الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿ياأيُّها النّاسُ قَدْ جاءَتْكم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكم وشِفاءٌ لِما في الصُّدُورِ وهُدًى ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ الطَّرِيقَ إلى إثْباتِ نُبُوَّةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أمْرانِ: الأوَّلُ: أنْ نَقُولَ إنَّ هَذا الشَّخْصَ قَدِ ادَّعى النُّبُوَّةَ وظَهَرَتِ المُعْجِزَةُ عَلى يَدِهِ وكُلُّ مَن كانَ كَذَلِكَ، فَهو رَسُولٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ حَقًّا وصِدْقًا، وهَذا الطَّرِيقُ مِمّا قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ وقَرَّرَهُ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ في قَوْلِهِ: ﴿وما كانَ هَذا القُرْآنُ أنْ يُفْتَرى مِن دُونِ اللَّهِ ولَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وتَفْصِيلَ الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [يونس: ٣٧، ٣٨] وقَدْ ذَكَرْنا في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ ما يُقَوِّي الدِّينَ، ويُورِثُ اليَقِينَ، ويُزِيلُ الشُّكُوكَ والشُّبُهاتِ، ويُبْطِلُ الجَهالاتِ والضَّلالاتِ. وأمّا الطَّرِيقُ الثّانِي فَهو أنْ نَعْلَمَ بِعُقُولِنا أنَّ الِاعْتِقادَ الحَقَّ والعَمَلَ الصّالِحَ ما هو ؟ فَكُلُّ مَن جاءَ ودَعا الخَلْقَ إلَيْهِمْ وحَمَلَهم عَلَيْهِ وكانَتْ لِنَفْسِهِ قُوَّةٌ قَوِيَّةٌ في نَقْلِ النّاسِ مِنَ الكُفْرِ إلى الإيمانِ، ومِنَ الِاعْتِقادِ الباطِلِ إلى الِاعْتِقادِ الحَقِّ، ومِنَ الأعْمالِ الدّاعِيَةِ إلى الدُّنْيا إلى الأعْمالِ الدّاعِيَةِ إلى الآخِرَةِ فَهو النَّبِيُّ الحَقُّ الصّادِقُ (p-٩٣)المُصَدَّقُ، وتَقْرِيرُهُ: أنَّ نُفُوسَ الخَلْقِ قَدِ اسْتَوْلى عَلَيْها أنْواعُ النَّقْصِ والجَهْلِ وحُبِّ الدُّنْيا، ونَحْنُ نَعْلَمُ بِعُقُولِنا أنَّ سَعادَةَ الإنْسانِ لا تَحْصُلُ إلّا بِالِاعْتِقادِ الحَقِّ والعَمَلِ الصّالِحِ، وحاصِلُهُ يَرْجِعُ إلى حَرْفٍ واحِدٍ وهو أنَّ كُلَّ ما قَوّى نُفْرَتَكَ عَنِ الدُّنْيا ورَغْبَتَكَ في الآخِرَةِ فَهو العَمَلُ الصّالِحُ، وكُلُّ ما كانَ بِالضِّدِّ مِن ذَلِكَ فَهو العَمَلُ الباطِلُ والمَعْصِيَةُ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانُوا مُحْتاجِينَ إلى إنْسانٍ كامِلٍ، قَوِيِّ النَّفْسِ، مُشْرِقِ الرُّوحِ، عُلْوِيِّ الطَّبِيعَةِ، ويَكُونُ بِحَيْثُ يَقْوى عَلى نَقْلِ هَؤُلاءِ النّاقِصِينَ مِن مُقامِ النُّقْصانِ إلى مُقامِ الكَمالِ، وذَلِكَ هو النَّبِيُّ. فالحاصِلُ أنَّ النّاسَ أقْسامٌ ثَلاثَةٌ: النّاقِصُونَ والكامِلُونَ الَّذِينَ لا يَقْدِرُونَ عَلى تَكْمِيلِ النّاقِصِينَ، والقِسْمُ الثّالِثُ هو الكامِلُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلى تَكْمِيلِ النّاقِصِينَ، فالقِسْمُ الأوَّلُ هو عامَّةُ الخَلْقِ، والقِسْمُ الثّانِي هُمُ الأوْلِياءُ، والقِسْمُ الثّالِثُ هُمُ الأنْبِياءُ، ولَمّا كانَتِ القُدْرَةُ عَلى نَقْلِ النّاقِصِينَ مِن دَرَجَةِ النُّقْصانِ إلى دَرَجَةِ الكَمالِ مَراتِبُها مُخْتَلِفَةً ودَرَجاتُها مُتَفاوِتَةً، لا جَرَمَ كانَتْ دَرَجاتُ الأنْبِياءِ في قُوَّةِ النُّبُوَّةِ مُخْتَلِفَةً. ولِهَذا السِّرِّ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”«عُلَماءُ أُمَّتِي كَأنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ» “ . إذا عَرَفْتَ هَذِهِ المُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ صِحَّةَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِطَرِيقِ المُعْجِزَةِ، فَفي هَذِهِ الآيَةِ بَيَّنَ صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ بِالطَّرِيقِ الثّانِي، وهَذا الطَّرِيقُ طَرِيقٌ كاشِفٌ عَنْ حَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ، مُعَرِّفٌ لِماهِيَّتِها، فالِاسْتِدْلالُ بِالمُعْجِزِ هو الَّذِي تُسَمِّيهِ المَنطِقِيُّونَ بُرْهانَ الإنْ، وهَذا الطَّرِيقُ هو الطَّرِيقُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بُرْهانَ اللَّمْ، وهو أشْرَفُ وأعْلى وأكْمَلُ وأفْضَلُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى وصَفَ القُرْآنَ في هَذِهِ الآيَةِ بِصِفاتٍ أرْبَعَةٍ: أوَّلُها: كَوْنُهُ مَوْعِظَةً مِن عِنْدِ اللَّهِ. وثانِيها: كَوْنُهُ شِفاءً لِما في الصُّدُورِ. وثالِثُها: كَوْنُهُ هُدًى. ورابِعُها: كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. ولا بُدَّ لِكُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الصِّفاتِ مِن فائِدَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَنَقُولُ: إنَّ الأرْواحَ لَمّا تَعَلَّقَتْ بِالأجْسادِ كانَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِسَبَبِ عِشْقٍ طَبِيعِيٍّ وجَبَ لِلرُّوحِ عَلى الجَسَدِ، ثُمَّ إنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ التَذَّ بِمُشْتَهَياتِ هَذا العالَمِ الجَسَدانِيِّ وطَيِّباتِهِ بِواسِطَةِ الحَواسِّ الخَمْسِ، وتَمَرَّنَ عَلى ذَلِكَ، وألِفَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ واعْتادَها. ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ نُورَ العَقْلِ إنَّما يَحْصُلُ في آخِرِ الدَّرَجَةِ، حَيْثُ قَوِيَتِ العَلائِقُ الحِسِّيَّةُ والحَوادِثُ الجَسَدانِيَّةُ، فَصارَ ذَلِكَ الِاسْتِغْراقُ سَبَبًا لِحُصُولِ العَقائِدِ الباطِلَةِ والأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ في جَوْهَرِ الرُّوحِ، وهَذِهِ الأحْوالُ تَجْرِي مَجْرى الأمْراضِ الشَّدِيدَةِ لِجَوْهَرِ الرُّوحِ، فَلا بُدَّ لَها مِن طَبِيبٍ حاذِقٍ، فَإنَّ مَن وقَعَ في المَرَضِ الشَّدِيدِ، فَإنْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ طَبِيبٌ حاذِقٌ يُعالِجُهُ بِالعِلاجاتِ الصّائِبَةِ ماتَ لا مَحالَةَ، وإنِ اتَّفَقَ أنْ صادَفَهُ مِثْلُ هَذا الطَّبِيبِ، وكانَ هَذا البَدَنُ قابِلًا لِلْعِلاجاتِ الصّائِبَةِ فَرُبَّما حَصَلَتِ الصِّحَّةُ وزالَ السُّقْمُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ مُحَمَّدًا ﷺ كانَ كالطَّبِيبِ الحاذِقِ، وهَذا القُرْآنُ عِبارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ أدْوِيَتِهِ الَّتِي بِتَرْكِيبِها تُعالَجُ القُلُوبُ المَرِيضَةُ. ثُمَّ إنَّ الطَّبِيبَ إذا وصَلَ إلى المَرِيضِ فَلَهُ مَعَهُ مَراتِبُ أرْبَعَةٌ: المَرْتَبَةُ الأُولى: أنْ يَنْهاهُ عَنْ تَناوُلِ ما لا يَنْبَغِي ويَأْمُرَهُ بِالِاحْتِرازِ عَنْ تِلْكَ الأشْياءِ الَّتِي بِسَبَبِها وقَعَ في ذَلِكَ المَرَضِ، وهَذا هو المَوْعِظَةُ فَإنَّهُ لا مَعْنى لِلْوَعْظِ إلّا الزَّجْرُ عَنْ كُلِّ ما يَبْعُدُ عَنْ رِضْوانِ اللَّهِ تَعالى، والمَنعُ عَنْ كُلِّ ما يَشْغَلُ القَلْبَ بِغَيْرِ اللَّهِ. المَرْتَبَةُ الثّانِيَةُ: الشِّفاءُ وهو أنْ يَسْقِيَهُ أدْوِيَةً تُزِيلُ عَنْ باطِنِهِ تِلْكَ الأخْلاطَ الفاسِدَةَ المُوجِبَةَ لِلْمَرَضِ، فَكَذَلِكَ الأنْبِياءُ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - إذا مَنَعُوا الخَلْقَ عَنْ فِعْلِ المَحْظُوراتِ صارَتْ ظَواهِرُهم مُطَهَّرَةً عَنْ فِعْلِ ما لا (p-٩٤)يَنْبَغِي، فَحِينَئِذٍ يَأْمُرُونَهم بِطَهارَةِ الباطِنِ، وذَلِكَ بِالمُجاهَدَةِ في إزالَةِ الأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ، وتَحْصِيلِ الأخْلاقِ الحَمِيدَةِ، وأوائِلُها ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ﴾ [النحل: ٩٠] وذَلِكَ لِأنّا ذَكَرْنا أنَّ العَقائِدَ الفاسِدَةَ والأخْلاقَ الذَّمِيمَةَ جارِيَةٌ مَجْرى الأمْراضِ، فَإذا زالَتْ فَقَدْ حَصَلَ الشِّفاءُ لِلْقَلْبِ، وصارَ جَوْهَرُ الرُّوحِ مُطَهَّرًا عَنْ جَمِيعِ النُّقُوشِ المانِعَةِ عَنْ مُطالَعَةِ عالَمِ المَلَكُوتِ. والمَرْتَبَةُ الثّالِثَةُ: حُصُولُ الهُدى، وهَذِهِ المَرْتَبَةُ لا يُمْكِنُ حُصُولُها إلّا بَعْدَ المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ؛ لِأنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ النّاطِقَةِ قابِلٌ لِلْجَلايا القُدْسِيَّةِ والأضْواءِ الإلَهِيَّةِ، وفَيْضُ الرَّحْمَةِ عامٌّ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ عَلى ما قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إنَّ لِرَبِّكم في أيّامِ دَهْرِكم نَفَحاتٍ ألا فَتَعَرَّضُوا لَها» “ وأيْضًا فالمَنعُ إنَّما يَكُونُ إمّا لِلْعَجْزِ أوْ لِلْجَهْلِ أوْ لِلْبُخْلِ، والكُلُّ في حَقِّ الحَقِّ مُمْتَنِعٌ، فالمَنعُ في حَقِّهِ مُمْتَنِعٌ، فَعَلى هَذا عَدَمُ حُصُولِ هَذِهِ الأضْواءِ الرُّوحانِيَّةِ إنَّما كانَ لِأجْلِ أنَّ العَقائِدَ الفاسِدَةَ والأخْلاقَ الذَّمِيمَةَ طَبْعُها طَبْعُ الظُّلْمَةِ، وعِنْدَ قِيامِ الظُّلْمَةِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ النُّورِ، فَإذا زالَتْ تِلْكَ الأحْوالُ، فَقَدْ زالَ العائِقُ، فَلا بُدَّ وأنْ يَقَعَ ضَوْءُ عالَمِ القُدْسِ في جَوْهَرِ النَّفْسِ القُدْسِيَّةِ، ولا مَعْنى لِذَلِكَ الضَّوْءِ إلّا الهُدى، فَعِنْدَ هَذِهِ الحالَةِ تَصِيرُ هَذِهِ النَّفْسُ بِحَيْثُ قَدِ انْطَبَعَ فِيها نَقْشُ المَلَكُوتِ وتَجَلّى لَها قُدْسُ اللّاهُوتِ، وأوَّلُ هَذِهِ المَرْتَبَةِ هو قَوْلُهُ: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ﴾ [الفجر: ٢٧] وأوْسَطُها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَفِرُّوا إلى اللَّهِ﴾ [الذاريات: ٥٠] وآخِرُها قَوْلُهُ: ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهم في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنعام: ٩١] ومَجْمُوعُها قَوْلُهُ: ﴿ولِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ والأرْضِ وإلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فاعْبُدْهُ وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود: ١٢٣] وسَيَجِيءُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآياتِ في مَواضِعِها بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى، وهَذِهِ المَرْتَبَةُ هي المُرادُ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ ﴿وهُدًى﴾ . وأمّا المَرْتَبَةُ الرّابِعَةُ: فَهي أنْ تَصِيرَ النَّفْسُ البالِغَةُ إلى هَذِهِ الدَّرَجاتِ الرُّوحانِيَّةِ والمَعارِجِ الرَّبّانِيَّةِ بِحَيْثُ تَفِيضُ أنْوارُها عَلى أرْواحِ النّاقِصِينَ فَيْضَ النُّورِ مِن جَوْهَرِ الشَّمْسِ عَلى أجْرامِ هَذا العالَمِ، وذَلِكَ هو المُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وإنَّما خَصَّ المُؤْمِنِينَ بِهَذا المَعْنى لِأنَّ أرْواحَ المُعانِدِينَ لا تَسْتَضِيءُ بِأنْوارِ أرْواحِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ؛ لِأنَّ الجِسْمَ القابِلَ لِلنُّورِ عَنْ قُرْصِ الشَّمْسِ هو الَّذِي يَكُونُ وجْهُهُ مُقابِلًا لِوَجْهِ الشَّمْسِ، فَإنْ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ المُقابَلَةُ لَمْ يَقَعْ ضَوْءُ الشَّمْسِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ كَلُّ رُوحٍ لَمّا لَمْ تَتَوَجَّهْ إلى خِدْمَةِ أرْواحِ الأنْبِياءِ المُطَهَّرِينَ، لَمْ تَنْتَفِعْ بِأنْوارِهِمْ، ولَمْ يَصِلْ إلَيْها آثارُ تِلْكَ الأرْواحِ المُطَهَّرَةِ المُقَدَّسَةِ، وكَما أنَّ الأجْسامَ الَّتِي لا تَكُونُ مُقابِلَةً لِقُرْصِ الشَّمْسِ مُخْتَلِفَةُ الدَّرَجاتِ والمَراتِبِ في البُعْدِ عَنْ هَذِهِ المُقابَلَةِ، ولا تَزالُ تَتَزايَدُ دَرَجاتُ هَذا البُعْدِ حَتّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ الجِسْمُ إلى غايَةِ بُعْدِهِ عَنْ مُقابَلَةِ قُرْصِ الشَّمْسِ، فَلا جَرَمَ يَبْقى خالِصَ الظُّلْمَةِ، فَكَذَلِكَ تَتَفاوَتُ مَراتِبُ النُّفُوسِ في قَبُولِ هَذِهِ الأنْوارِ عَنْ أرْواحِ الأنْبِياءِ ولا تَزالُ تَتَزايَدُ حَتّى تَنْتَهِيَ إلى النَّفْسِ الَّتِي كَمُلَتْ ظُلْمَتُها، وعَظُمَتْ شَقاوَتُها، وانْتَهَتْ في العَقائِدِ الفاسِدَةِ والأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ إلى أقْصى الغاياتِ، وأبْعَدِ النِّهاياتِ، فالحاصِلُ أنَّ المَوْعِظَةَ إشارَةٌ إلى تَطْهِيرِ ظَواهِرِ الخَلْقِ عَمّا لا يَنْبَغِي وهو الشَّرِيعَةُ، والشِّفاءُ إشارَةٌ إلى تَطْهِيرِ الأرْواحِ عَنِ العَقائِدِ الفاسِدَةِ والأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ، وهو الطَّرِيقَةُ، والهُدى وهو إشارَةٌ إلى ظُهُورِ نُورِ الحَقِّ في قُلُوبِ الصِّدِّيقِينَ وهو الحَقِيقَةُ، والرَّحْمَةُ وهي إشارَةٌ إلى كَوْنِها بالِغَةً في الكَمالِ والإشْراقِ إلى حَيْثُ تَصِيرُ مُكَمِّلَةً لِلنّاقِصِينَ وهي النُّبُوَّةُ، فَهَذِهِ دَرَجاتٌ عَقْلِيَّةٌ ومَراتِبُ بُرْهانِيَّةٌ، مَدْلُولٌ عَلَيْها بِهَذِهِ (p-٩٥)الألْفاظِ القُرْآنِيَّةِ لا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، ولا تَقْدِيمُ ما تَأخَّرَ ذِكْرُهُ، ولَمّا نَبَّهَ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ عَلى هَذِهِ الأسْرارِ العالِيَةِ الإلَهِيَّةِ قالَ: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ والمَقْصُودُ مِنهُ الإشارَةُ إلى ما قَرَّرَهُ حُكَماءُ الإسْلامِ مِن أنَّ السَّعاداتِ الرُّوحانِيَّةِ أفْضَلُ مِنَ السَّعاداتِ الجُسْمانِيَّةِ وقَدْ سَبَقَ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِن هَذا الكِتابِ المُبالَغَةُ في تَقْرِيرِ هَذا المَعْنى فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ؛ انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب