الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ أمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ ومَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ومَن يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَماذا بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلالُ فَأنّى تُصْرَفُونَ﴾ ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلى الَّذِينَ فَسَقُوا أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ فَضائِحَ عَبَدَةِ الأوْثانِ أتْبَعَها بِذِكْرِ الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى فَسادِ هَذا المَذْهَبِ. فالحُجَّةُ الأُولى: ما ذَكَرَهُ في هَذِهِ الآيَةِ وهو أحْوالُ الرِّزْقِ وأحْوالُ الحَواسِّ وأحْوالُ المَوْتِ والحَياةِ. أمّا الرِّزْقُ فَإنَّهُ إنَّما يَحْصُلُ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ، أمّا مِنَ السَّماءِ فَبِنُزُولِ الأمْطارِ المُوافِقَةِ، وأمّا مِنَ الأرْضِ؛ فَلِأنَّ الغِذاءَ إمّا أنْ يَكُونَ نَباتًا أوْ حَيَوانًا، أمّا النَّباتُ فَلا يَنْبُتُ إلّا مِنَ الأرْضِ، وأمّا الحَيَوانُ فَهو مُحْتاجٌ أيْضًا إلى الغِذاءِ. ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ غِذاءُ كُلِّ حَيَوانٍ حَيَوانًا آخَرَ، وإلّا لَزِمَ الذَّهابُ إلى ما لا نِهايَةَ لَهُ وذَلِكَ مُحالٌ، فَثَبَتَ أنَّ أغْذِيَةَ الحَيَواناتِ يَجِبُ انْتِهاؤُها إلى النَّباتِ، وثَبَتَ أنَّ تَوَلُّدَ النَّباتِ مِنَ الأرْضِ، فَلَزِمَ القَطْعُ بِأنَّ الأرْزاقَ لا تَحْصُلُ إلّا مِنَ السَّماءِ والأرْضِ، ومَعْلُومٌ أنَّ مُدَبِّرَ السَّماواتِ والأرَضِينَ لَيْسَ إلّا اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى، فَثَبَتَ أنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ إلّا مِنَ اللَّهِ تَعالى. وأمّا أحْوالُ الحَواسِّ فَكَذَلِكَ، لِأنَّ أشْرَفَها السَّمْعُ والبَصَرُ. وكانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: سُبْحانَ مَن بَصَّرَ بِشَحْمٍ، وأسْمَعَ بِعَظْمٍ، وأنْطَقَ بِلَحْمٍ. وأمّا أحْوالُ المَوْتِ والحَياةِ فَهو قَوْلُهُ: ﴿ومَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ يُخْرِجُ الإنْسانَ والطّائِرَ مِنَ النُّطْفَةِ والبَيْضَةِ ﴿ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ﴾ أيْ يُخْرِجُ النُّطْفَةَ والبَيْضَةَ مِنَ الإنْسانِ والطّائِرِ. والثّانِي: أنَّ المُرادَ مِنهُ أنَّهُ يُخْرِجُ المُؤْمِنَ مِنَ الكافِرِ، والكافِرَ مِنَ المُؤْمِنِ. والأكْثَرُونَ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ، وهو إلى الحَقِيقَةِ أقْرَبُ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ هَذا التَّفْصِيلَ ذَكَرَ بَعْدَهُ كَلامًا كُلِّيًّا، وهو قَوْلُهُ: ﴿ومَن يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ أقْسامَ تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعالى في العالَمِ العُلْوِيِّ وفي العالَمِ السُّفْلِيِّ وفي عالَمَيِ الأرْواحِ والأجْسادِ أُمُورٌ لا نِهايَةَ لَها، وذِكْرُ كُلِّها كالمُتَعَذِّرِ، فَلَمّا ذَكَرَ بَعْضَ تِلْكَ التَّفاصِيلِ لا جَرَمَ عَقَّبَها بِالكَلامِ الكُلِّيِّ لِيَدُلَّ عَلى الباقِي. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، إذا سَألَهم عَنْ مُدَبِّرِ هَذِهِ الأحْوالِ فَسَيَقُولُونَ: إنَّهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ (p-٧١)وتَعالى، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُخاطَبِينَ بِهَذا الكَلامِ كانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ ويُقِرُّونَ بِهِ، وهُمُ الَّذِينَ قالُوا في عِبادَتِهِمْ لِلْأصْنامِ: إنَّها تُقَرِّبُنا إلى اللَّهِ زُلْفى، وإنَّهم شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، وكانُوا يَعْلَمُونَ أنَّ هَذِهِ الأصْنامَ لا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ لِرَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿فَقُلْ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ يَعْنِي أفَلا تَتَّقُونَ أنْ تَجْعَلُوا هَذِهِ الأوْثانَ شُرَكاءَ لِلَّهِ في المَعْبُودِيَّةِ، مَعَ اعْتِرافِكم بِأنَّ كُلَّ الخَيْراتِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ إنَّما تَحْصُلُ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ وإحْسانِهِ، واعْتِرافِكم بِأنَّ هَذِهِ الأوْثانَ لا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ ألْبَتَّةَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ﴾ ومَعْناهُ أنَّ مَن هَذِهِ قُدْرَتُهُ ورَحْمَتُهُ هو ﴿رَبُّكُمُ الحَقُّ﴾ الثّابِتُ رُبُوبِيَّتُهُ ثَباتًا لا رَيْبَ فِيهِ، وإذا ثَبَتَ أنَّ هَذا هو الحَقُّ، وجَبَ أنْ يَكُونَ ما سِواهُ ضَلالًا، لِأنَّ النَّقِيضَيْنِ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونا حَقَّيْنِ وأنْ يَكُونا باطِلَيْنِ، فَإذا كانَ أحَدُهُما حَقًّا وجَبَ أنْ يَكُونَ ما سِواهُ باطِلًا. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿فَأنّى تُصْرَفُونَ﴾ والمَعْنى أنَّكم لَمّا عَرَفْتُمْ هَذا الأمْرَ الواضِحَ الظّاهِرَ ﴿فَأنّى تُصْرَفُونَ﴾ وكَيْفَ تَسْتَجِيزُونَ العُدُولَ عَنْ هَذا الحَقِّ الظّاهِرِ. واعْلَمْ أنَّ الجُبّائِيَّ قَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ وقالَ: هَذا يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ المُجْبِرَةِ أنَّهُ تَعالى يَصْرِفُ الكُفّارَ عَنِ الإيمانِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما جازَ أنْ يَقُولَ: ﴿فَأنّى تُصْرَفُونَ﴾ كَما لا يَقُولُ إذا أعْمى بَصَرَ أحَدِهِمْ إنِّي عَمِيتُ، واعْلَمْ أنَّ الجَوابَ عَنْهُ سَيَأْتِي عَنْ قَرِيبٍ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلى الَّذِينَ فَسَقُوا أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الكُفْرَ بِقَضاءِ اللَّهِ تَعالى وإرادَتِهِ، وتَقْرِيرُهُ أنَّهُ تَعالى أخْبَرَ عَنْهم خَبَرًا جَزْمًا قَطْعًا أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، فَلَوْ آمَنُوا لَكانَ إمّا أنْ يَبْقى ذَلِكَ الخَبَرُ صِدْقًا أوْ لا يَبْقى، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ الخَبَرَ بِأنَّهُ لا يُؤْمِنُ يَمْتَنِعُ أنْ يَبْقى صِدْقًا حالَ ما يُوجَدُ الإيمانُ مِنهُ. والثّانِي أيْضًا باطِلٌ؛ لِأنَّ انْقِلابَ خَبَرِ اللَّهِ تَعالى كَذِبًا مُحالٌ؛ فَثَبَتَ أنَّ صُدُورَ الإيمانِ مِنهم مُحالٌ، والمُحالُ لا يَكُونُ مُرادًا، فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى ما أرادَ الإيمانَ مِن هَذا الكافِرِ، وأنَّهُ أرادَ الكُفْرَ مِنهُ، ثُمَّ نَقُولُ: إنْ كانَ قَوْلُهُ: ﴿فَأنّى تُصْرَفُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ مَذْهَبِ القَدَرِيَّةِ فَهَذِهِ الآيَةُ المَوْضُوعَةُ بِجَنْبِهِ تَدُلُّ عَلى فَسادِهِ، وقَدْ كانَ مِنَ الواجِبِ عَلى الجُبّائِيِّ مَعَ قُوَّةِ خاطِرِهِ حِينَ اسْتَدَلَّ بِتِلْكَ الآيَةِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِ أنْ يَذْكُرَ هَذِهِ الحُجَّةَ ويُجِيبَ عَنْها حَتّى يَحْصُلَ مَقْصُودُهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ ”كَلِماتُ رَبِّكَ“ عَلى الجَمْعِ وبَعْدَهُ ”إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِماتُ رَبِّكَ“ وفي حم المُؤْمِنِ ”كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِماتُ“ كُلُّهُ بِالألِفِ عَلى الجَمْعِ، والباقُونَ ﴿كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ في جَمِيعِ ذَلِكَ عَلى لَفْظِ الوُحْدانِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الكافُ في قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ﴾ لِلتَّشْبِيهِ، وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ كَما ثَبَتَ وحَقَّ أنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلالُ، كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ. الثّانِي: كَما حَقَّ صُدُورُ العِصْيانِ مِنهم، كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذابِ عَلَيْهِمْ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: ﴿أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ بَدَلٌ مِن ﴿كَلِمَةُ﴾ أيْ حَقَّ عَلَيْهِمُ انْتِفاءُ الإيمانِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: المُرادُ مِن كَلِمَةِ اللَّهِ إمّا إخْبارُهُ عَنْ ذَلِكَ، وخَبَرُهُ صِدْقٌ لا يَقْبَلُ التَّغْيُّرَ والزَّوالَ، أوْ عِلْمُهُ بِذَلِكَ، وعِلْمُهُ لا يَقْبَلُ التَّغَيُّرَ والجَهْلَ. وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: عِلْمُ اللَّهِ تَعَلَّقَ بِأنَّهُ لا يُؤْمِنُ. وخَبَرُهُ (p-٧٢)تَعالى تَعَلَّقَ بِأنَّهُ لا يُؤْمِنُ، وقُدْرَتُهُ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِخَلْقِ الإيمانِ فِيهِ بَلْ بِخَلْقِ الكُفْرِ فِيهِ، وإرادَتُهُ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِخَلْقِ الإيمانِ فِيهِ بَلْ بِخَلْقِ الكُفْرِ فِيهِ، وأثْبَتَ ذَلِكَ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وأشْهَدَ عَلَيْهِ مَلائِكَتَهُ، وأنْزَلَهُ عَلى أنْبِيائِهِ وأشْهَدَهم عَلَيْهِ، فَلَوْ حَصَلَ الإيمانُ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الأشْياءُ، فَيَنْقَلِبُ عِلْمُهُ جَهْلًا، وخَبَرُهُ الصِّدْقُ كَذِبًا، وقُدْرَتُهُ عَجْزًا، وإرادَتُهُ كُرْهًا، وإشْهادُهُ باطِلًا، وإخْبارُ المَلائِكَةِ والأنْبِياءِ كَذِبًا، وكُلُّ ذَلِكَ مُحالٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب