الباحث القرآني
(p-٧٣)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكائِكم مَن يَهْدِي إلى الحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أفَمَن يَهْدِي إلى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلّا أنْ يُهْدى فَما لَكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ ﴿وما يَتَّبِعُ أكْثَرُهم إلّا ظَنًّا إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ هَذا هو الحُجَّةُ الثّالِثَةُ، واعْلَمْ أنَّ الِاسْتِدْلالَ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ بِالخَلْقِ أوَّلًا، ثُمَّ بِالهِدايَةِ ثانِيًا، عادَةٌ مُطَّرِدَةٌ في القُرْآنِ، فَحَكى تَعالى عَنِ الخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] وعَنْ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿رَبُّنا الَّذِي أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾ [طه: ٥٠] وأمَرَ مُحَمَّدًا ﷺ بِذَلِكَ فَقالَ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى﴾ ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى﴾ ﴿والَّذِي قَدَّرَ فَهَدى﴾ [الأعلى: ١ - ٣] وهو في الحَقِيقَةِ دَلِيلٌ شَرِيفٌ؛ لِأنَّ الإنْسانَ لَهُ جَسَدٌ ولَهُ رُوحٌ، فالِاسْتِدْلالُ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ بِأحْوالِ الجَسَدِ هو الخَلْقُ، والِاسْتِدْلالُ بِأحْوالِ الرُّوحِ هو الهِدايَةُ، فَهَهُنا أيْضًا لَمّا ذَكَرَ دَلِيلَ الخَلْقِ في الآيَةِ الأُولى، وهو قَوْلُهُ: ﴿أمَّنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أتْبَعَهُ بِدَلِيلِ الهِدايَةِ في هَذِهِ الآيَةِ.
واعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن خَلْقِ الجَسَدِ حُصُولُ الهِدايَةِ لِلرُّوحِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ أخْرَجَكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكم لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ٧٨] وهَذا كالتَّصْرِيحِ بِأنَّهُ تَعالى إنَّما خَلَقَ الجَسَدَ، وإنَّما أعْطى الحَواسَّ لِتَكُونَ آلَةً في اكْتِسابِ المَعارِفِ والعُلُومِ، وأيْضًا فالأحْوالُ الجَسَدِيَّةُ خَسِيسَةٌ يَرْجِعُ حاصِلُها إلى الِالتِذاذِ بِذَوْقِ شَيْءٍ مِنَ الطُّعُومِ أوْ لَمْسِ شَيْءٍ مِنَ الكَيْفِيّاتِ المَلْمُوسَةِ، أمّا الأحْوالُ الرُّوحانِيَّةُ والمَعارِفُ الإلَهِيَّةُ فَإنَّها كَمالاتٌ باقِيَةٌ أبَدَ الآبادِ، مَصُونَةٌ عَنِ الكَوْنِ والفَسادِ، فَعَلِمْنا أنَّ الخَلْقَ تَبَعٌ لِلْهِدايَةِ، والمَقْصُودَ الأشْرَفَ الأعْلى حُصُولُ الهِدايَةِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: العُقُولُ مُضْطَرِبَةٌ والحَقُّ صَعْبٌ، والأفْكارُ مُخْتَلِطَةٌ، ولَمْ يَسْلَمْ مِنَ الغَلَطِ إلّا الأقَلُّونَ، فَوَجَبَ أنَّ الهِدايَةَ وإدْراكَ الحَقِّ لا يَكُونُ إلّا بِإعانَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى وهِدايَتِهِ وإرْشادِهِ، ولِصُعُوبَةِ هَذا الأمْرِ قالَ الكَلِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بَعْدَ اسْتِماعِ الكَلامِ القَدِيمِ ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ [طه: ٢٥] وكُلُّ الخَلْقِ يَطْلُبُونَ الهِدايَةَ ويَحْتَرِزُونَ عَنِ الضَّلالَةِ، مَعَ أنَّ الأكْثَرِينَ وقَعُوا في الضَّلالَةِ، وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ حُصُولَ الهِدايَةِ والعِلْمِ والمَعْرِفَةِ لَيْسَ إلّا مِنَ اللَّهِ تَعالى.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: الهِدايَةُ إمّا أنْ تَكُونَ عِبارَةً عَنِ الدَّعْوَةِ إلى الحَقِّ، وإمّا أنْ تَكُونَ عِبارَةً عَنْ تَحْصِيلِ تِلْكَ المَعْرِفَةِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّها أشْرَفُ المَراتِبِ البَشَرِيَّةِ وأعْلى السَّعاداتِ الحَقِيقِيَّةِ، ودَلَّلْنا عَلى أنَّها لَيْسَتْ إلّا مِنَ اللَّهِ تَعالى.
وأمّا الأصْنامُ فَإنَّها جَماداتٌ لا تَأْثِيرَ لَها في الدَّعْوَةِ إلى الحَقِّ ولا في الإرْشادِ إلى الصِّدْقِ، فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى هو المُوصِلُ إلى جَمِيعِ الخَيْراتِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، والمُرْشِدُ إلى كُلِّ الكَمالاتِ في النَّفْسِ والجَسَدِ، وأنَّ الأصْنامَ لا تَأْثِيرَ لَها في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ الِاشْتِغالُ بِعِبادَتِها جَهْلًا مَحْضًا وسَفَهًا صِرْفًا، فَهَذا حاصِلُ الكَلامِ في هَذا الِاسْتِدْلالِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الزَّجّاجُ: يُقالُ هَدَيْتُ إلى الحَقِّ، وهَدَيْتُ لِلْحَقِّ بِمَعْنًى واحِدٍ، واللَّهُ تَعالى ذَكَرَ هاتَيْنِ اللُّغَتَيْنِ في قَوْلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أفَمَن يَهْدِي إلى الحَقِّ﴾ .
(p-٧٤)المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿أمَّنْ لا يَهِدِّي﴾ سِتُّ قِراءاتٍ:
الأُولى: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ ووَرْشٌ عَنْ نافِعٍ ”يَهَدِّي“ بِفَتْحِ الياءِ والهاءِ وتَشْدِيدِ الدّالِ، وهو اخْتِيارُ أبِي عُبَيْدَةَ وأبِي حاتِمٍ؛ لِأنَّ أصْلَهُ يَهْتَدِي أُدْغِمَتِ التّاءُ في الدّالِ ونُقِلَتْ فَتْحَةُ التّاءِ المُدْغَمَةِ إلى الهاءِ.
الثّانِيَةُ: قَرَأ نافِعٌ ساكِنَةَ الهاءِ مُشَدَّدَةَ الدّالِ؛ أُدْغِمَتِ التّاءُ في الدّالِ، وتُرِكَتِ الهاءُ عَلى حالِها، فَجَمَعَ في قِراءَتِهِ بَيْنَ ساكِنَيْنِ كَما جَمَعُوا في ”يَخْصِّمُونَ“ قالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى: وهو غَلَطٌ عَلى نافِعٍ.
الثّالِثَةُ: قَرَأ أبُو عَمْرٍو بِالإشارَةِ إلى فَتْحَةِ الهاءِ مِن غَيْرِ إشْباعٍ فَهو بَيْنَ الفَتْحِ والجَزْمِ، مُخْتَلَسَةٌ عَلى أصْلِ مَذْهَبِهِ اخْتِيارًا لِلتَّخْفِيفِ، وذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى أنَّهُ الصَّحِيحُ مِن قِراءَةِ نافِعٍ.
الرّابِعَةُ: قَرَأ عاصِمٌ بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الهاءِ وتَشْدِيدِ الدّالِ فِرارًا مِنَ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ، والجَزْمُ يُحَرَّكُ بِالكَسْرِ.
الخامِسَةُ: قَرَأ حَمّادٌ ويَحْيى بْنُ آدَمَ عَنْ أبِي بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ بِكَسْرِ الياءِ والهاءِ؛ أتْبَعَ الكَسْرَةَ لِلْكَسْرَةِ، وقِيلَ: هو لُغَةُ مَن قَرَأ ”نِسْتَعِينُ ونِعْبُدُ“ .
السّادِسَةُ: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ”مَن يَهْدِي“ ساكِنَةَ الهاءِ وبِتَخْفِيفِ الدّالِ عَلى مَعْنى يَهْتَدِي، والعَرَبُ تَقُولُ: يَهْدِي، بِمَعْنى يَهْتَدِي. يُقالُ: هَدَيْتُهُ فَهُدِيَ؛ أيِ اهْتَدى.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في لَفْظِ الآيَةِ إشْكالٌ، وهو أنَّ المُرادَ مِنَ الشُّرَكاءِ في هَذِهِ الآيَةِ الأصْنامُ وأنَّها جَماداتٌ لا تَقْبَلُ الهِدايَةَ، فَقَوْلُهُ: ﴿أمَّنْ لا يَهِدِّي إلّا أنْ يُهْدى﴾ لا يَلِيقُ بِها.
والجَوابُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكائِكم مَن يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ هو الأصْنامَ. والمُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكائِكم مَن يَهْدِي إلى الحَقِّ﴾ رُؤَساءَ الكُفْرِ والضَّلالَةِ والدُّعاةَ إلَيْها؛ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١] إلى قَوْلِهِ: ﴿لا إلَهَ إلّا هو سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: ٣١] والمُرادُ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى هَدى الخَلْقَ إلى الدِّينِ الحَقِّ بِواسِطَةِ ما أظْهَرَ مِنَ الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ والنَّقْلِيَّةِ، وأمّا هَؤُلاءِ الدُّعاةُ والرُّؤَساءُ فَإنَّهم لا يَقْدِرُونَ عَلى أنْ يَهْدُوا غَيْرَهم إلّا إذا هَداهُمُ اللَّهُ تَعالى، فَكانَ التَّمَسُّكُ بِدِينِ اللَّهِ تَعالى أوْلى مِن قَبُولِ قَوْلِ هَؤُلاءِ الجُهّالِ.
الوَجْهُ الثّانِي: في الجَوابِ أنْ يُقالَ: إنَّ القَوْمَ لَمّا اتَّخَذُوها آلِهَةً، لا جَرَمَ عَبَّرَ عَنْها كَما يُعَبِّرُ عَمَّنْ يَعْلَمُ ويَعْقِلُ، ألا تَرى أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أمْثالُكُمْ﴾ [الأعراف: ١٩٤] مَعَ أنَّها جَماداتٌ ؟ وقالَ: ﴿إنْ تَدْعُوهم لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ﴾ [فاطر: ١٤] فَأجْرى اللَّفْظَ عَلى الأوْثانِ عَلى حَسَبِ ما يَجْرِي عَلى مَن يَعْقِلُ ويَعْلَمُ. فَكَذا هَهُنا وصَفَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِصِفَةِ مَن يَعْقِلُ، وإنْ لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ.
الثّالِثُ: أنّا نَحْمِلُ ذَلِكَ عَلى التَّقْدِيرِ، يَعْنِي أنَّها لَوْ كانَتْ بِحَيْثُ يُمْكِنُها أنْ تَهْدِيَ، فَإنَّها لا تَهْدِي غَيْرَها إلّا بَعْدَ أنْ يَهْدِيَها غَيْرُها، وإذا حَمَلْنا الكَلامَ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَقَدْ زالَ السُّؤالُ.
الرّابِعُ: أنَّ البِنْيَةَ عِنْدَنا لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الحَياةِ والعَقْلِ، فَتِلْكَ الأصْنامُ حالَ كَوْنِها خَشَبًا وحَجَرًا قابِلَةٌ لِلْحَياةِ والعَقْلِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَيَصِحُّ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَجْعَلَها حَيَّةً عاقِلَةً ثُمَّ إنَّها تَشْتَغِلُ بِهِدايَةِ الغَيْرِ.
الخامِسُ: أنَّ الهُدى عِبارَةٌ عَنِ النَّقْلِ والحَرَكَةِ يُقالُ: هُدِيَتِ المَرْأةُ إلى زَوْجِها هُدًى، إذا نُقِلَتْ إلَيْهِ، والهَدْيُ ما يُهْدى إلى الحَرَمِ مِنَ النَّعَمِ، وسُمِّيَتِ الهَدِيَّةُ هَدِيَّةً لِانْتِقالِها مِن رَجُلٍ إلى غَيْرِهِ، وجاءَ فُلانٌ يُهادِي بَيْنَ اثْنَيْنِ إذا كانَ يَمْشِي بَيْنَهُما مُعْتَمِدًا عَلَيْهِما مِن ضَعْفِهِ وتَمايُلِهِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿أمَّنْ لا يَهِدِّي إلّا أنْ يُهْدى﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: أنَّهُ لا يَنْتَقِلُ إلى مَكانٍ إلّا إذا نُقِلَ إلَيْهِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: فالمُرادُ الإشارَةُ إلى كَوْنِ هَذِهِ الأصْنامِ جَماداتٍ خالِيَةً عَنِ الحَياةِ (p-٧٥)والقُدْرَةِ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا قَرَّرَ عَلى الكُفّارِ هَذِهِ الحُجَّةَ الظّاهِرَةَ قالَ: ﴿فَما لَكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ يُعَجِّبُ مِن مَذْهَبِهِمُ الفاسِدِ ومَقالَتِهِمُ الباطِلَةِ أرْبابَ العُقُولِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما يَتَّبِعُ أكْثَرُهم إلّا ظَنًّا﴾ وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: وما يَتَّبِعُ أكْثَرُهم في إقْرارِهِمْ بِاللَّهِ تَعالى إلّا ظَنًّا، لِأنَّهُ قَوْلٌ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إلى بُرْهانٍ عِنْدَهم، بَلْ سَمِعُوهُ مِن أسْلافِهِمْ.
الثّانِي: وما يَتَّبِعُ أكْثَرُهم في قَوْلِهِمُ: الأصْنامُ آلِهَةٌ، وأنَّها شُفَعاءُ عِنْدَ اللَّهِ -إلّا الظَّنَّ.
والقَوْلُ الأوَّلُ أقْوى؛ لِأنّا في القَوْلِ الثّانِي نَحْتاجُ إلى أنْ نُفَسِّرَ الأكْثَرَ بِالكُلِّ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: تَمَسُّكُ نُفاةِ القِياسِ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالُوا: العَمَلُ بِالقِياسِ عَمَلٌ بِالظَّنِّ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا﴾ .
أجابَ مُثْبِتُو القِياسِ، فَقالُوا: الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلى وُجُوبِ العَمَلِ بِالقِياسِ دَلِيلٌ قاطِعٌ، فَكانَ وُجُوبُ العَمَلِ بِالقِياسِ مَعْلُومًا، فَلَمْ يَكُنِ العَمَلُ بِالقِياسِ مَظْنُونًا بَلْ كانَ مَعْلُومًا.
أجابَ المُسْتَدِلُّ عَنْ هَذا السُّؤالِ، فَقالَ: لَوْ كانَ الحُكْمُ المُسْتَفادُ مِنَ القِياسِ يُعْلَمُ كَوْنُهُ حُكْمًا لِلَّهِ تَعالى لَكانَ تَرْكُ العَمَلِ بِهِ كُفْرًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ [المائدة: ٤٤] ولَمّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَطُلَ العَمَلُ بِهِ. وقَدْ يَعْدُونَ عَنْ هَذِهِ الحُجَّةِ بِأنَّهم قالُوا: الحُكْمُ المُسْتَفادُ مِنَ القِياسِ إمّا أنْ يُعْلَمَ كَوْنُهُ حُكْمًا لِلَّهِ تَعالى أوْ يُظَنَّ أوْ لا يُعْلَمَ ولا يُظَنَّ، والأوَّلُ باطِلٌ، وإلّا لَكانَ مَن لَمْ يَحْكم بِهِ كافِرًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ [المائدة: ٤٤] وبِالِاتِّفاقِ لَيْسَ كَذَلِكَ.
والثّانِي باطِلٌ؛ لِأنَّ العَمَلَ بِالظَّنِّ لا يَجُوزُ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا﴾ .
والثّالِثُ: باطِلٌ، لِأنَّهُ إذا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الحُكْمُ مَعْلُومًا ولا مَظْنُونًا، كانَ مُجَرَّدَ التَّشَهِّي، فَكانَ باطِلًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضاعُوا الصَّلاةَ واتَّبَعُوا الشَّهَواتِ﴾ . [مريم: ٥٩]
وأجابَ مُثْبِتُو القِياسِ: بِأنَّ حاصِلَ هَذا الدَّلِيلِ يَرْجِعُ إلى التَّمَسُّكِ بِالعُمُوماتِ، والتَّمَسُّكُ بِالعُمُوماتِ لا يُفِيدُ إلّا الظَّنَّ.
فَلَمّا كانَتْ هَذِهِ العُمُوماتُ دالَّةً عَلى المَنعِ مِنَ التَمَسَكِ بِالظَّنِّ، لَزِمَ كَوْنُها دالَّةً عَلى المَنعِ مِنَ التَمَسُّكِ بِها، وما أفْضى ثُبُوتُهُ إلى نَفْيِهِ كانَ مَتْرُوكًا.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ كُلَّ مَن كانَ ظانًّا في مَسائِلِ الأُصُولِ، وما كانَ قاطِعًا، فَإنَّهُ لا يَكُونُ مُؤْمِنًا.
فَإنْ قِيلَ: فَقَوْلُ أهْلِ السُّنَّةِ: أنا مُؤْمِنٌ إنْ شاءَ اللَّهُ يَمْنَعُ مِنَ القَطْعِ، فَوَجَبَ أنْ يَلْزَمَهُمُ الكُفْرُ.
قُلْنا: هَذا ضَعِيفٌ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّ الإيمانَ عِبارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الِاعْتِقادِ والإقْرارِ والعَمَلِ، والشَّكُّ أصْلٌ في أنَّ هَذِهِ الأعْمالَ هَلْ هي مُوافِقَةٌ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى ؟ والشَّكُّ في أحَدِ أجْزاءِ الماهِيَّةِ لا يُوجِبُ الشَّكَّ في تَمامِ الماهِيَّةِ.
الثّانِي: أنَّ الغَرَضَ مِن قَوْلِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ بَقاءُ الإيمانِ عِنْدَ الخاتِمَةِ.
الثّالِثُ: الغَرَضُ مِنهُ هَضْمُ النَّفْسِ وكَسْرُها. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":35,"ayahs":["قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَاۤىِٕكُم مَّن یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلۡحَقِّۚ قُلِ ٱللَّهُ یَهۡدِی لِلۡحَقِّۗ أَفَمَن یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلۡحَقِّ أَحَقُّ أَن یُتَّبَعَ أَمَّن لَّا یَهِدِّیۤ إِلَّاۤ أَن یُهۡدَىٰۖ فَمَا لَكُمۡ كَیۡفَ تَحۡكُمُونَ","وَمَا یَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِمَا یَفۡعَلُونَ"],"ayah":"وَمَا یَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِمَا یَفۡعَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق