الباحث القرآني

المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ وتَقْدِيرُهُ: بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَلْيَفْرَحُوا، ثُمَّ يَقُولُ مَرَّةً أُخْرى: ”بِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا“ والتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ. وأيْضًا قَوْلُهُ: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ، يَعْنِي يَجِبُ أنْ لا يَفْرَحَ الإنْسانُ إلّا بِذَلِكَ. واعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ يَدُلُّ عَلى أمْرَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ يَجِبُ أنْ لا يَفْرَحَ الإنْسانُ بِشَيْءٍ مِنَ الأحْوالِ الجُسْمانِيَّةِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ جَماعَةً مِنَ المُحَقِّقِينَ قالُوا: لا مَعْنى لِهَذِهِ اللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةِ إلّا دَفْعُ الآلامِ، والمَعْنى العَدَمِيُّ لا يَسْتَحِقُّ أنْ يُفْرَحَ بِهِ. والثّانِي: أنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّذّاتُ صِفاتٍ ثُبُوتِيَّةً، لَكِنَّها مَعْنَوِيَّةٌ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ التَّضَرُّرَ بِآلامِها أقْوى مِنَ الِانْتِفاعِ بِلَذّاتِها ألا تَرى أنَّ أقْوى اللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةِ لَذَّةَ الوِقاعِ، ولا شَكَّ أنَّ الِالتِذاذَ بِها أقَلُّ مَرْتَبَةً مِنَ الِاسْتِضْرارِ بِألَمِ القُولَنْجِ وسائِرِ الآلامِ القَوِيَّةِ. والثّانِي: أنَّ مَداخِلَ اللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةِ قَلِيلَةٌ، فَإنَّهُ لا سَبِيلَ إلى تَحْصِيلِ اللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةِ إلّا بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ أعْنِي لَذَّةَ البَطْنِ والفَرْجِ. وأمّا الآلامُ: فَإنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ بَدَنِ الإنْسانِ مَعَهُ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الآلامِ، ولِكُلِّ نَوْعٍ مِنها خاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِلنَّوْعِ الآخَرِ. والثّالِثُ: أنَّ اللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةَ لا تَكُونُ خالِصَةً ألْبَتَّةَ بَلْ تَكُونُ مَمْزُوجَةً بِأنْواعٍ مِنَ المَكارِهِ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ في لَذَّةِ الأكْلِ والوِقاعِ إلّا إتْعابُ النَّفْسِ في مُقَدِّماتِها وفي لَواحِقِها لَكَفى. الرّابِعُ: أنَّ اللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةَ لا تَكُونُ باقِيَةً، فَكُلَّما كانَ الِالتِذاذُ بِها أكْثَرَ كانَتِ الحَسَراتُ الحاصِلَةُ مِن خَوْفِ فَواتِها أكْثَرَ وأشَدَّ، ولِذَلِكَ قالَ المَعَرِّيُّ: ؎إنَّ حُزْنًا في ساعَةِ المَوْتِ أضْعا فُ سُرُورٍ في ساعَةِ المِيلادِ فَمِنَ المَعْلُومِ أنَّ الفَرَحَ الحاصِلَ عِنْدَ حُدُوثِ الوَلَدِ لا يُعادِلُ الحُزْنَ الحاصِلَ عِنْدَ مَوْتِهِ. الخامِسُ: أنَّ اللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةَ حالَ حُصُولِها تَكُونُ مُمْتَنِعَةَ البَقاءِ؛ لِأنَّ لَذَّةَ الأكْلِ لا تَبْقى بِحالِها، بَلْ كُلَّما زالَ ألَمُ الجُوعِ زالَ الِالتِذاذُ بِالأكْلِ، ولا يُمْكِنُ اسْتِبْقاءُ تِلْكَ اللَّذَّةِ. السّادِسُ: أنَّ اللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةَ التِذاذٌ بِأشْياءٍ خَسِيسَةٍ، فَإنَّها التِذاذٌ بِكَيْفِيّاتٍ حاصِلَةٍ في أجْسامٍ رَخْوَةٍ، سَرِيعَةِ الفَسادِ، مُسْتَعِدَّةٍ لِلتَّغَيُّرِ، فَأمّا اللَّذّاتُ الرُّوحانِيَّةُ فَإنَّها بِالضِّدِّ في جَمِيعِ هَذِهِ الجِهاتِ، فَثَبَتَ أنَّ الفَرَحَ بِاللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةِ فَرَحٌ باطِلٌ، وأمّا الفَرَحُ الكامِلُ فَهو الفَرَحُ بِالرُّوحانِيّاتِ والجَواهِرِ المُقَدَّسَةِ وعالَمِ الجَلالِ ونُورِ الكِبْرِياءِ. والبَحْثُ الثّانِي مِن مَباحِثِ هَذِهِ الآيَةِ: أنَّهُ إذا حَصَلَتِ اللَّذّاتُ الرُّوحانِيَّةُ فَإنَّهُ يَجِبُ عَلى العاقِلِ أنْ لا يَفْرَحَ بِها مِن حَيْثُ هي هي، بَلْ يَجِبُ أنْ يَفْرَحَ بِها مِن حَيْثُ إنَّها مِنَ اللَّهِ تَعالى، وبِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ، فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ الصِّدِّيقُونَ: مَن فَرِحَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ مِن حَيْثُ إنَّها تِلْكَ النِّعْمَةُ فَهو مُشْرِكٌ، أمّا مَن فَرِحَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ مِن حَيْثُ إنَّها مِنَ اللَّهِ كانَ فَرَحُهُ بِاللَّهِ، وذَلِكَ هو غايَةُ الكَمالِ ونِهايَةُ السَّعادَةِ، فَقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ يَعْنِي فَلْيَفْرَحُوا بِتِلْكَ النِّعَمِ لا مِن حَيْثُ هي هي، بَلْ مِن حَيْثُ إنَّها بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَةِ اللَّهِ، فَهَذِهِ أسْرارٌ عالِيَةٌ اشْتَمَلَتْ عَلَيْها هَذِهِ الألْفاظُ الَّتِي ظَهَرَتْ مِن عالَمِ الوَحْيِ والتَّنْزِيلِ، هَذا ما تَلَخَّصَ عِنْدَنا في هَذا البابِ، أمّا المُفَسِّرُونَ فَقالُوا: فَضْلُ اللَّهِ الإسْلامُ، ورَحْمَتُهُ القُرْآنُ. وقالَ أبُو سَعِيدٍ (p-٩٦)الخُدْرِيُّ: فَضْلُ اللَّهِ القُرْآنُ، ورَحْمَتُهُ أنْ جَعَلَكم مِن أهْلِهُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قُرِئَ ”فَلْتَفْرَحُوا“ بِالتّاءِ، قالَ الفَرّاءُ: وقَدْ ذُكِرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ أنَّهُ قَرَأ بِالتّاءِ وقالَ: مَعْناهُ فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرِحُوا يا أصْحابَ مُحَمَّدٍ هو خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُ الكُفّارُ، قالَ: وقَرِيبٌ مِن هَذِهِ القِراءَةِ قِراءَةُ أُبَيٍّ ”فَبِذَلِكَ فافْرَحُوا“ والأصْلُ في الأمْرِ لِلْمُخاطَبِ والغائِبِ اللّامُ، نَحْوَ لِتَقُمْ يا زَيْدُ، ولْيَقُمْ زَيْدٌ؛ وذَلِكَ لِأنَّ حُكْمَ الأمْرِ في الصُّورَتَيْنِ واحِدٌ، إلّا أنَّ العَرَبَ حَذَفُوا اللّامَ مِن فِعْلِ المَأْمُورِ المُخاطَبِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمالِهِ، وحَذَفُوا التّاءَ أيْضًا وأدْخَلُوا ألِفَ الوَصْلِ، نَحْوَ اضْرِبْ واقْتُلْ، لِيَقَعَ الِابْتِداءُ بِهِ، وكانَ الكِسائِيُّ يَعِيبُ قَوْلَهم فَلْيَفْرَحُوا لِأنَّهُ وجَدَهُ قَلِيلًا فَجَعَلَهُ عَيْبًا إلّا أنَّ ذَلِكَ هو الأصْلُ، ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ قالَ في بَعْضِ المَشاهِدِ: ”لِتَأْخُذُوا مَصافَّكم» “ يُرِيدُ بِهِ خُذُوا، هَذا كُلُّهُ كَلامُ الفَرّاءِ. وقُرِئَ ”تَجْمَعُونَ“ بِالتّاءِ، ووَجْهُهُ أنَّهُ تَعالى عَنى المُخاطَبِينَ والغائِبِينَ إلّا أنَّهُ غَلَّبَ المُخاطَبَ عَلى الغائِبِ كَما يُغَلَّبُ التَّذْكِيرُ عَلى التَّأْنِيثِ، فَكَأنَّهُ أرادَ المُؤْمِنِينَ، هَكَذا قالَهُ أهْلُ اللُّغَةِ وفِيهِ دَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ وهو أنَّ الإنْسانَ حَصَلَ فِيهِ مَعْنًى يَدْعُوهُ إلى خِدْمَةِ اللَّهِ تَعالى وإلى الِاتِّصالِ بِعالَمِ الغَيْبِ ومَعارِجِ الرُّوحانِيّاتِ، وفِيهِ مَعْنًى آخَرُ يَدْعُوهُ إلى عالَمِ الحِسِّ والجِسْمِ واللَّذّاتِ الجَسَدانِيَّةِ، وما دامَ الرُّوحُ مُتَعَلِّقًا بِهَذا الجَسَدِ، فَإنَّهُ لا يَنْفَكُّ عَنْ حُبِّ الجَسَدِ، وعَنْ طَلَبِ اللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةِ، فَكَأنَّهُ تَعالى خاطَبَ الصِّدِّيقِينَ العارِفِينَ، وقالَ: حَصَلَتِ الخُصُومَةُ بَيْنَ الحَوادِثِ العَقْلِيَّةِ الإلَهِيَّةِ وبَيْنَ النَّوازِعِ النَّفْسانِيَّةِ الجَسَدانِيَّةِ، والتَّرْجِيحُ لِجانِبِ العَقْلِ لِأنَّهُ يَدْعُو إلى فَضْلِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ والنَّفْسُ تَدْعُو إلى جَمْعِ الدُّنْيا وشَهَواتِها، وفَضْلُ اللَّهِ ورَحْمَتُهُ خَيْرٌ لَكم مِمّا تَجْمَعُونَ مِنَ الدُّنْيا؛ لِأنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ وأبْقى، وما كانَ كَذَلِكَ فَهو أوْلى بِالطَّلَبِ والتَّحْصِيلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب