قَرَأ الحَسَنُ وجَماعَةٌ مِنَ القُرّاءِ ”وشُرَكاؤُكم“ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ المَرْفُوعِ، والتَّقْدِيرُ: فَأجْمِعُوا أنْتُمْ وشُرَكاؤُكم. قالَ الواحِدِيُّ: وجازَ ذَلِكَ مِن غَيْرِ تَأْكِيدِ الضَّمِيرِ كَقَوْلِهِ: ﴿اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ﴾ [البقرة: ٣٥] لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أمْرَكُمْ﴾ فَصْلٌ بَيْنَ الضَّمِيرِ وبَيْنَ المَنسُوقِ، فَكانَ كالعِوَضِ مِنَ التَّوْكِيدِ. وكانَ الفَرّاءُ يَسْتَقْبِحُ هَذِهِ القِراءَةَ؛ لِأنَّها تُوجِبُ أنْ يُكْتَبَ وشُرَكاؤُكم بِالواوِ، وهَذا الحَرْفُ غَيْرُ مَوْجُودٍ في المَصاحِفِ.
القَيْدُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لا يَكُنْ أمْرُكم عَلَيْكم غُمَّةً﴾ قالَ أبُو الهَيْثَمِ: أيْ مُبْهَمًا مِن قَوْلِهِمْ: غُمَّ عَلَيْنا الهِلالُ فَهو مَغْمُومٌ، إذا التَبَسَ؛ قالَ طَرَفَةُ:
؎لَعَمْرِيَ ما أمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ ∗∗∗ نَهارِي ولا لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ
وقالَ اللَّيْثُ: إنَّهُ لَفي غُمَّةٍ مِن أمْرِهِ، إذا لَمْ يَهْتَدِ لَهُ. قالَ الزَّجّاجُ: أيْ لِيَكُنْ أمْرُكم ظاهِرًا مُنْكَشِفًا.
القَيْدُ الرّابِعُ: قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ﴾ وفِيهِ بَحْثانِ:
البَحْثُ الأوَّلُ: قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ مَعْناهُ ثُمَّ امْضُوا إلَيَّ بِمَكْرُوهِكم، وما تُوعِدُونَنِي بِهِ، تَقُولُ العَرَبُ: قَضى فُلانٌ، يُرِيدُونَ ماتَ ومَضى، وقالَ بَعْضُهم: قَضاءُ الشَّيْءِ إحْكامُهُ وإمْضاؤُهُ والفَراغُ مِنهُ، وبِهِ يُسَمّى القاضِي، لِأنَّهُ إذا حَكَمَ فَقَدْ فَرَغَ، فَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ﴾ أيِ افْرُغُوا مِن أمْرِكم وامْضُوا ما في أنْفُسِكم واقْطَعُوا ما بَيْنِي وبَيْنَكم، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرائِيلَ في الكِتابِ﴾ [الإسراء: ٤] أيْ أعْلَمْناهم إعْلامًا قاطِعًا، قالَ تَعالى: ﴿وقَضَيْنا إلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ﴾ ] [الحجر: ٦٦] قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى ومَجازُ دُخُولِ كَلِمَةِ ”إلى“ في هَذا المَوْضِعِ مِن قَوْلِهِمْ بَرِئْتُ إلَيْكَ وخَرَجْتُ إلَيْكَ مِنَ العَهْدِ، وفِيهِ مَعْنى الإخْبارِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: ثُمَّ اقْضُوا ما يَسْتَقِرُّ رَأْيُكم عَلَيْهِ، مُحْكَمًا مَفْرُوغًا مِنهُ.
البَحْثُ الثّانِي: قُرِئَ ”ثُمَّ أفْضُوا إلَيَّ“ بِالفاءِ بِمَعْنى ثُمَّ انْتَهُوا إلى بِشَرِّكم، وقِيلَ: هو مِن أفْضى الرَّجُلُ إذا خَرَجَ إلى الفَضاءِ، أيْ أصْحِرُوا بِهِ إلَيَّ وأبْرِزُوهُ إلَيَّ.
القَيْدُ الخامِسُ: قَوْلُهُ: ﴿ولا تُنْظِرُونِ﴾ مَعْناهُ لا تُمْهِلُونِ بَعْدَ إعْلامِكم إيّايَ ما اتَّفَقْتُمْ عَلَيْهِ، فَهَذا هو تَفْسِيرُ هَذِهِ الألْفاظِ، وقَدْ نَظَمَ القاضِي هَذا الكَلامَ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ فَقالَ: إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ في أوَّلِ الأمْرِ: فَعَلى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَإنِّي واثِقٌ بِوَعْدِ اللَّهِ، جازِمٌ بِأنَّهُ لا يُخْلِفُ المِيعادَ ولا تَظُنُّوا أنَّ تَهْدِيدَكم إيّايَ بِالقَتْلِ والإيذاءِ يَمْنَعُنِي مِنَ الدُّعاءِ إلى اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أوْرَدَ ما يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ دَعْوَتِهِ فَقالَ: ”﴿فَأجْمِعُوا أمْرَكُمْ﴾“ فَكَأنَّهُ يَقُولُ (p-١١٢)لَهم أجْمِعُوا كُلَّ ما تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الأسْبابِ الَّتِي تُوجِبُ حُصُولَ مَطْلُوبِكم ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلى ذَلِكَ بَلْ أمَرَهم أنْ يَضُمُّوا إلى أنْفُسِهِمْ شُرَكائَهُمُ الَّذِينَ كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّ حالَهم يَقْوى بِمَكانِهِمْ وبِالتَّقَرُّبِ إلَيْهِمْ، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلى هَذَيْنِ بَلْ ضَمَّ إلَيْهِما ثالِثًا، وهو قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لا يَكُنْ أمْرُكم عَلَيْكم غُمَّةً﴾ وأرادَ أنْ يَبْلُغُوا فِيهِ كُلَّ غايَةٍ في المُكاشَفَةِ والمُجاهَرَةِ، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلى ذَلِكَ حَتّى ضَمَّ إلَيْها رابِعًا فَقالَ: ﴿ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ﴾ والمُرادُ أنْ وجِّهُوا كُلَّ تِلْكَ الشُّرُورِ إلَيَّ، ثُمَّ ضَمَّ إلى ذَلِكَ خامِسًا، وهو قَوْلُهُ: ﴿ولا تُنْظِرُونِ﴾ أيْ عَجِّلُوا ذَلِكَ بِأشَدِّ ما تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِن غَيْرِ إنْظارٍ، فَهَذا آخِرُ هَذا الكَلامِ، ومَعْلُومٌ أنَّ مِثْلَ هَذا الكَلامِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ قَدْ بَلَغَ الغايَةَ في التَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ تَعالى، وأنَّهُ كانَ قاطِعًا بِأنَّ كَيْدَهم لا يَصِلُ إلَيْهِ، ومَكْرَهم لا يَنْفُذُ فِيهِ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَألْتُكم مِن أجْرٍ﴾ فَقالَ المُفَسِّرُونَ: هَذا إشارَةٌ إلى أنَّهُ ما أخَذَ مِنهم مالًا عَلى دَعْوَتِهِمْ إلى دِينِ اللَّهِ تَعالى، ومَتى كانَ الإنْسانُ فارِغًا مِنَ الطَّمَعِ كانَ قَوْلُهُ أقْوى تَأْثِيرًا في القَلْبِ.
وعِنْدِي فِيهِ وجْهٌ آخَرُ؛ وهو أنْ يُقالَ: إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بَيَّنَ أنَّهُ لا يَخافُ مِنهم بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وذَلِكَ لِأنَّ الخَوْفَ إنَّما يَحْصُلُ بِأحَدِ شَيْئَيْنِ؛ إمّا بِإيصالِ الشَّرِّ أوْ بِقَطْعِ المَنافِعِ، فَبَيَّنَ فِيما تَقَدَّمَ أنَّهُ لا يَخافُ شَرَّهم، وبَيَّنَ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لا يَخافُ مِنهم بِسَبَبِ أنْ يَقْطَعُوا عَنْهُ خَيْرًا؛ لِأنَّهُ ما أخَذَ مِنهم شَيْئًا فَكانَ يَخافُ أنْ يَقْطَعُوا مِنهُ خَيْرًا.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّكم سَواءٌ قَبِلْتُمْ دِينَ الإسْلامِ أوْ لَمْ تَقْبَلُوا، فَأنا مَأْمُورٌ بِأنْ أكُونَ عَلى دِينِ الإسْلامِ.
الثّانِي: أنِّي مَأْمُورٌ بِالِاسْتِسْلامِ لِكُلِّ ما يَصِلُ إلَيَّ لِأجْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ. وهَذا الوَجْهُ ألْيَقُ بِهَذا المَوْضِعِ؛ لِأنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ﴾ بَيَّنَ لَهم أنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِسْلامِ لِكُلِّ ما يَصِلُ إلَيْهِ في هَذا البابِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":71,"ayahs":["۞ وَٱتۡلُ عَلَیۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَیۡكُم مَّقَامِی وَتَذۡكِیرِی بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوۤا۟ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَاۤءَكُمۡ ثُمَّ لَا یَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَیۡكُمۡ غُمَّةࣰ ثُمَّ ٱقۡضُوۤا۟ إِلَیَّ وَلَا تُنظِرُونِ","فَإِن تَوَلَّیۡتُمۡ فَمَا سَأَلۡتُكُم مِّنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِیَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ"],"ayah":"۞ وَٱتۡلُ عَلَیۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَیۡكُم مَّقَامِی وَتَذۡكِیرِی بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوۤا۟ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَاۤءَكُمۡ ثُمَّ لَا یَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَیۡكُمۡ غُمَّةࣰ ثُمَّ ٱقۡضُوۤا۟ إِلَیَّ وَلَا تُنظِرُونِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق