الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى ﴿ويَسْتَنْبِئُونَكَ أحَقٌّ هو قُلْ إي ورَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ ﴿ولَوْ أنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما في الأرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وأسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأوُا العَذابَ وقُضِيَ بَيْنَهم بِالقِسْطِ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ أخَبَرَ عَنِ الكُفّارِ بِقَوْلِهِ: ﴿ويَقُولُونَ مَتى هَذا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ . [الأنبياء: ٣٨]
وأجابَ عَنْهُ بِما تَقَدَّمَ؛ فَحَكى عَنْهم أنَّهم رَجَعُوا إلى الرَّسُولِ مَرَّةً أُخْرى في عَيْنِ هَذِهِ الواقِعَةِ وسَألُوهُ عَنْ ذَلِكَ السُّؤالِ مَرَّةً أُخْرى وقالُوا: أحَقٌّ هو ؟ واعْلَمْ أنَّ هَذا السُّؤالَ جَهْلٌ مَحْضٌ مِن وُجُوهٍ:
أوَّلُها: أنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ هَذا السُّؤالُ مَعَ الجَوابِ، فَلا يَكُونُ في الإعادَةِ فائِدَةٌ.
وثانِيها: أنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الدَّلالَةِ العَقْلِيَّةِ عَلى كَوْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولًا مِن عِنْدِ اللَّهِ، وهو بَيانُ كَوْنِ القُرْآنِ مُعْجِزًا، وإذا صَحَّتْ نُبُوَّتُهُ لَزِمَ القَطْعُ بِصِحَّةِ كُلِّ ما يُخْبِرُ عَنْ وُقُوعِهِ، فَهَذِهِ المَعانِي تُوجِبُ الإعْراضَ عَنْهم، وتَرْكَ الِالتِفاتِ إلى سُؤالِهِمْ.
واخْتَلَفُوا في الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ: ﴿أحَقٌّ هُوَ﴾ قِيلَ: أحَقٌّ ما جِئْتَنا بِهِ مِنَ القُرْآنِ والنُّبُوَّةِ والشَّرائِعِ.
وقِيلَ: ما تَعِدُنا مِنَ البَعْثِ والقِيامَةِ.
وقِيلَ: ما تَعِدُنا مِن نُزُولِ العَذابِ عَلَيْنا في الدُّنْيا.
(p-٩٠)ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أمَرَهُ أنْ يُجِيبَهم بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إي ورَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ﴾ والفائِدَةُ فِيهِ أُمُورٌ:
أحَدُها: أنْ يَسْتَمِيلَهم ويَتَكَلَّمَ مَعَهم بِالكَلامِ المُعْتادِ.
ومِنَ الظّاهِرِ أنَّ مَن أخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ وأكَّدَهُ بِالقَسَمِ، فَقَدْ أخْرَجَهُ عَنِ الهَزْلِ، وأدْخَلَهُ في بابِ الجِدِّ.
وثانِيها: أنَّ النّاسَ طَبَقاتٌ فَمِنهم مَن لا يُقِرُّ بِالشَّيْءِ إلّا بِالبُرْهانِ الحَقِيقِيِّ، ومِنهم مَن لا يَنْتَفِعُ بِالبُرْهانِ الحَقِيقِيِّ، بَلْ يَنْتَفِعُ بِالأشْياءِ الإقْناعِيَّةِ نَحْوَ القَسَمِ، فَإنَّ الأعْرابِيَّ الَّذِي جاءَ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وسَألَ عَنْ نَبُّوتِهِ ورِسالَتِهِ اكْتَفى في تَحْقِيقِ تِلْكَ الدَّعْوى بِالقَسَمِ، فَكَذا هَهُنا.
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ ولا بُدَّ فِيهِ مِن تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ المُرادُ وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لِمَن وعَدَكم بِالعَذابِ أنْ يُنْزِلَهُ عَلَيْكم والغَرَضُ مِنهُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ أحَدًا لا يَجُوزُ أنْ يُمانِعَ رَبَّهُ ويُدافِعَهُ عَمّا أرادَ وقَضى، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ هَذا الجِنْسَ مِنَ الكَلِماتِ، إنَّما يَجُوزُ عَلَيْهِمْ ما دامُوا في الدُّنْيا، فَأمّا إذا حَضَرُوا مَحْفِلَ القِيامَةِ وعايَنُوا قَهْرَ اللَّهِ تَعالى، وآثارَ عَظَمَتِهِ، تَرَكُوا ذَلِكَ واشْتَغَلُوا بِأشْياءَ أُخْرى، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم ثَلاثَةَ أشْياءَ:
أوَّلُها: قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ أنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما في الأرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ﴾ إلّا أنَّ ذَلِكَ مُتَعَذَّرٌ؛ لِأنَّهُ في مَحْفِلِ القِيامَةِ لا يَمْلِكُ شَيْئًا كَما قالَ تَعالى: ﴿وكُلُّهم آتِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: ٩٥] وبِتَقْدِيرِ: أنْ يَمْلِكَ خَزائِنَ الأرْضِ لا يَنْفَعُهُ الفِداءُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يُؤْخَذُ مِنها عَدْلٌ ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: ٤٨] وقالَ في صِفَةِ هَذا اليَوْمِ ﴿لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خُلَّةٌ ولا شَفاعَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٤] .
وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿وأسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأوُا العَذابَ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأسَرُّوا النَّدامَةَ﴾ جاءَ عَلى لَفْظِ الماضِي، والقِيامَةُ مِنَ الأُمُورِ المُسْتَقْبَلَةِ إلّا أنَّها لَمّا كانَتْ واجِبَةَ الوُقُوعِ، جَعَلَ اللَّهُ مُسْتَقْبَلَها كالماضِي، واعْلَمْ أنَّ الإسْرارَ هو الإخْفاءُ والإظْهارُ وهو مِنَ الأضْدادِ، أمّا وُرُودُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِمَعْنى الإخْفاءِ فَظاهِرٌ، وأمّا وُرُودُها بِمَعْنى الإظْهارِ فَهو مِن قَوْلِهِمْ سَرَّ الشَّيْءَ وأسَرَّهُ إذا أظْهَرَهُ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: المُرادُ مِنهُ إخْفاءُ تِلْكَ النَّدامَةِ، والسَّبَبُ في هَذا الإخْفاءِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهم لَمّا رَأوُا العَذابَ الشَّدِيدَ صارُوا مَبْهُوتِينَ مُتَحَيِّرِينَ، فَلَمْ يُطِيقُوا عِنْدَهُ بُكاءً ولا صُراخًا سِوى إسْرارِ النَّدَمِ كالحالِ فِيمَن يُذْهَبُ بِهِ لِيُصْلَبَ، فَإنَّهُ يَبْقى مَبْهُوتًا مُتَحَيِّرًا لا يَنْطِقُ بِكَلِمَةٍ.
الثّانِي: أنَّهم أسَرُّوا النَّدامَةَ مِن سَفَلَتِهِمْ وأتْباعِهِمْ حَياءً مِنهم وخَوْفًا مِن تَوْبِيخِهِمْ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّ مَهابَةَ ذَلِكَ المَوْقِفِ تَمْنَعُ الإنْسانَ عَنْ هَذا التَّدْبِيرِ فَكَيْفَ قَدِمُوا عَلَيْهِ ؟
قُلْنا: إنَّ هَذا الكِتْمانَ إنَّما يَحْصُلُ قَبْلَ الِاحْتِراقِ بِالنّارِ، فَإذا احْتَرَقُوا تَرَكُوا هَذا الإخْفاءَ وأظْهَرُوهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا﴾ [المؤمنون: ١٠٦]
الثّالِثُ: أنَّهم أسَرُّوا تِلْكَ النَّدامَةَ لِأنَّهم أخْلَصُوا لِلَّهِ في تِلْكَ النَّدامَةِ، ومَن أخْلَصَ في الدُّعاءِ أسَرَّهُ، وفِيهِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ وبِإخْلاصِهِمْ، يَعْنِي أنَّهم لَمّا أتَوْا بِهَذا الإخْلاصِ في غَيْرِ وقْتِهِ لَمْ يَنْفَعْهم، بَلْ كانَ مِنَ الواجِبِ عَلَيْهِمْ أنْ يَأْتُوا بِهِ في دارِ الدُّنْيا وقْتَ التَّكْلِيفِ، وأمّا مَن فَسَّرَ الإسْرارَ بِالإظْهارِ فَقَوْلُهُ ظاهِرٌ؛ لِأنَّهم إنَّما أخْفَوُا النَّدامَةَ عَلى الكُفْرِ والفِسْقِ في الدُّنْيا لِأجْلِ حِفْظِ الرِّياسَةِ، وفي القِيامَةِ بَطُلَ هَذا الغَرَضُ فَوَجَبَ الإظْهارُ.
وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقُضِيَ بَيْنَهم بِالقِسْطِ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ فَقِيلَ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ، وقِيلَ بَيْنَ الرُّؤَساءِ والأتْباعِ، وقِيلَ بَيْنَ الكُفّارِ بِإنْزالِ العُقُوبَةِ عَلَيْهِمْ.
(p-٩١)واعْلَمْ أنَّ الكُفّارَ وإنِ اشْتَرَكُوا في العَذابِ فَإنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَقْضِيَ اللَّهُ تَعالى بَيْنَهم؛ لِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ قَدْ ظَلَمَ بَعْضُهم بَعْضًا في الدُّنْيا وخانَهُ، فَيَكُونُ في ذَلِكَ القَضاءِ تَخْفِيفٌ مِن عَذابِ بَعْضِهِمْ، وتَثْقِيلٌ لِعَذابِ الباقِينَ؛ لِأنَّ العَدْلَ يَقْتَضِي أنْ يَنْتَصِفَ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظّالِمِينَ، ولا سَبِيلَ إلَيْهِ إلّا بِأنْ يُخَفِّفَ مِن عَذابِ المَظْلُومِينَ ويُثَقِّلَ في عَذابِ الظّالِمِينَ.
﴿ألا إنَّ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ والأرْضِ ألا إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿هُوَ يُحْيِي ويُمِيتُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
{"ayahs_start":53,"ayahs":["۞ وَیَسۡتَنۢبِـُٔونَكَ أَحَقٌّ هُوَۖ قُلۡ إِی وَرَبِّیۤ إِنَّهُۥ لَحَقࣱّۖ وَمَاۤ أَنتُم بِمُعۡجِزِینَ","وَلَوۡ أَنَّ لِكُلِّ نَفۡسࣲ ظَلَمَتۡ مَا فِی ٱلۡأَرۡضِ لَٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ وَأَسَرُّوا۟ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا۟ ٱلۡعَذَابَۖ وَقُضِیَ بَیۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ"],"ayah":"وَلَوۡ أَنَّ لِكُلِّ نَفۡسࣲ ظَلَمَتۡ مَا فِی ٱلۡأَرۡضِ لَٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ وَأَسَرُّوا۟ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا۟ ٱلۡعَذَابَۖ وَقُضِیَ بَیۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق