الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا وعْدَ اللَّهِ حَقًّا إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ والَّذِينَ كَفَرُوا لَهم شَرابٌ مِن حَمِيمٍ وعَذابٌ ألِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا ذَكَرَ الدَّلائِلَ الدّالَّةَ عَلى إثْباتِ المَبْدَأِ أرْدَفَهُ بِما يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ بِالمَعادِ. وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في بَيانِ أنَّ إنْكارَ الحَشْرِ والنَّشْرِ لَيْسَ مِنَ العُلُومِ البَدِيهِيَّةِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ العُقَلاءَ اخْتَلَفُوا في وُقُوعِهِ وعَدَمِ وُقُوعِهِ. وقالَ بِإمْكانِهِ عالَمٌ مِنَ النّاسِ، وهم جُمْهُورُ أرْبابِ المِلَلِ والأدْيانِ. وما كانَ مَعْلُومَ الِامْتِناعِ بِالبَدِيهَةِ امْتَنَعَ وُقُوعُ الِاخْتِلافِ فِيهِ.
الثّانِي: أنّا إذا رَجَعْنا إلى عُقُولِنا السَّلِيمَةِ وعَرَضْنا عَلَيْها أنَّ الواحِدَ ضِعْفُ الِاثْنَيْنِ، وعَرَضْنا عَلَيْها أيْضًا هَذِهِ القَضِيَّةَ، لَمْ نَجِدْ هَذِهِ القَضِيَّةَ في قُوَّةِ الِامْتِناعِ مِثْلَ القَضِيَّةِ الأُولى.
الثّالِثُ: أنّا إمّا أنْ نَقُولَ بِثُبُوتِ النَّفْسِ النّاطِقَةِ، أوْ لا نَقُولَ بِهِ. فَإنْ قُلْنا بِهِ فَقَدْ زالَ الإشْكالُ بِالكُلِّيَّةِ، فَإنَّهُ كَما لا يَمْتَنِعُ تَعَلُّقُ هَذِهِ النَّفْسِ بِالبَدَنِ في المَرَّةِ الأُولى لَمْ يَمْتَنِعْ تَعَلُّقُها بِالبَدَنِ مَرَّةً أُخْرى. وإنْ أنْكَرْنا القَوْلَ بِالنَّفْسِ فالِاحْتِمالُ أيْضًا قائِمٌ؛ لِأنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ إنَّهُ سُبْحانَهُ يُرَكِّبُ تِلْكَ الأجْزاءَ المُفَرَّقَةَ تَرْكِيبًا ثانِيًا، ويَخْلُقُ الإنْسانَ الأوَّلَ مَرَّةً أُخْرى.
والرّابِعُ: أنَّهُ سُبْحانَهُ ذَكَرَ أمْثِلَةً كَثِيرَةً دالَّةً عَلى إمْكانِ الحَشْرِ والنَّشْرِ ونَحْنُ نَجْمَعُها هَهُنا.
فالمِثالُ الأوَّلُ: أنّا نَرى الأرْضَ خاشِعَةً وقْتَ الخَرِيفِ، ونَرى اليُبْسَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْها بِسَبَبِ شِدَّةِ الحَرِّ في الصَّيْفِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى يُنْزِلُ المَطَرَ عَلَيْها وقْتَ الشِّتاءِ والرَّبِيعِ، فَتَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَحَلِّيَةً بِالأزْهارِ العَجِيبَةِ والأنْوارِ الغَرِيبَةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ الَّذِي أرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَسُقْناهُ إلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأحْيَيْنا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ [فاطر: ٩] .
وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَرى الأرْضَ هامِدَةً فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ﴾ [الحج: ٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ وأنَّهُ يُحْيِي المَوْتى﴾ [الحج: ٦] .
وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ في الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا ألْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطامًا إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الألْبابِ﴾ [الزمر: ٢١] (p-١٥)والمُرادُ كَوْنُهُ مُنَبِّهًا عَلى أمْرِ المَعادِ.
ورابِعُها: قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أماتَهُ فَأقْبَرَهُ﴾ ﴿ثُمَّ إذا شاءَ أنْشَرَهُ﴾ ﴿كَلّا لَمّا يَقْضِ ما أمَرَهُ﴾ ﴿فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طَعامِهِ﴾ [عبس: ٢١ - ٢٤] وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إذا رَأيْتُمُ الرَّبِيعَ فَأكْثِرُوا ذِكْرَ النُّشُورِ» “ ولَمْ تَحْصُلِ المُشابَهَةُ بَيْنَ الرَّبِيعِ وبَيْنَ النُّشُورِ إلّا مِنَ الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ.
المِثالُ الثّانِي: ما يَجِدُهُ كُلُّ واحِدٍ مِنّا مِن نَفْسِهِ مِنَ الزِّيادَةِ والنُّمُوِّ بِسَبَبِ السِّمَنِ، ومِنَ النُّقْصانِ والذُّبُولِ بِسَبَبِ الهُزالِ، ثُمَّ إنَّهُ قَدْ يَعُودُ إلى حالَتِهِ الأُولى بِالسِّمَنِ.
وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: ما جازَ تَكَوُّنُ بَعْضِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ أيْضًا تَكَوُّنُ كُلِّهِ، ولَمّا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أنَّ الإعادَةَ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونُنْشِئَكم في ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [الواقعة: ٦١] يَعْنِي: أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا كانَ قادِرًا عَلى إنْشاءِ ذَواتِكم أوَّلًا، ثُمَّ عَلى إنْشاءِ أجْزائِكِمْ حالَ حَياتِكم ثانِيًا شَيْئًا فَشَيْئًا، مِن غَيْرِ أنْ تَكُونُوا عالِمِينَ بِوَقْتِ حُدُوثِهِ وبِوَقْتِ نُقْصانِهِ. فَوَجَبَ القَطْعُ أيْضًا بِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ إعادَتُكم بَعْدَ البِلى في القُبُورِ لِحَشْرِ يَوْمِ القِيامَةِ.
المِثالُ الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا كانَ قادِرًا عَلى أنْ يَخْلُقَنا ابْتِداءً مِن غَيْرِ مِثالٍ سَبَقَ، فَلَأنْ يَكُونَ قادِرًا عَلى إيجادِنا مَرَّةً أُخْرى مَعَ سَبْقِ الإيجادِ الأوَّلِ كانَ أوْلى، وهَذا الكَلامُ قَرَّرَهُ تَعالى في آياتٍ كَثِيرَةٍ، مِنها في هَذِهِ الآيَةِ وهو قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ .
وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ يس: ﴿قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أنْشَأها أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٩] .
وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأةَ الأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٦٢]
ورابِعُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَعَيِينا بِالخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هم في لَبْسٍ مِن خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق: ١٥]
وخامِسُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ أنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ ﴿ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِن مَنِيٍّ يُمْنى﴾ [القيامة: ٣٦ - ٣٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿ألَيْسَ ذَلِكَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يُحْيِيَ المَوْتى﴾ [القيامة: ٤٠] .
وسادِسُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها النّاسُ إنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإنّا خَلَقْناكم مِن تُرابٍ﴾ [الحج: ٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ وأنَّهُ يُحْيِي المَوْتى وأنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿وأنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وأنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن في القُبُورِ﴾ [الحج: ٦، ٧] فاسْتَشْهَدَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ عَلى صِحَّةِ الحَشْرِ بِأُمُورٍ، الأوَّلُ: أنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالخَلْقِ الأوَّلِ عَلى إمْكانِ الخَلْقِ الثّانِي وهو قَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإنّا خَلَقْناكم مِن تُرابٍ﴾ [الحج: ٥] كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: لَمّا حَصَّلَ الخَلْقُ الأوَّلُ بِانْتِقالِ هَذِهِ الأجْسامِ مِن أحْوالٍ إلى أحْوالٍ أُخْرى، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَحْصُلَ الخَلْقُ الثّانِي بَعْدَ تَغَيُّراتٍ كَثِيرَةٍ واخْتِلافاتٍ مُتَعاقِبَةٍ ؟
والثّانِي: أنَّهُ تَعالى شَبَّهَها بِإحْياءِ الأرْضِ المَيِّتَةِ.
والثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى هو الحَقُّ وإنَّما يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كانَ كامِلَ القُدْرَةِ تامَّ العِلْمِ والحِكْمَةِ. فَهَذِهِ هي الوُجُوهُ المُسْتَنْبَطَةُ مِن هَذِهِ الآيَةِ عَلى إمْكانِ صِحَّةِ الحَشْرِ والنَّشْرِ.
والآيَةُ السّابِعَةُ في هَذا البابِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيدًا﴾ ﴿أوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ في صُدُورِكم فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكم أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء: ٥٠، ٥١] .
المِثالُ الرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا قَدَرَ عَلى تَخْلِيقِ ما هو أعْظَمُ مِن أبْدانِ النّاسِ فَكَيْفَ يُقالُ: إنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى إعادَتِها ؟ فَإنَّ مَن كانَ الفِعْلُ الأصْعَبُ عَلَيْهِ سَهْلًا، فَلَأنْ يَكُونَ الفِعْلُ السَّهْلُ الحَقِيرُ عَلَيْهِ سَهْلًا كانَ أوْلى، وهَذا المَعْنى مَذْكُورٌ في آياتٍ كَثِيرَةٍ، مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يس: ٨١] (p-١٦)
وثانِيها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ ولَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أنْ يُحْيِيَ المَوْتى﴾ [الأحقاف: ٣٣] .
وثالِثُها: ﴿أأنْتُمْ أشَدُّ خَلْقًا أمِ السَّماءُ بَناها﴾ [النازعات: ٢٧] .
المِثالُ الخامِسُ: الِاسْتِدْلالُ بِحُصُولِ اليَقَظَةِ بَعْدَ النَّوْمِ عَلى جَوازِ الحَشْرِ والنَّشْرِ، فَإنَّ النَّوْمَ أخُو المَوْتِ، واليَقَظَةُ شَبِيهَةٌ بِالحَياةِ بَعْدَ المَوْتِ. قالَ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكم بِاللَّيْلِ ويَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ﴾ [الأنعام: ٦٠] ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ أمْرَ المَوْتِ والبَعْثِ، فَقالَ: ﴿وهُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ويُرْسِلُ عَلَيْكم حَفَظَةً حَتّى إذا جاءَ أحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وهم لا يُفَرِّطُونَ﴾ ﴿ثُمَّ رُدُّوا إلى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ﴾ [الأنعام: ٦١، ٦٢] وقالَ في آيَةٍ أُخْرى ﴿اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والَّتِي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها﴾ [الزمر: ٤٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الرعد: ٣] والمُرادُ مِنهُ الِاسْتِدْلالُ بِحُصُولِ هَذِهِ الأحْوالِ عَلى صِحَّةِ البَعْثِ والحَشْرِ والنَّشْرِ.
المِثالُ السّادِسُ: أنَّ الإحْياءَ بَعْدَ المَوْتِ لا يُسْتَنْكَرُ إلّا مِن حَيْثُ إنَّهُ يَحْصُلُ الضِّدُّ بَعْدَ حُصُولِ الضِّدِّ، إلّا أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ لَمّا جازَ حُصُولُ المَوْتِ عَقِيبَ الحَياةِ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ حُصُولُ الحَياةِ مَرَّةً أُخْرى بَعْدَ المَوْتِ ؟ فَإنَّ حُكْمَ الضِّدَّيْنِ واحِدٌ. قالَ تَعالى مُقَرِّرًا لِهَذا المَعْنى: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ [الواقعة: ٦٠] وأيْضًا نَجِدُ النّارَ مَعَ حَرِّها ويُبْسِها تَتَوَلَّدُ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ مَعَ بَرْدِهِ ورُطُوبَتِهِ، فَقالَ: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكم مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نارًا فَإذا أنْتُمْ مِنهُ تُوقِدُونَ﴾ [يس: ٨٠] فَكَذا هاهُنا، فَهَذا جُمْلَةُ الكَلامِ في بَيانِ أنَّ القَوْلَ بِالمَعادِ وحُصُولِ الحَشْرِ والنَّشْرِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ في العُقُولِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في إقامَةِ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ المَعادَ حَقٌّ واجِبٌ.
اعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ فَرِيقانِ؛ مِنهم مَن يَقُولُ: يَجِبُ عَقْلًا أنْ يَكُونَ إلَهُ العالَمِ رَحِيمًا عادِلًا مُنَزَّهًا عَنِ الإيلامِ والإضْرارِ، إلّا لِمَنافِعَ أجَلَّ وأعْظَمَ مِنها، ومِنهم مَن يُنْكِرُ هَذِهِ القاعِدَةَ ويَقُولُ: لا يَجِبُ عَلى اللَّهِ تَعالى شَيْءٌ أصْلًا، بَلْ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ. أمّا الفَرِيقُ الأوَّلُ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلى وُجُودِ المَعادِ مِن وُجُوهٍ:
الحُجَّةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى خَلَقَ الخَلْقَ وأعْطاهم عُقُولًا بِها يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الحَسَنِ والقَبِيحِ، وأعْطاهم قُدَرًا بِها يَقْدِرُونَ عَلى الخَيْرِ والشَّرِّ. وإذا ثَبَتَ هَذا، فَمِنَ الواجِبِ في حِكْمَةِ اللَّهِ تَعالى وعَدْلِهِ أنْ يَمْنَعَ الخَلْقَ عَنْ شَتْمِ اللَّهِ وذِكْرِهِ بِالسُّوءِ، وأنْ يَمْنَعَهم عَنِ الجَهْلِ والكَذِبِ وإيذاءِ أنْبِيائِهِ وأوْلِيائِهِ والصّالِحِينَ مِن خَلْقِهِ. ومِنَ الواجِبِ في حِكْمَتِهِ أنْ يُرَغِّبَهم في الطّاعاتِ والخَيْراتِ والحَسَناتِ، فَإنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْنَعْ عَنْ تِلْكَ القَبائِحِ، ولَمْ يُرَغِّبْ في هَذِهِ الخَيْراتِ، قَدَحَ ذَلِكَ في كَوْنِهِ مُحْسِنًا عادِلًا ناظِرًا لِعِبادِهِ. ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ التَّرْغِيبَ في الطّاعاتِ لا يُمْكِنُ إلّا بِرَبْطِ الثَّوابِ بِفِعْلِها، والزَّجْرِ عَنِ القَبائِحِ لا يُمْكِنُ إلّا بِرَبْطِ العِقابِ بِفِعْلِها، وذَلِكَ الثَّوابُ المُرَغَّبُ فِيهِ، والعِقابُ المُهَدَّدُ بِهِ غَيْرُ حاصِلٍ في دارِ الدُّنْيا. فَلا بُدَّ مِن دارٍ أُخْرى يَحْصُلُ فِيها هَذا الثَّوابُ وهَذا العِقابُ، وهو المَطْلُوبُ، وإلّا لَزِمَ كَوْنُهُ كاذِبًا، وأنَّهُ باطِلٌ. وهَذا هو المُرادُ مِنَ الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيها وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ﴾ .
فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ يَكْفِي في التَّرْغِيبِ في فِعْلِ الخَيْراتِ وفي الرَّدْعِ عَنِ المُنْكَراتِ ما أوْدَعَ اللَّهُ في العُقُولِ مَن تَحْسِينِ الخَيْراتِ وتَقْبِيحِ المُنْكَراتِ، ولا حاجَةَ مَعَ ذَلِكَ إلى الوَعْدِ والوَعِيدِ ؟ سَلَّمْنا أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: الغَرَضُ مِنهُ مُجَرَّدُ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ؛ لِيَحْصُلَ بِهِ نِظامُ العالَمِ (p-١٧)كَما قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ياعِبادِ فاتَّقُونِ﴾ [الزمر: ١٦] فَإمّا أنْ يَفْعَلَ تَعالى ذَلِكَ فَما الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ؟ قَوْلُهُ: لَوْ لَمْ يَفْعَلْ ما أخْبَرَ عَنْهُ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ لَصارَ كَلامُهُ كَذِبًا فَنَقُولُ: ألَسْتُمْ تُخَصِّصُونَ أكْثَرَ عُمُوماتِ القُرْآنِ لِقِيامِ الدَّلالَةِ عَلى وُجُوبِ ذَلِكَ التَّخْصِيصِ، فَإنْ كانَ هَذا كَذِبًا وجَبَ فِيما تَحْكُمُونَ بِهِ مِن تِلْكَ التَّخْصِيصاتِ أنْ يَكُونَ كَذِبًا ؟ سَلَّمْنا أنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ، لَكِنْ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ ذَلِكَ الثَّوابَ والعِقابَ عِبارَةٌ عَمّا يَصِلُ إلى الإنْسانِ مِن أنْواعِ الرّاحاتِ واللَّذّاتِ، ومِن أنْواعِ الآلامِ والأسْقامِ، وأقْسامِ الهُمُومِ والغُمُومِ ؟
والجَوابُ عَنِ السُّؤالِ الأوَّلِ: أنَّ العَقْلَ وإنْ كانَ يَدْعُوهُ إلى فِعْلِ الخَيْرِ وتَرْكِ الشَّرِّ إلّا أنَّ الهَوى والنَّفْسَ يَدْعُوانِهِ إلى الِانْهِماكِ في الشَّهَواتِ الجُسْمانِيَّةِ واللَّذّاتِ الجَسَدانِيَّةِ، وإذا حَصَلَ هَذا التَّعارُضُ فَلا بُدَّ مِن مُرَجِّحٍ قَوِيٍّ ومُعاضِدٍ كامِلٍ، وما ذاكَ إلّا تَرْتِيبَ الوَعْدِ والوَعِيدِ والثَّوابِ والعِقابِ عَلى الفِعْلِ والتَّرْكِ.
والجَوابُ عَنِ السُّؤالِ الثّانِي: أنَّهُ إذا جَوَّزَ الإنْسانُ حُصُولَ الكَذِبِ عَلى اللَّهِ تَعالى، فَحِينَئِذٍ لا يَحْصُلُ مِنَ الوَعْدِ رَغْبَةٌ، ولا مِنَ الوَعِيدِ رَهْبَةٌ؛ لِأنَّ السّامِعَ يُجَوِّزُ كَوْنَهُ كَذِبًا.
والجَوابُ عَنِ السُّؤالِ الثّالِثِ: أنَّ العَبْدَ ما دامَتْ حَياتُهُ في الدُّنْيا فَهو كالأجِيرِ المُشْتَغِلِ بِالعَمَلِ. والأجِيرُ حالَ اشْتِغالِهِ بِالعَمَلِ لا يَجُوزُ دَفْعُ الأُجْرَةِ بِكَمالِها إلَيْهِ؛ لِأنَّهُ إذا أخَذَها فَإنَّهُ لا يَجْتَهِدُ في العَمَلِ. وأمّا إذا كانَ مَحَلُّ أخْذِ الأُجْرَةِ هو الدّارَ الآخِرَةَ كانَ الِاجْتِهادُ في العَمَلِ أشَدَّ وأكْمَلَ، وأيْضًا نَرى في هَذِهِ الدُّنْيا أنَّ أزْهَدَ النّاسِ وأعْلَمَهم مُبْتَلًى بِأنْواعِ الغُمُومِ والهُمُومِ والأحْزانِ، وأجْهَلَهم وأفْسَقَهم في اللَّذّاتِ والمَسَرّاتِ، فَعَلِمْنا أنَّ دارَ الجَزاءِ يَمْتَنِعُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الدّارَ، فَلا بُدَّ مِن دارٍ أُخْرى، ومِن حَياةٍ أُخْرى لِيَحْصُلَ فِيها الجَزاءُ.
الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّ صَرِيحَ العَقْلِ يُوجِبُ في حِكْمَةِ الحَكِيمِ أنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ المُحْسِنِ وبَيْنَ المُسِيءِ، وأنْ لا يَجْعَلَ مَن كَفَرَ بِهِ، أوْ جَحَدَهُ بِمَنزِلَةِ مَن أطاعَهُ، ولَمّا وجَبَ إظْهارُ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ فَحُصُولُ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ إمّا أنْ يَكُونَ في دارِ الدُّنْيا، أوْ في دارِ الآخِرَةِ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنّا نَرى الكُفّارَ والفُسّاقَ في الدُّنْيا في أعْظَمِ الرّاحاتِ، ونَرى العُلَماءَ والزُّهّادَ بِالضِّدِّ مِنهُ، ولِهَذا المَعْنى قالَ تَعالى: ﴿ولَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فَضَّةٍ﴾ [الزخرف: ٣٣] فَثَبَتَ أنَّهُ لا بُدَّ بَعْدَ هَذِهِ الدّارِ مِن دارٍ أُخْرى، وهو المُرادُ مِنَ الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ في تَفْسِيرِها وهي قَوْلُهُ: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ﴾ وهو المُرادُ أيْضًا بِقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ طه: ﴿إنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى﴾ [طه: ١٥] وبِقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ ص: ﴿أمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ كالمُفْسِدِينَ في الأرْضِ أمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كالفُجّارِ﴾ [ص: ٢٨] .
فَإنْ قِيلَ: أما أنْكَرْتُمْ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى لا يَفْصِلُ بَيْنَ المُحْسِنِ وبَيْنَ المُسِيءِ في الثَّوابِ والعِقابِ، كَما لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُما في حُسْنِ الصُّورَةِ وفي كَثْرَةِ المالِ ؟
والجَوابُ: أنَّ هَذا الَّذِي ذَكَرْتَهُ مِمّا يُقَوِّي دَلِيلَنا، فَإنَّهُ ثَبَتَ في صَرِيحِ العَقْلِ وُجُوبُ التَّفْرِقَةِ، ودَلَّ الحِسُّ عَلى أنَّهُ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ التَّفْرِقَةُ في الدُّنْيا، بَلْ كانَ الأمْرُ عَلى الضِّدِّ مِنهُ، فَإنّا نَرى العالِمَ والزّاهِدَ في أشَدِّ البَلاءِ، ونَرى الكافِرَ والفاسِقَ في أعْظَمِ النِّعَمِ، فَعَلِمْنا أنَّهُ لا بُدَّ مِن دارٍ أُخْرى يَظْهَرُ فِيها هَذا التَّفاوُتُ، وأيْضًا لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى عَلِمَ أنَّ هَذا الزّاهِدَ العابِدَ لَوْ أعْطاهُ ما دُفِعَ إلى الكافِرِ الفاسِقِ لَطَغى وبَغى (p-١٨)وآثَرَ الحَياةَ الدُّنْيا، وأنَّ ذَلِكَ الكافِرَ الفاسِقَ لَوْ زادَ عَلَيْهِ في التَّضْيِيقِ لَزادَ في الشَّرِّ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ﴾ [الشورى: ٢٧] .
الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ تَعالى كَلَّفَ عَبِيدَهُ بِالعُبُودِيَّةِ فَقالَ: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] والحَكِيمُ إذا أمَرَ عَبْدَهُ بِشَيْءٍ فَلا بُدَّ وأنْ يَجْعَلَهُ فارِغَ البالِ مُنْتَظِمَ الأحْوالِ حَتّى يُمْكِنَهُ الِاشْتِغالُ بِأداءِ تِلْكَ التَّكالِيفِ، والنّاسُ جُبِلُوا عَلى طَلَبِ اللَّذّاتِ وتَحْصِيلِ الرّاحاتِ لِأنْفُسِهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهم زاجِرٌ مِن خَوْفِ المَعادِ لَكَثُرَ الهَرَجُ والمَرَجُ ولَعَظُمَتِ الفِتَنُ، وحِينَئِذٍ لا يَتَفَرَّغُ المُكَلَّفُ لِلِاشْتِغالِ بِأداءِ العِباداتِ. فَوَجَبَ القَطْعُ بِحُصُولِ دارِ الثَّوابِ والعِقابِ لِتَنْتَظِمَ أحْوالُ العالَمِ حَتّى يَقْدِرَ المُكَلَّفُ عَلى الِاشْتِغالِ بِأداءِ العُبُودِيَّةِ.
فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ يَكْفِي في بَقاءِ نِظامِ العالَمِ مَهابَةُ المُلُوكِ وسِياساتُهم ؟ وأيْضًا فالأوْباشُ يَعْلَمُونَ أنَّهم لَوْ حَكَمُوا بِحُسْنِ الهَرَجَ والمَرَجِ لانْقَلَبَ الأمْرُ عَلَيْهِمْ ولَقَدَرَ غَيْرُهم عَلى قَتْلِهِمْ، وأخْذِ أمْوالِهِمْ، فَلِهَذا المَعْنى يَحْتَرِزُونَ عَنْ إثارَةِ الفِتَنِ.
والجَوابُ: أنَّ مُجَرَّدَ مَهابَةِ السَّلاطِينِ لا تَكْفِي في ذَلِكَ، وذَلِكَ لِأنَّ السُّلْطانَ إمّا أنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ في القُدْرَةِ والقُوَّةِ إلى حَيْثُ لا يَخافُ مِنَ الرَّعِيَّةِ، وإمّا أنْ يَكُونَ خائِفًا مِنهم، فَإنْ كانَ لا يَخافُ الرَّعِيَّةَ مَعَ أنَّهُ لا خَوْفَ لَهُ مِنَ المَعادِ، فَحِينَئِذٍ يُقْدِمُ عَلى الظُّلْمِ والإيذاءِ عَلى أقْبَحِ الوُجُوهِ؛ لِأنَّ الدّاعِيَةَ النَّفْسانِيَّةَ قائِمَةٌ، ولا رادِعَ لَهُ في الدُّنْيا ولا في الآخِرَةِ، وأمّا إنْ كانَ يَخافُ الرَّعِيَّةَ فَحِينَئِذٍ الرَّعِيَّةُ لا يَخافُونَ مِنهُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَلا يَصِيرُ ذَلِكَ رادِعًا لَهم عَنِ القَبائِحِ والظُّلْمِ. فَثَبَتَ أنَّ نِظامَ العالَمِ لا يَتِمُّ ولا يَكْمُلُ إلّا بِالرَّغْبَةِ في المَعادِ والرَّهْبَةِ عَنْهُ.
الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: أنَّ السُّلْطانَ القاهِرَ إذا كانَ لَهُ جَمْعٌ مِنَ العَبِيدِ، وكانَ بَعْضُهم أقْوِياءَ وبَعْضُهم ضُعَفاءَ، وجَبَ عَلى ذَلِكَ السُّلْطانِ إنْ كانَ رَحِيمًا ناظِرًا مُشْفِقًا عَلَيْهِمْ أنْ يَنْتَصِفَ لِلْمَظْلُومِ الضَّعِيفِ مِنَ الظّالِمِ القادِرِ القَوِيِّ، فَإنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كانَ راضِيًا بِذَلِكَ الظُّلْمِ، والرِّضا بِالظُّلْمِ لا يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ النّاظِرِ المُحْسِنِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ سُبْحانَهُ سُلْطانٌ قاهِرٌ قادِرٌ حَكِيمٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ والعَبَثِ. فَوَجَبَ أن يَنْتَصِفَ لِعَبِيدِهِ المَظْلُومِينَ مِن عَبِيدِهِ الظّالِمِينَ، وهَذا الِانْتِصافُ لَمْ يَحْصُلْ في هَذِهِ الدّارِ؛ لِأنَّ المَظْلُومَ قَدْ يَبْقى في غايَةِ الذِّلَّةِ والمَهانَةِ، والظّالِمَ يَبْقى في غايَةِ العِزَّةِ والقُدْرَةِ، فَلا بُدَّ مِن دارٍ أُخْرى يَظْهَرُ فِيها هَذا العَدْلُ وهَذا الإنْصافُ، وهَذِهِ الحُجَّةُ يَصْلُحُ جَعْلُها تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ في تَفْسِيرِها.
فَإنْ قالُوا: إنَّهُ تَعالى لَمّا أقْدَرَ الظّالِمَ عَلى الظُّلْمِ في هَذِهِ الدّارِ، وما أعْجَزَهُ عَنْهُ، دَلَّ عَلى كَوْنِهِ راضِيًا بِذَلِكَ الظُّلْمِ.
قُلْنا: الإقْدارُ عَلى الظُّلْمِ عَيْنُ الإقْدارِ عَلى العَدْلِ والطّاعَةِ، فَلَوْ لَمْ يُقْدِرْهُ تَعالى عَلى الظُّلْمِ لَكانَ قَدْ أعْجَزَهُ عَنْ فِعْلِ الخَيْراتِ والطّاعاتِ، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِالحَكِيمِ، فَوَجَبَ في العَقْلِ إقْدارُهُ عَلى الظُّلْمِ والعَدْلِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى يَنْتَقِمُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظّالِمِ.
الحُجَّةُ الخامِسَةُ: أنَّهُ تَعالى خَلَقَ هَذا العالَمَ وخَلَقَ كُلَّ مَن فِيهِ مِنَ النّاسِ، فَإمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى (p-١٩)خَلَقَهم لا لِمَنفَعَةٍ ولا لِمَصْلَحَةِ، أوْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى خَلَقَهم لِمَصْلَحَةٍ ومَنفَعَةٍ. والأوَّلُ: يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ الكَرِيمِ. والثّانِي: وهو أنْ يُقالَ: إنَّهُ خَلَقَهم لِمَقْصُودٍ ومَصْلَحَةٍ وخَيْرٍ، فَذَلِكَ الخَيْرُ والمَصْلَحَةُ إمّا أنْ يَحْصُلَ في هَذِهِ الدُّنْيا أوْ في دارٍ أُخْرى، والأوَّلُ باطِلٌ مِن وجْهَيْنِ، الأوَّلُ: أنَّ لَذّاتِ هَذا العالَمِ جُسْمانِيَّةٌ، واللَّذّاتُ الجُسْمانِيَّةُ لا حَقِيقَةَ لَها إلّا إزالَةُ الألَمِ، وإزالَةُ الألَمِ أمْرٌ عَدَمِيٌّ، وهَذا العَدَمُ كانَ حاصِلًا حالَ كَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الخَلائِقِ مَعْدُومًا، وحِينَئِذٍ لا يَبْقى لِلتَّخْلِيقِ فائِدَةٌ. والثّانِي: أنَّ لَذّاتِ هَذا العالَمِ مَمْزُوجَةٌ بِالآلامِ والمِحَنِ، بَلِ الدُّنْيا طافِحَةٌ بِالشُّرُورِ والآفاتِ والمِحَنِ والبَلِيّاتِ، واللَّذَّةُ فِيها كالقَطْرَةِ في البَحْرِ. فَعَلِمْنا أنَّ الدّارَ الَّتِي يَصِلُ فِيها الخَلْقُ إلى تِلْكَ الرّاحاتِ المَقْصُودَةِ دارٌ أُخْرى سِوى دارِ الدُّنْيا.
فَإنْ قالُوا: ألَيْسَ أنَّهُ تَعالى يُؤْلِمُ أهْلَ النّارِ بِأشَدِّ العَذابِ لا لِأجْلِ مَصْلَحَةٍ وحِكْمَةٍ ؟ فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى يَخْلُقُ الخَلْقَ في هَذا العالَمِ لا لِمَصْلَحَةٍ ولا لِحِكْمَةٍ.
قُلْنا: الفَرْقُ أنَّ ذَلِكَ الضَّرَرَ ضَرَرٌ مُسْتَحَقٌّ عَلى أعْمالِهِمُ الخَبِيثَةِ، وأمّا الضَّرَرُ الحاصِلُ في الدُّنْيا فَغَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، فَوَجَبَ أنْ يَعْقُبَهُ خَيْراتٌ عَظِيمَةٌ ومَنافِعُ جابِرَةٌ لِتِلْكَ المَضارِّ السّالِفَةِ، وإلّا لَزِمَ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ شِرِّيرًا مُؤْذِيًا، وذَلِكَ يُنافِي كَوْنَهُ أرْحَمَ الرّاحِمِينَ وأكْرَمَ الأكْرَمِينَ.
الحُجَّةُ السّادِسَةُ: لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْإنْسانِ مَعادٌ لَكانَ الإنْسانُ أخَسَّ مِن جَمِيعِ الحَيَواناتِ في المَنزِلَةِ والشَّرَفِ. واللّازِمُ باطِلٌ، فالمَلْزُومُ مِثْلُهُ. بَيانُ المُلازَمَةِ أنَّ مَضارَّ الإنْسانِ في الدُّنْيا أكْثَرُ مِن مَضارِّ جَمِيعِ الحَيَواناتِ، فَإنَّ سائِرَ الحَيَواناتِ قَبْلَ وُقُوعِها في الآلامِ والأسْقامِ تَكُونُ فارِغَةَ البالِ طَيِّبَةَ النَّفْسِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ لَها فِكْرٌ وتَأمُّلٌ. أمّا الإنْسانُ فَإنَّهُ بِسَبَبِ ما يَحْصُلُ لَهُ مِنَ العَقْلِ يَتَفَكَّرُ أبَدًا في الأحْوالِ الماضِيَةِ والأحْوالِ المُسْتَقْبَلَةِ، فَيَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ أكْثَرِ الأحْوالِ الماضِيَةِ أنْواعٌ مِنَ الحُزْنِ والأسَفِ، ويَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ أكْثَرِ الأحْوالِ الآتِيَةِ أنْواعٌ مِنَ الخَوْفِ؛ لِأنَّهُ لا يَدْرِي أنَّهُ كَيْفَ تَحْدُثُ الأحْوالُ. فَثَبَتَ أنَّ حُصُولَ العَقْلِ لِلْإنْسانِ سَبَبٌ لِحُصُولِ المَضارِّ العَظِيمَةِ في الدُّنْيا والآلامِ النَّفْسانِيَّةِ الشَّدِيدَةِ القَوِيَّةِ. وأمّا اللَّذّاتُ الجُسْمانِيَّةُ فَهي مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ النّاسِ وبَيْنَ سائِرِ الحَيَواناتِ؛ لِأنَّ السِّرْقِينَ في مَذاقِ الجُعْلِ طَيِّبٌ، كَما أنَّ اللَّوْزِينْجَ في مَذاقِ الإنْسانِ طَيِّبٌ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْإنْسانِ مَعادٌ بِهِ تَكْمُلُ حالَتُهُ وتَظْهَرُ سَعادَتُهُ، لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كَمالُ العَقْلِ سَبَبًا لِمَزِيدِ الهُمُومِ والغُمُومِ والأحْزانِ مِن غَيْرِ جابِرٍ يَجْبُرُ، ومَعْلُومٌ أنَّ كُلَّ ما كانَ كَذَلِكَ فَإنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الخِسَّةِ والدَّناءَةِ والشَّقاءِ والتَّعَبِ الخالِيَةِ عَنِ المَنفَعَةِ. فَثَبَتَ أنَّهُ لَوْلا حُصُولُ السَّعادَةِ الأُخْرَوِيَّةِ لَكانَ الإنْسانُ أخَسَّ الحَيَواناتِ حَتّى الخَنافِسِ والدِّيدانِ، ولَمّا كانَ ذَلِكَ باطِلًا قَطْعًا عَلِمْنا أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الدّارِ الآخِرَةِ، وأنَّ الإنْسانَ خُلِقَ لِلْآخِرَةِ لا لِلدُّنْيا، وأنَّهُ بِعَقْلِهِ يَكْتَسِبُ مُوجِباتِ السَّعاداتِ الأُخْرَوِيَّةِ. فَلِهَذا السَّبَبِ كانَ العَقْلُ شَرِيفًا.
الحُجَّةُ السّابِعَةُ: أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى إيصالِ النِّعَمِ إلى عَبِيدِهِ عَلى وجْهَيْنِ، أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ النِّعَمُ مَشُوبَةً بِالآفاتِ والأحْزانِ. والثّانِي: أنْ تَكُونَ خالِصَةً عَنْها، فَلَمّا أنْعَمَ اللَّهُ تَعالى في الدُّنْيا بِالمَرْتَبَةِ الأُولى وجَبَ أنْ يُنْعِمَ عَلَيْنا بِالمَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ في دارٍ أُخْرى؛ إظْهارًا لِكَمالِ القُدْرَةِ والرَّحْمَةِ والحِكْمَةِ، فَهُناكَ يُنْعِمُ عَلى المُطِيعِينَ ويَعْفُو عَنِ المُذْنِبِينَ، ويُزِيلُ الغُمُومَ والهُمُومَ والشَّهَواتِ والشُّبُهاتِ. والَّذِي يُقَوِّي ذَلِكَ، ويُقَرِّرُ هَذا (p-٢٠)الكَلامَ أنَّ الإنْسانَ حِينَ كانَ جَنِينًا في بَطْنِ أُمِّهِ، كانَ في أضْيَقِ المَواضِعِ وأشَدِّها عُفُونَةً وفَسادًا، ثُمَّ إذا خَرَجَ مِن بَطْنِ أُمِّهِ كانَتِ الحالَةُ الثّانِيَةُ أطْيَبَ وأشْرَفَ مِنَ الحالَةِ الأُولى، ثُمَّ إنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يُوضَعُ في المَهْدِ ويُشَدُّ شَدًّا وثِيقًا، ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ يَخْرُجُ مِنَ المَهْدِ، ويَعْدُو يَمِينًا وشِمالًا، ويَنْتَقِلُ مِن تَناوُلِ اللَّبَنِ إلى تَناوُلِ الأطْعِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وهَذِهِ الحالَةُ الثّالِثَةُ لا شَكَّ أنَّها أطْيَبُ مِنَ الحالَةِ الثّانِيَةِ، ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ حِينٍ يَصِيرُ أمِيرًا نافِذَ الحُكْمِ عَلى الخَلْقِ، أوْ عالِمًا مُشْرِفًا عَلى حَقائِقِ الأشْياءِ، ولا شَكَّ أنَّ هَذِهِ الحالَةَ الرّابِعَةَ أطْيَبُ وأشْرَفُ مِنَ الحالَةِ الثّالِثَةِ. وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ بِحُكْمِ هَذا الِاسْتِقْراءِ أنْ يُقالَ: الحالَةُ الحاصِلَةُ بَعْدَ المَوْتِ تَكُونُ أشْرَفَ وأعْلى وأبْهَجَ مِنَ اللَّذّاتِ الجَسَدانِيَّةِ والخَيْراتِ الجُسْمانِيَّةِ.
الحُجَّةُ الثّامِنَةُ: طَرِيقَةُ الِاحْتِياطِ، فَإنّا إذا آمَنّا بِالمَعادِ وتَأهَّبْنا لَهُ، فَإنْ كانَ هَذا المَذْهَبُ حَقًّا، فَقَدْ نَجَوْنا وهَلَكَ المُنْكِرُ، وإنْ كانَ باطِلًا، لَمْ يَضُرَّنا هَذا الِاعْتِقادُ. غايَةُ ما في البابِ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَفُوتُنا هَذِهِ اللَّذّاتُ الجُسْمانِيَّةُ، إلّا أنّا نَقُولُ: يَجِبُ عَلى العاقِلِ أنْ لا يُبالِيَ بِفَوْتِها لِأمْرَيْنِ، أحَدُهُما: أنَّها في غايَةِ الخَساسَةِ؛ لِأنَّها مُشْتَرَكٌ فِيها بَيْنَ الخَنافِسِ والدِّيدانِ والكِلابِ. والثّانِي: أنَّها مُنْقَطِعَةٌ سَرِيعَةُ الزَّوالُ. فَثَبَتَ أنَّ الِاحْتِياطَ لَيْسَ إلّا في الإيمانِ بِالمَعادِ، ولِهَذا قالَ الشّاعِرُ:
؎قالَ المُنَجِّمُ والطَّبِيبُ كِلاهُما لا تُحْشَرُ الأمْواتُ قُلْتُ إلَيْكُما
؎إنْ صَحَّ قَوْلُكُما فَلَسْتُ بِخاسِرٍ ∗∗∗ أوْ صَحَّ قَوْلِي فالخَسارُ عَلَيْكُما
الحُجَّةُ التّاسِعَةُ: اعْلَمْ أنَّ الحَيَوانَ ما دامَ يَكُونُ حَيَوانًا، فَإنَّهُ إنْ قُطِعَ مِنهُ شَيْءٌ مِثْلُ ظُفْرٍ أوْ ظِلْفٍ أوْ شَعْرٍ، فَإنَّهُ يَعُودُ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وإنْ جُرِحَ انْدَمَلَ، ويَكُونُ الدَّمُ جارِيًا في عُرُوقِهِ وأعْضائِهِ جَرَيانَ الماءِ في عُرُوقِ الشَّجَرِ وأغْصانِهِ، ثُمَّ إذا ماتَ انْقَلَبَتْ هَذِهِ الأحْوالُ، فَإنْ قُطِعَ مِنهُ شَيْءٌ مِن شَعْرِهِ أوْ ظُفْرِهِ لَمْ يَنْبُتْ، وإنْ جُرِحَ لَمْ يَنْدَمِلْ ولَمْ يَلْتَحِمْ، ورَأيْتَ الدَّمَ يَتَجَمَّدُ في عُرُوقِهِ، ثُمَّ بِالآخِرَةِ يَؤُولُ حالُهُ إلى الفَسادِ والِانْحِلالِ. ثُمَّ إنّا لَمّا نَظَرْنا إلى الأرْضِ وجَدْناها شَبِيهَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإنّا نَراها في زَمانِ الرَّبِيعِ تَفُورُ عُيُونُها وتَرْبُو تِلالُها ويَنْجَذِبُ الماءُ إلى أغْصانِ الأشْجارِ وعُرُوقِها، والماءُ في الأرْضِ بِمَنزِلَةِ الدَّمِ الجارِي في بَدَنِ الحَيَوانِ، ثُمَّ تَخْرُجُ أزْهارُها وأنْوارُها وثِمارُها كَما قالَ تَعالى: ﴿فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ وأنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: ٥] وإنْ جُذَّ مِن نَباتِها شَيْءٌ أخْلَفَ ونَبَتَ مَكانَهُ آخَرُ مِثْلُهُ، وإنْ قُطِعَ غُصْنٌ مِن أغْصانِ الأشْجارِ أخْلَفَ، وإنْ جُرِحَ التَأمَ، وهَذِهِ الأحْوالُ شَبِيهَةٌ بِالأحْوالِ الَّتِي ذَكَرْناها لِلْحَيَوانِ. ثُمَّ إذا جاءَ الشِّتاءُ واشْتَدَّ البَرْدُ غارَتْ عُيُونُها وجَفَّتْ رُطُوبَتُها وفَسَدَتْ بُقُولُها، ولَوْ قَطَعْنا غُصْنًا مِن شَجَرَةٍ ما أخْلَفَ، فَكانَتْ هَذِهِ الأحْوالُ شَبِيهَةً بِالمَوْتِ بَعْدَ الحَياةِ. ثُمَّ إنّا نَرى الأرْضَ في الرَّبِيعِ الثّانِي تَعُودُ إلى تِلْكَ الحَياةِ، فَإذا عَقَلْنا هَذِهِ المَعانِيَ في إحْدى الصُّورَتَيْنِ، فَلِمَ لا نَعْقِلُ مِثْلَهُ في الصُّورَةِ الثّانِيَةِ ؟ بَلْ نَقُولُ: لا شَكَّ أنَّ الإنْسانَ أشْرَفُ مِن سائِرِ الحَيَواناتِ، والحَيَوانَ أشْرَفُ مِنَ النَّباتِ، وهو أشْرَفُ مِنَ الجَماداتِ. فَإذا حَصَلَتْ هَذِهِ الأحْوالُ في الأرْضِ، فَلِمَ لا يَجُوزُ حُصُولُها في الإنْسانِ ؟ !
فَإنْ قالُوا: إنْ أجْسادَ الحَيَوانِ تَتَفَرَّقُ وتَتَمَزَّقُ بِالمَوْتِ، وأمّا الأرْضُ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ.
فالجَوابُ أنَّ الإنْسانَ عِبارَةٌ عَنِ النَّفْسِ النّاطِقَةِ، وهو جَوْهَرٌ باقٍ، أوْ إنْ لَمْ نَقُلْ بِهَذا المَذْهَبِ فَهو عِبارَةٌ عَنْ أجْزاءٍ أصْلِيَّةٍ باقِيَةٍ مِن أوَّلِ وقْتِ تَكَوُّنِ الجَنِينِ إلى آخِرِ العُمُرِ، وهي جارِيَةٌ في البَدَنِ، وتِلْكَ الأجْزاءُ (p-٢١)باقِيَةٌ، فَزالَ هَذا السُّؤالُ.
الحُجَّةُ العاشِرَةُ: لا شَكَّ أنَّ بَدَنَ الحَيَوانِ إنَّما تَوَلَّدَ مِنَ النُّطْفَةِ، وهَذِهِ النُّطْفَةُ إنَّما اجْتَمَعَتْ مِن جَمِيعِ البَدَنِ، بِدَلِيلِ أنَّ عِنْدَ انْفِصالِ النُّطْفَةِ يَحْصُلُ الضَّعْفُ والفُتُورُ في جَمِيعِ البَدَنِ، ثُمَّ إنَّ مادَّةَ تِلْكَ النُّطْفَةِ إنَّما تَوَلَّدَتْ مِنَ الأغْذِيَةِ المَأْكُولَةِ، وتِلْكَ الأغْذِيَةُ إنَّما تَوَلَّدَتْ مِنَ الأجْزاءِ العُنْصُرِيَّةِ، وتِلْكَ الأجْزاءُ كانَتْ مُتَفَرِّقَةً في مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها، واتَّفَقَ لَها أنِ اجْتَمَعَتْ فَتَوَلَّدَ مِنها حَيَوانٌ أوْ نَباتٌ، فَأكَلَهُ إنْسانٌ، فَتَوَلَّدَ مِنهُ دَمٌ، فَتَوَزَّعَ ذَلِكَ الدَّمُ عَلى أعْضائِهِ، فَتَوَلَّدَ مِنها أجْزاءٌ لَطِيفَةٌ. ثُمَّ عِنْدَ اسْتِيلاءِ الشَّهْوَةِ سالَ مِن تِلْكَ الرُّطُوباتِ مِقْدارٌ مُعَيَّنٌ، وهو النُّطْفَةُ، فانْصَبَّ إلى فَمِ الرَّحِمِ، فَتَوَلَّدَ مِنهُ هَذا الإنْسانُ، فَثَبَتَ أنَّ الأجْزاءَ الَّتِي مِنها تَوَلَّدَ بَدَنُ الإنْسانِ كانَتْ مُتَفَرِّقَةً في البِحارِ والجِبالِ وأوْجِ الهَواءِ، ثُمَّ إنَّها اجْتَمَعَتْ بِالطَّرِيقِ المَذْكُورِ، فَتَوَلَّدَ مِنها هَذا البَدَنُ، فَإذا ماتَ تَفَرَّقَتْ تِلْكَ الأجْزاءُ عَلى مِثالِ التَّفَرُّقِ الأوَّلِ.
وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: وجَبَ القَطْعُ أيْضًا بِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَجْتَمِعَ مَرَّةً أُخْرى عَلى مِثالِ الِاجْتِماعِ الأوَّلِ، وأيْضًا فَذَلِكَ المَنِيُّ لَمّا وقَعَ في رَحِمِ الأُمِّ، فَقَدْ كانَ قَطْرَةً صَغِيرَةً، ثُمَّ تَوَلَّدَ مِنهُ بَدَنُ الإنْسانِ، وتَعَلَّقَتِ الرُّوحُ بِهِ حالَ ما كانَ ذَلِكَ البَدَنُ في غايَةِ الصِّغَرِ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ البَدَنَ لا شَكَّ أنَّهُ في غايَةِ الرُّطُوبَةِ، ولا شَكَّ أنَّهُ يَتَحَلَّلُ مِنهُ أجْزاءٌ كَثِيرَةٌ بِسَبَبِ عَمَلِ الحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ فِيها، وأيْضًا فَتِلْكَ الأجْزاءُ البَدَنِيَّةُ الباقِيَةُ أبَدًا في طُولِ العُمُرِ تَكُونُ في التَّحَلُّلِ، ولَوْلا ذَلِكَ لَما حَصَلَ الجُوعُ، ولَما حَصَلَتِ الحاجَةُ إلى الغِذاءِ، مَعَ أنّا نَقْطَعُ بِأنَّ هَذا الإنْسانَ الشَّيْخَ، هو عَيْنُ ذَلِكَ الإنْسانِ الَّذِي كانَ في بَطْنِ أُمِّهِ. ثُمَّ انْفَصَلَ وكانَ طِفْلًا ثُمَّ شابًّا، فَثَبَتَ أنَّ الأجْزاءَ البَدَنِيَّةَ دائِمَةُ التَّحَلُّلِ، وأنَّ الإنْسانَ هو هو بِعَيْنِهِ. فَوَجَبَ القَطْعُ بِأنَّ الإنْسانَ، إمّا أنْ يَكُونَ جَوْهَرًا مُفارِقًا مُجَرَّدًا، وإمّا أنْ يَكُونَ جِسْمًا نُورانِيًّا لَطِيفًا باقِيًا مَعَ تَحَلُّلِ هَذا البَدَنِ، فَإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لا يَمْتَنِعُ عَوْدُهُ إلى الجُثَّةِ مَرَّةً أُخْرى، ويَكُونُ هَذا الإنْسانُ العائِدُ عَيْنَ الإنْسانِ الأوَّلِ، فَثَبَتَ أنَّ القَوْلَ بِالمَعادِ صِدْقٌ.
الحُجَّةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ: ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِن نُطْفَةٍ فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿خَلَقْناهُ مِن نُطْفَةٍ﴾ [يس: ٧٧] إشارَةٌ إلى ما ذَكَرْناهُ في الحُجَّةِ العاشِرَةِ مِن أنَّ تِلْكَ الأجْزاءَ كانَتْ مُتَفَرِّقَةً في مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها، فَجَمَعَها اللَّهُ تَعالى وخَلَقَ مِن تَرْكِيبِها هَذا الحَيَوانَ، والَّذِي يُقَوِّيهِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ﴾ ﴿ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢، ١٣] فَإنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الآيَةَ إنَّما يَصِحُّ بِالوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ، وهو أنَّ السُّلالَةَ مِنَ الطِّينِ يَتَكَوَّنُ مِنها نَباتٌ، ثُمَّ إنْ ذَلِكَ النَّباتَ يَأْكُلُهُ الإنْسانُ فَيَتَوَلَّدُ مِنهُ الدَّمُ، ثُمَّ الدَّمُ يَنْقَلِبُ نُطْفَةً، فَبِهَذا الطَّرِيقِ يَنْتَظِمُ ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ. ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ هَذا المَعْنى حَكى كَلامَ المُنْكِرِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨] ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ إمْكانَ هَذا المَذْهَبِ.
واعْلَمْ أنَّ إثْباتَ إمْكانِ الشَّيْءِ لا يُعْقَلُ إلّا بِطَرِيقَيْنِ، أحَدُهُما: أنْ يُقالَ: إنَّ مِثْلَهُ مُمْكِنٌ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ هَذا أيْضًا مُمْكِنًا. والثّانِي: أنْ يُقالَ: إنَّ ما هو أعْظَمُ مِنهُ وأعْلى حالًا مِنهُ، فَهو أيْضًا مُمْكِنٌ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ الطَّرِيقَ الأوَّلَ أوَّلًا فَقالَ: ﴿قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أنْشَأها أوَّلَ مَرَّةٍ وهو بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: ٧٩] ثُمَّ فِيهِ دَقِيقَةٌ وهي أنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُلْ يُحْيِيها﴾ إشارَةٌ إلى كَمالِ القُدْرَةِ، وقَوْلَهُ: ﴿وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ إشارَةٌ إلى كَمالِ (p-٢٢)العِلْمِ. ومُنْكِرُو الحَشْرِ والنَّشْرِ لا يُنْكِرُونَهُ إلّا لِجَهْلِهِمْ بِهَذَيْنِ الأصْلَيْنِ؛ لِأنَّهم تارَةً يَقُولُونَ: إنَّهُ تَعالى مُوجَبٌ بِالذّاتِ، والمُوجَبُ بِالذّاتِ لا يَصِحُّ مِنهُ القَصْدُ إلى التَّكْوِينِ، وتارَةً يَقُولُونَ: إنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ عالِمًا بِالجُزْئِيّاتِ، فَيَمْتَنِعُ مِنهُ تَمْيِيزُ أجْزاءِ بَدَنِ زَيْدٍ عَنْ أجْزاءِ بَدَنِ عَمْرٍو، ولَمّا كانَتْ شُبَهُ الفَلاسِفَةِ مُسْتَخْرَجَةً مِن هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ، لا جَرَمَ كُلَّما ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى مَسْألَةَ المَعادِ أرْدَفَهُ بِتَقْرِيرِ هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ بَعْدَهُ الطَّرِيقَ الثّانِيَ، وهو الِاسْتِدْلالُ بِالأعْلى عَلى الأدْنى، وتَقْرِيرُهُ مِن وجْهَيْنِ، الأوَّلُ: أنَّ الحَياةَ لا تَحْصُلُ إلّا بِالحَرارَةِ والرُّطُوبَةِ، والتُّرابُ بارِدٌ يابِسٌ، فَحَصَلَتِ المُضادَّةُ بَيْنَهُما. إلّا أنّا نَقُولُ: الحَرارَةُ النّارِيَّةُ أقْوى في صِفَةِ الحَرارَةِ مِنَ الحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ، فَلَمّا لَمْ يَمْتَنِعْ تَوَلُّدُ الحَرارَةِ النّارِيَّةِ عَنِ الشَّجَرِ الأخْضَرِ مَعَ كَمالِ ما بَيْنَهُما مِنَ المُضادَّةِ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ حُدُوثُ الحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ في جِرْمِ التُّرابِ ؟ الثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يس: ٨١] بِمَعْنى أنَّهُ لَمّا سَلَّمْتُمْ أنَّهُ تَعالى هو الخالِقُ لِأجْرامِ الأفْلاكِ والكَواكِبِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُكم الِامْتِناعُ مِن كَوْنِهِ قادِرًا عَلى الحَشْرِ والنَّشْرِ ؟ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَسَمَ مادَّةَ الشُّبُهاتِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠] والمُرادُ أنَّ تَخْلِيقَهُ وتَكْوِينَهُ لا يَتَوَقَّفُ عَلى حُصُولِ الآلاتِ والأدَواتِ ونُطْفَةِ الأبِ ورَحِمِ الأُمِّ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ خَلَقَ الأبَ الأوَّلَ لا عَنْ أبٍ سابِقٍ عَلَيْهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى كَوْنِهِ سُبْحانَهُ غَنِيًّا في الخَلْقِ والإيجادِ والتَّكْوِينِ عَنِ الوَسائِطِ والآلاتِ. ثُمَّ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس: ٨٣] أيْ: سُبْحانَهُ مِن أنْ لا يُعِيدَهم، ويُهْمِلَ أمْرَ المَظْلُومِينَ ولا يَنْتَصِفَ لِلْعاجِزِينَ مِنَ الظّالِمِينَ، وهو المَعْنى المَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ في تَفْسِيرِها، وهي قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ﴾ .
الحُجَّةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: دَلَّتِ الدَّلائِلُ عَلى أنَّ العالَمَ مُحْدَثٌ ولا بُدَّ لَهُ مِن مُحْدِثٍ قادِرٍ، ويَجِبُ أنْ يَكُونَ عالِمًا؛ لِأنَّ الفِعْلَ المُحْكَمَ المُتْقَنَ لا يَصْدُرُ إلّا مِنَ العالِمِ، ويَجِبُ أنْ يَكُونَ غَنِيًّا عَنْها وإلّا لَكانَ قَدْ خَلَقَها في الأزَلِ وهو مُحالٌ، فَثَبَتَ أنَّ لِهَذا العالَمِ إلَهًا قادِرًا عالِمًا غَنِيًّا، ثُمَّ لَمّا تَأمَّلْنا فَقُلْنا: هَلْ يَجُوزُ في حَقِّ هَذا الحَكِيمِ الغَنِيِّ عَنِ الكُلِّ أنْ يُهْمِلَ عَبِيدَهُ ويَتْرُكَهم سُدًى، ويُجَوِّزَ لَهم أنْ يَكْذِبُوا عَلَيْهِ ويُبِيحَ لَهم أنْ يَشْتُمُوهُ، ويَجْحَدُوا رُبُوبِيَّتَهُ، ويَأْكُلُوا نِعْمَتَهُ ويَعْبُدُوا الجِبْتَ والطّاغُوتَ ويَجْعَلُوا لَهُ أنْدادًا، ويُنْكِرُوا أمْرَهُ ونَهْيَهُ ووَعْدَهُ ووَعِيدَهُ ؟ فَهاهُنا حَكَمَتْ بَدِيهَةُ العَقْلِ بِأنَّ هَذِهِ المَعانِيَ لا تَلِيقُ إلّا بِالسَّفِيهِ الجاهِلِ البَعِيدِ مِنَ الحِكْمَةِ. القَرِيبِ مِنَ العَبَثِ، فَحَكَمْنا لِأجْلِ هَذِهِ المُقَدِّمَةِ أنَّ لَهُ أمْرًا ونَهْيًا، ثُمَّ تَأمَّلْنا فَقُلْنا: هَلْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لَهُ أمْرٌ ونَهْيٌ مَعَ أنَّهُ لا يَكُونُ لَهُ وعْدٌ ووَعِيدٌ ؟ فَحَكَمَ صَرِيحُ العَقْلِ بِأنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ؛ لِأنَّهُ إنْ لَمْ يَقْرِنِ الأمْرَ بِالوَعْدِ بِالثَّوابِ، ولَمْ يَقْرِنِ النَّهْيَ بِالوَعِيدِ بِالعِقابِ لَمْ يَتَأكَّدِ الأمْرُ والنَّهْيُ، ولَمْ يَحْصُلِ المَقْصُودُ. فَثَبَتَ أنَّهُ لا بُدَّ مِن وعْدٍ ووَعِيدٍ، ثُمَّ تَأمَّلْنا فَقُلْنا: هَلْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لَهُ وعْدٌ ووَعِيدٌ، ثُمَّ إنَّهُ لا يَفِي بِوَعْدِهِ لِأهْلِ الثَّوابِ ولا بِوَعِيدِهِ لِأهْلِ العِقابِ ؟ فَقُلْنا: إنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ؛ لِأنَّهُ لَوْ جازَ ذَلِكَ لَما حَصَلَ الوُثُوقُ بِوَعْدِهِ ولا بِوَعِيدِهِ، وهَذا يُوجِبُ أنْ لا يَبْقى فائِدَةٌ في الوَعْدِ والوَعِيدِ، فَعَلِمْنا أنَّهُ لا بُدَّ مِن تَحْقِيقِ الثَّوابِ والعِقابِ، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ لا يَتِمُّ إلّا بِالحَشْرِ والبَعْثِ، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلّا بِهِ فَهو واجِبٌ. فَهَذِهِ مُقَدِّماتٌ يَتَعَلَّقُ بَعْضُها بِالبَعْضِ، كالسِّلْسِلَةِ مَتى صَحَّ بَعْضُها صَحَّ كُلُّها، ومَتى فَسَدَ بَعْضُها فَسَدَ كُلُّها، فَدَلَّ مُشاهَدَةُ أبْصارِنا لِهَذِهِ التَّغَيُّراتِ عَلى حُدُوثِ العالَمِ، ودَلَّ حُدُوثُ العالَمِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ الحَكِيمِ الغَنِيِّ، ودَلَّ ذَلِكَ عَلى وُجُودِ الأمْرِ والنَّهْيِ، ودَلَّ ذَلِكَ عَلى وُجُودِ الثَّوابِ والعِقابِ، ودَلَّ ذَلِكَ عَلى وُجُوبِ الحَشْرِ. فَإنْ لَمْ يَثْبُتِ الحَشْرُ أدّى ذَلِكَ إلى بُطْلانِ جَمِيعِ (p-٢٣)المُقَدِّماتِ المَذْكُورَةِ، ولَزِمَ إنْكارُ العُلُومِ البَدِيهِيَّةِ وإنْكارُ العُلُومِ النَّظَرِيَّةِ القَطْعِيَّةِ. فَثَبَتَ أنَّهُ لا بُدَّ لِهَذِهِ الأجْسادِ البالِيَةِ والعِظامِ النَّخِرَةِ والأجْزاءِ المُتَفَرِّقَةِ المُتَمَزِّقَةِ مِنَ البَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، لِيَصِلَ المُحْسِنُ إلى ثَوابِهِ والمُسِيءُ إلى عِقابِهِ، فَإنْ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الحالَةُ لَمْ يَحْصُلِ الوَعْدُ والوَعِيدُ، وإنْ لَمْ يَحْصُلا لَمْ يَحْصُلِ الأمْرُ والنَّهْيُ، وإنْ لَمْ يَحْصُلا لَمْ تَحْصُلِ الإلَهِيَّةُ، وإنْ لَمْ تَحْصُلِ الإلَهِيَّةُ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ التَّغَيُّراتُ في العالَمِ. وهَذِهِ الحُجَّةُ هي المُرادُ مِنَ الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ في تَفْسِيرِها وهي قَوْلُهُ: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ﴾ هَذا كُلُّهُ تَقْرِيرُ إثْباتِ المَعادِ، بِناءً عَلى أنَّ لِهَذا العالَمِ إلَهًا رَحِيمًا ناظِرًا مُحْسِنًا إلى العِبادِ.
أمّا الفَرِيقُ الثّانِي: وهُمُ الَّذِينَ لا يُعَلِّلُونَ أفْعالَ اللَّهِ تَعالى بِرِعايَةِ المَصالِحِ، فَطَرِيقُهم إلى إثْباتِ المَعادِ أنْ قالُوا: المَعادُ أمْرٌ جائِزُ الوُجُودِ، والأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أخْبَرُوا عَنْهُ، فَوَجَبَ القَطْعُ بِصِحَّتِهِ، أمّا إثْباتُ الإمْكانِ فَهو مَبْنِيٌّ عَلى مُقَدِّماتٍ ثَلاثَةٍ:
المُقَدِّمَةُ الأُولى: البَحْثُ عَنْ حالِ القابِلِ، فَنَقُولُ: الإنْسانُ إمّا أنْ يَكُونَ عِبارَةً عَنِ النَّفْسِ أوْ عَنِ البَدَنِ، فَإنْ كانَ عِبارَةً عَنِ النَّفْسِ وهو القَوْلُ الحَقُّ، فَنَقُولُ: لَمّا كانَ تَعَلُّقُ النَّفْسِ بِالبَدَنِ في المَرَّةِ الأُولى جائِزًا كانَ تَعَلُّقُها بِالبَدَنِ في المَرَّةِ الثّانِيَةِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ جائِزًا. وهَذا الكَلامُ لا يَخْتَلِفُ، سَواءٌ قُلْنا: النَّفْسُ عِبارَةٌ عَنْ جَوْهَرٍ مُجَرَّدٍ، أوْ قُلْنا: إنَّهُ جِسْمٌ لَطِيفٌ مُشاكِلٌ لِهَذا البَدَنِ، باقٍ في جَمِيعِ أحْوالِ البَدَنِ، مَصُونٌ عَنِ التَّحَلُّلِ والتَّبَدُّلِ، وأمّا إنْ كانَ الإنْسانُ عِبارَةً عَنِ البَدَنِ، وهَذا القَوْلُ أبْعَدُ الأقاوِيلِ، فَنَقُولُ: إنَّ تَألُّفَ تِلْكَ الأجْزاءِ عَلى الوَجْهِ المَخْصُوصِ في المَرَّةِ الأُولى كانَ مُمْكِنًا، فَوَجَبَ أيْضًا أنْ يَكُونَ في المَرَّةِ الثّانِيَةِ مُمْكِنًا، فَثَبَتَ أنَّ عَوْدَ الحَياةِ إلى هَذا البَدَنِ مَرَّةً أُخْرى أمْرُهُ مُمْكِنٌ في نَفْسِهِ.
وأمّا المُقَدِّمَةُ الثّانِيَةُ: فَهي في بَيانِ أنَّ إلَهَ العالَمِ قادِرٌ مُخْتارٌ. لا عِلَّةٌ مُوجِبَةً، وأنَّ هَذا القادِرَ قادِرٌ عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ.
وأمّا المُقَدِّمَةُ الثّالِثَةُ: فَهي في بَيانِ أنَّ إلَهَ العالَمِ عالِمٌ بِجَمِيعِ الجُزْئِيّاتِ، فَلا جَرَمَ أجْزاءُ بَدَنِ زَيْدٍ وإنِ اخْتَلَطَتْ بِأجْزاءِ التُّرابِ والبِحارِ، إلّا أنَّهُ تَعالى لَمّا كانَ عالِمًا بِالجُزْئِيّاتِ أمْكَنَهُ تَمْيِيزُ بَعْضِها عَنْ بَعْضٍ. ومَتى ثَبَتَتْ هَذِهِ المُقَدِّماتُ الثَّلاثُ، لَزِمَ القَطْعُ بِأنَّ الحَشْرَ والنَّشْرَ أمْرٌ مُمْكِنٌ في نَفْسِهِ.
وإذا ثَبَتَ هَذا الإمْكانُ فَنَقُولُ: دَلَّ الدَّلِيلُ عَلى صِدْقِ الأنْبِياءِ، وهم قَطَعُوا بِوُقُوعِ هَذا المُمْكِنِ، فَوَجَبَ القَطْعُ بِوُقُوعِهِ، وإلّا لَزِمَنا تَكْذِيبُهم، وذَلِكَ باطِلٌ بِالدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى صِدْقِهِمْ. فَهَذا خُلاصَةُ ما وصَلَ إلَيْهِ عَقْلُنا في تَقْرِيرِ أمْرِ المَعادِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في الجَوابِ عَنْ شُبُهاتِ المُنْكِرِينَ لِلْحَشْرِ والنَّشْرِ:
الشُّبْهَةُ الأُولى: قالُوا: لَوْ بُدِّلَتْ هَذِهِ الدّارُ بِدارٍ أُخْرى لَكانَتْ تِلْكَ الدّارُ إمّا أنْ تَكُونَ مِثْلَ هَذِهِ الدّارِ أوْ شَرًّا مِنها أوْ خَيْرًا مِنها، فَإنْ كانَ الأوَّلَ كانَ التَّبْدِيلُ عَبَثًا، وإنْ كانَ شَرًّا مِنها كانَ هَذا التَّبْدِيلُ سَفَهًا، وإنْ كانَ خَيْرًا مِنها فَفي أوَّلِ الأمْرِ هَلْ كانَ قادِرًا عَلى خَلْقِ ذَلِكَ الأجْوَدِ أوْ ما كانَ قادِرًا عَلَيْهِ ؟ فَإنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ثُمَّ تَرَكَهُ وفَعَلَ الأرْدَأ كانَ ذَلِكَ سَفَهًا، وإنْ قُلْنا: إنَّهُ ما كانَ قادِرًا ثُمَّ صارَ قادِرًا عَلَيْهِ، فَقَدِ انْتَقَلَ مِنَ العَجْزِ إلى القُدْرَةِ، أوْ مِنَ الجَهْلِ إلى الحِكْمَةِ، وأنَّ ذَلِكَ عَلى خالِقِ العالَمِ مُحالٌ.
والجَوابُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: تَقْدِيمُ هَذِهِ الدّارِ عَلى تِلْكَ الدّارِ هو المَصْلَحَةُ؛ لِأنَّ الكِمالاتِ (p-٢٤)النَّفْسانِيَّةَ المُوجِبَةَ لِلسَّعادَةِ الأُخْرَوِيَّةِ لا يُمْكِنُ تَحْصِيلُها إلّا في هَذِهِ الدّارِ، ثُمَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الكَمالاتِ كانَ البَقاءُ في هَذِهِ الدّارِ سَبَبًا لِلْفَسادِ والحِرْمانِ عَنِ الخَيْراتِ.
الشُّبْهَةُ الثّانِيَةُ: قالُوا: حَرَكاتُ الأفْلاكِ مُسْتَدِيرَةٌ، والمُسْتَدِيرُ لا ضِدَّ لَهُ، وما لا ضِدَّ لَهُ لا يَقْبَلُ الفَسادَ.
والجَوابُ: أنّا أبْطَلْنا هَذِهِ الشُّبْهَةَ في الكُتُبِ الفَلْسَفِيَّةِ، فَلا حاجَةَ إلى الإعادَةِ. والأصْلُ في إبْطالِ أمْثالِ هَذِهِ الشُّبُهاتِ أنْ نُقِيمَ الدَّلِيلَ عَلى أنَّ أجْرامَ الأفْلاكِ مَخْلُوقَةٌ، ومَتى ثَبَتَ ذَلِكَ ثَبَتَ كَوْنُها قابِلَةً لِلْعَدَمِ والتَّفَرُّقِ والتَّمَزُّقِ. ولِهَذا السِّرِّ فَإنَّهُ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ بَدَأ بِالدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى حُدُوثِ الأفْلاكِ، ثُمَّ أرْدَفَها بِما يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ بِالمَعادِ.
الشُّبْهَةُ الثّالِثَةُ: الإنْسانُ عِبارَةٌ عَنْ هَذا البَدَنِ، وهو لَيْسَ عِبارَةً عَنْ هَذِهِ الأجْزاءِ كَيْفَ كانَتْ؛ لِأنَّ هَذِهِ الأجْزاءَ كانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ حُدُوثِ هَذا الإنْسانِ، مَعَ أنّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّ هَذا الإنْسانَ ما كانَ مَوْجُودًا، وأيْضًا أنَّهُ إذا أُحْرِقَ هَذا الجَسَدُ فَإنَّهُ تَبَقى تِلْكَ الأجْزاءُ البَسِيطَةُ، ومَعْلُومٌ أنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الأجْزاءِ البَسِيطَةِ مِنَ الأرْضِ والماءِ والهَواءِ والنّارِ، ما كانَ عِبارَةً عَنْ هَذا الإنْسانِ العاقِلِ النّاطِقِ، فَثَبَتَ أنَّ تِلْكَ الأجْزاءَ إنَّما تُكَوِّنُ هَذا الإنْسانَ بِشَرْطِ وُقُوعِها عَلى تَأْلِيفٍ مَخْصُوصٍ ومِزاجٍ مَخْصُوصٍ وصُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَإذا ماتَ الإنْسانُ وتَفَرَّقَتْ أجْزاؤُهُ فَقَدْ عُدِمَتْ تِلْكَ الصُّوَرُ والأعْراضُ، وعَوْدُ المَعْدُومِ مُحالٌ. وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَإنَّهُ يَمْتَنِعُ عَوْدُ بَعْضِ الأجْزاءِ المُعْتَبَرَةِ في حُصُولِ هَذا الإنْسانِ، فَوَجَبَ أنْ يَمْتَنِعَ عَوْدُهُ بِعَيْنِهِ مَرَّةً أُخْرى.
والجَوابُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ هَذا الإنْسانَ المُعَيَّنَ عِبارَةٌ عَنْ هَذا الجَسَدِ المُشاهَدِ، بَلْ هو عِبارَةٌ عَنِ النَّفْسِ. سَواءً فَسَّرْنا النَّفْسَ بِأنَّهُ جَوْهَرٌ مُفارِقٌ مُجَرَّدٌ، أوْ قُلْنا: إنَّهُ جِسْمٌ لَطِيفٌ مَخْصُوصٌ مُشاكِلٌ لِهَذا الجَسَدِ مَصُونٌ عَنِ التَّغَيُّرِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِهِ.
الشُّبْهَةُ الرّابِعَةُ: إذا قُتِلَ إنْسانٌ واغْتَذى بِهِ إنْسانٌ آخَرُ. فَيَلْزَمُ أنْ يُقالَ: تِلْكَ الأجْزاءُ في بَدَنِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الشَّخْصَيْنِ، وذَلِكَ مُحالٌ.
والجَوابُ: هَذِهِ الشُّبْهَةُ أيْضًا مَبْنِيَّةٌ عَلى أنَّ الإنْسانَ المُعَيَّنَ عِبارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ هَذا البَدَنِ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّهُ باطِلٌ. بَلِ الحَقُّ أنَّهُ عِبارَةٌ عَنِ النَّفْسِ سَواءٌ.
قُلْنا: النَّفْسُ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ وأجْسامٌ لَطِيفَةٌ باقِيَةٌ مُشاكِلَةٌ لِلْجَسَدِ، وهي الَّتِي سَمَّتْها المُتَكَلِّمُونَ بِالأجْزاءِ الأصْلِيَّةِ. وهَذا آخِرُ البَحْثِ العَقْلِيِّ عَنْ مَسْألَةِ المَعادِ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا﴾ فِيهِ أبْحاثٌ:
البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ كَلِمَةَ ”إلى“ لِانْتِهاءِ الغايَةِ، وظاهِرُهُ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحانَهُ مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ وجِهَةٍ، حَتّى يَصِحَّ أنْ يُقالَ: إلَيْهِ مَرْجِعُ الخَلْقِ.
والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنّا إذا قُلْنا. النَّفْسُ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ، فالسُّؤالُ زائِلٌ.
الثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ: أنَّ مَرْجِعَهم إلى حَيْثُ لا حاكِمَ سِواهُ.
الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ: أنَّ مَرْجِعَهم إلى حَيْثُ حَصَلَ الوَعْدُ فِيهِ بِالمُجازاةِ.
البَحْثُ الثّانِي: ظاهِرُ الآياتِ الكَثِيرَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الإنْسانَ عِبارَةٌ عَنِ النَّفْسِ لا عَنِ البَدَنِ، ويَدُلُّ أيْضًا (p-٢٥)عَلى أنَّ النَّفْسَ كانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ البَدَنِ. أمّا أنَّ الإنْسانَ شَيْءٌ غَيْرُ هَذا البَدَنِ فَلِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتًا بَلْ أحْياءٌ﴾ فالعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حاصِلٌ بِأنَّ بَدَنَ المَقْتُولِ مَيِّتٌ، والنَّصُّ دالٌّ عَلى أنَّهُ حَيٌّ، فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ حَقِيقَتُهُ شَيْئًا مُغايِرًا لِهَذا البَدَنِ المَيِّتِ، وأيْضًا قالَ اللَّهُ تَعالى في صِفَةِ نَزْعِ رُوحِ الكُفّارِ: ﴿أخْرِجُوا أنْفُسَكُمُ﴾ [الأنعام: ٩٣] وأمّا أنَّ النَّفْسَ كانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ البَدَنِ، فَلِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى ما قُلْنا؛ لِأنَّ الرُّجُوعَ إلى المَوْضِعِ إنَّما يَحْصُلُ لَوْ كانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ قَدْ كانَ هُناكَ قَبْلَ ذَلِكَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً﴾ [الفجر: ٢٧، ٢٨] وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إلى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ﴾ [الأنعام: ٦٢] .
البَحْثُ الثّالِثُ: المَرْجِعُ بِمَعْنى الرُّجُوعِ، و﴿جَمِيعًا﴾ نُصِبَ عَلى الحالِ؛ أيْ: ذَلِكَ الرُّجُوعُ يَحْصُلُ حالَ الِاجْتِماعِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِن هَذا المَرْجِعِ المَوْتَ، وإنَّما المُرادُ مِنهُ القِيامَةُ.
البَحْثُ الرّابِعُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ، وأنَّهُ لا رُجُوعَ إلّا إلى اللَّهِ تَعالى، ولا حُكْمَ إلّا حُكْمُهُ ولا نافِذَ إلّا أمْرُهُ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿وعْدَ اللَّهِ﴾ مَنصُوبٌ عَلى مَعْنى: وعَدَكُمُ اللَّهُ وعْدًا؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ مَعْناهُ الوَعْدُ بِالرُّجُوعِ، فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿وعْدَ اللَّهِ﴾ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِقَوْلِهِ: ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ وقَوْلُهُ: (حَقًّا) مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِقَوْلِهِ: ﴿وعْدَ اللَّهِ﴾ فَهَذِهِ التَّأْكِيداتُ قَدْ اجْتَمَعَتْ في هَذا الحُكْمِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قُرِئَ (وعَدَ اللَّهُ) عَلى لَفْظِ الفِعْلِ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ الحَشْرِ والنَّشْرِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ ما يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ في نَفْسِهِ مُمْكِنَ الوُجُودِ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ ما يَدُلُّ عَلى وُقُوعِهِ. أمّا ما يَدُلُّ عَلى إمْكانِهِ في نَفْسِهِ فَهو قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: تَقْرِيرُ هَذا الدَّلِيلِ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ بِالدَّلِيلِ كَوْنَهُ خالِقًا لِلْأفْلاكِ والأرَضِينَ، ويَدْخُلُ فِيهِ أيْضًا كَوْنُهُ خالِقًا لِكُلِّ ما في هَذا العالَمِ مِنَ الجَماداتِ والمَعادِنِ والنَّباتِ والحَيَوانِ والإنْسانِ، وقَدْ ثَبَتَ في العَقْلِ أنَّ كُلَّ مَن كانَ قادِرًا عَلى شَيْءٍ، وكانَتْ قُدْرَتُهُ باقِيَةً مُمْتَنِعَةَ الزَّوالِ، وكانَ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ فَإنَّهُ يُمْكِنُهُ إعادَتُهُ بِعَيْنِهِ، فَدَلَّ هَذا الدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى إعادَةِ الإنْسانِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى إعْدامِ أجْسامِ العالَمِ، واخْتَلَفُوا في أنَّهُ تَعالى هَلْ يَعْدِمُها أمْ لا ؟ فَقالَ قَوْمٌ: إنَّهُ تَعالى يَعْدِمُها، واحْتَجُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى حَكَمَ عَلى جَمِيعِ المَخْلُوقاتِ بِأنَّهُ يُعِيدُها، فَوَجَبَ أنْ يُعِيدَ الأجْسامَ أيْضًا، وإعادَتُها لا تُمْكِنُ إلّا بَعْدَ إعْدامِها، وإلّا لَزِمَ إيجادُ المَوْجُودِ وهو مُحالٌ. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] فَحَكَمَ بِأنَّ الإعادَةَ تَكُونُ مِثْلَ الِابْتِداءِ، ثُمَّ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أنَّهُ تَعالى إنَّما يَخْلُقُها في الِابْتِداءِ مِنَ العَدَمِ، فَوَجَبَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى يُعِيدُها أيْضًا مِنَ العَدَمِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في هَذِهِ الآيَةِ إضْمارٌ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ لِيَأْمُرَهم بِالعِبادَةِ، ثُمَّ يُمِيتُهم، ثُمَّ يُعِيدُهم، كَما قالَ في سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكم ثُمَّ يُمِيتُكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] إلّا أنَّهُ تَعالى حَذَفَ ذِكْرَ الأمْرِ بِالعِبادَةِ هاهُنا، لِأجْلِ أنَّهُ تَعالى قالَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ (p-٢٦)﴿فاعْبُدُوهُ﴾ [يونس: ٣] وحَذَفَ ذِكْرَ الإماتَةِ لِأنَّ ذِكْرَ الإعادَةِ يَدُلُّ عَلَيْها.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَرَأ بَعْضُهم ﴿إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ بِالكَسْرِ وبَعْضُهم بِالفَتْحِ. قالَ الزَّجّاجُ: مَن كَسَرَ الهَمْزَةَ مِن ”إنِّ“ فَعَلى الِاسْتِئْنافِ، وفي الفَتْحِ وجْهانِ، الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا لِأنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وعَدَ اللَّهُ وعْدًا بَدْءَ الخَلْقِ ثُمَّ إعادَتَهُ، و(يُبْدِئُ) مِن أبْدَأ، وقُرِئَ: (حَقٌّ إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ) كَقَوْلِكَ: حَقٌّ إنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ﴾ فاعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِنهُ إقامَةُ الدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ لا بُدَّ مِن حُصُولِ الحَشْرِ والنَّشْرِ، حَتّى يَحْصُلَ الفَرْقُ بَيْنَ المُحْسِنِ والمُسِيءِ، وحَتّى يَصِلَ الثَّوابُ إلى المُطِيعِ والعِقابُ إلى العاصِي، وقَدْ سَبَقَ الِاسْتِقْصاءُ في تَقْرِيرِ هَذا الدَّلِيلِ، وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الكَعْبِيُّ: اللّامُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى خَلَقَ العِبادَ لِلثَّوابِ والرَّحْمَةِ. وأيْضًا فَإنَّهُ أدْخَلَ لامَ التَّعْلِيلِ عَلى الثَّوابِ. وأمّا العِقابُ فَما أدْخَلَ فِيهِ لامَ التَّعْلِيلِ، بَلْ قالَ: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا لَهم شَرابٌ مِن حَمِيمٍ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ خَلَقَ الخَلْقَ لِلرَّحْمَةِ لا لِلْعَذابِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ما أرادَ مِنهُمُ الكُفْرَ، وما خَلَقَ فِيهِمُ الكُفْرَ البَتَّةَ.
والجَوابُ: أنَّ لامَ التَّعْلِيلِ في أفْعالِ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَوْ فَعَلَ فِعْلًا لِعِلَّةٍ، لَكانَتْ تِلْكَ العِلَّةُ إنْ كانَتْ قَدِيمَةً لَزِمَ قِدَمُ الفِعْلِ، وإنْ كانَتْ حادِثَةً لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وهو مُحالٌ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الكَعْبِيُّ أيْضًا: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَبْدَأ خَلْقَهم في الجَنَّةِ؛ لِأنَّهُ لَوْ حَسُنَ إيصالُ تِلْكَ النِّعَمِ إلَيْهِمْ مِن غَيْرِ واسِطَةِ خَلْقِهِمْ في هَذا العالَمِ ومِن غَيْرِ واسِطَةِ تَكْلِيفِهِمْ، لَما كانَ خَلْقُهم وتَكْلِيفُهم مُعَلَّلًا بِإيصالِ تِلْكَ النِّعَمِ إلَيْهِمْ، وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ.
والجَوابُ: هَذا بِناءً عَلى صِحَّةِ تَعْلِيلِ أحْكامِ اللَّهِ تَعالى، وهو باطِلٌ. سَلَّمْنا صِحَّتَهُ، إلّا أنَّ كَلامَهُ إنَّما يَصِحُّ لَوْ عَلَّلْنا بَدْءَ الخَلْقِ وإعادَتَهُ بِهَذا المَعْنى وذَلِكَ مَمْنُوعٌ. فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ لِمَحْضِ التَّفَضُّلِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى يُعِيدُهم لِغَرَضِ إيصالِ نِعَمِ الجَنَّةِ إلَيْهِمْ ؟ وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ سَقَطَ كَلامُهُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِالقِسْطِ﴾ فَفِيهِ وجْهانِ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: ﴿بِالقِسْطِ﴾ بِالعَدْلِ، وهو يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَجْزِيَ﴾ والمَعْنى: لِيَجْزِيَهم بِقِسْطِهِ، وفِيهِ سُؤالانِ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: أنَّ القِسْطَ إذا كانَ مُفَسَّرًا بِالعَدْلِ، فالعَدْلُ هو الَّذِي يَكُونُ لا زائِدًا ولا ناقِصًا، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّهُ تَعالى لا يَزِيدُهم عَلى ما يَسْتَحِقُّونَهُ بِأعْمالِهِمْ، ولا يُعْطِيهِمْ شَيْئًا عَلى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ ابْتِداءً.
والجَوابُ: عِنْدَنا أنَّ الثَّوابَ أيْضًا مَحْضُ التَّفَضُّلِ. وأيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أنْ يُساعِدَ عَلى حُصُولِ الِاسْتِحْقاقِ، إلّا أنَّ لَفْظَ ﴿القِسْطَ﴾ يَدُلُّ عَلى تَوْفِيَةِ الأجْرِ، فَأمّا المَنعُ مِنَ الزِّيادَةِ فَلَفْظُ ﴿القِسْطَ﴾ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ خَصَّ المُؤْمِنِينَ بِالقِسْطِ مَعَ أنَّهُ تَعالى يُجازِي الكافِرِينَ أيْضًا بِالقِسْطِ ؟
والجَوابُ: أنَّ تَخْصِيصَ المُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلى مَزِيدِ العِنايَةِ في حَقِّهِمْ، وعَلى كَوْنِهِمْ مَخْصُوصِينَ بِمَزِيدِ هَذا الِاحْتِياطِ. (p-٢٧)
الوَجْهُ الثّانِي في تَفْسِيرِ الآيَةِ: أنْ يَكُونَ المَعْنى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بِقِسْطِهِمْ وبِما أقْسَطُوا وعَدَلُوا ولَمْ يَظْلِمُوا أنْفُسَهم، حَيْثُ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ؛ لِأنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] والعُصاةُ أيْضًا قَدْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر: ٣٢] وهَذا الوَجْهُ أقْوى؛ لِأنَّهُ في مُقابَلَةِ قَوْلِهِ: ﴿بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾ .
* * *
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا لَهم شَرابٌ مِن حَمِيمٍ وعَذابٌ ألِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الواحِدِيُّ: الحَمِيمُ: الَّذِي سُخِّنَ بِالنّارِ حَتّى انْتَهى حَرُّهُ. يُقالُ: حَمَمْتُ الماءَ؛ أيْ: سَخَّنْتُهُ، فَهو حَمِيمٌ. ومِنهُ الحَمّامُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ لا واسِطَةَ بَيْنَ أنْ يَكُونَ المُكَلَّفُ مُؤْمِنًا وبَيْنَ أنْ يَكُونَ كافِرًا؛ لِأنَّهُ تَعالى اقْتَصَرَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى ذِكْرِ هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ.
وأجابَ القاضِي عَنْهُ بِأنَّ ذِكْرَ هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ لا يَدُلُّ عَلى نَفْيِ القِسْمِ الثّالِثِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةٍ مِن ماءٍ فَمِنهم مَن يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ومِنهم مَن يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ومِنهم مَن يَمْشِي عَلى أرْبَعٍ﴾ [النور: ٤٥] ولَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلى نَفْيِ القِسْمِ الرّابِعِ، بَلْ نَقُولُ: إنَّ في مِثْلِ ذَلِكَ رُبَّما يُذْكَرُ المَقْصُودُ أوِ الأكْثَرُ، ويُتْرَكُ ذِكْرُ ما عَداهُ إذا كانَ قَدْ بُيِّنَ في مَوْضِعٍ آخَرَ. وقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى القِسْمَ الثّالِثَ في سائِرِ الآياتِ.
والجَوابُ أنْ نَقُولَ: إنَّما يُتْرَكُ القِسْمُ الثّالِثُ الَّذِي يَجْرِي مَجْرى النّادِرِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الفُسّاقَ أكْثَرُ مِن أهْلِ الطّاعاتِ، وكَيْفَ يَجُوزُ تَرْكُ ذِكْرِهِمْ في هَذا البابِ ؟ وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةٍ مِن ماءٍ﴾ فَإنَّما تَرَكَ ذِكْرَ القِسْمِ الرّابِعِ والخامِسِ؛ لِأنَّ أقْسامَ ذَواتِ الأرْجُلِ كَثِيرَةٌ، فَكانَ ذِكْرُها بِأسْرِها يُوجِبُ الإطْنابَ، بِخِلافِ هَذِهِ المَسْألَةِ، فَإنَّهُ لَيْسَ هاهُنا إلّا القِسْمُ الثّالِثُ، وهو الفاسِقُ الَّذِي يَزْعُمُ الخَصْمُ أنَّهُ لا مُؤْمِنٌ ولا كافِرٌ، فَظَهَرَ الفَرْقُ.
{"ayah":"إِلَیۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِیعࣰاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقًّاۚ إِنَّهُۥ یَبۡدَؤُا۟ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥ لِیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَهُمۡ شَرَابࣱ مِّنۡ حَمِیمࣲ وَعَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡفُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق