الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهم قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أصْحابُ الجَنَّةِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا دَعا عِبادَهُ إلى دارِ السَّلامِ، ذَكَرَ السَّعاداتِ الَّتِي تَحْصُلُ لَهم فِيها فَقالَ: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ﴾ فَيُحْتاجُ إلى تَفْسِيرِ هَذِهِ الألْفاظِ الثَّلاثَةِ. أمّا اللَّفْظُ الأوَّلُ: وهو قَوْلُهُ: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا﴾ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَعْناهُ: لِلَّذِينِ ذَكَرُوا كَلِمَةَ ”لا إلَهَ إلّا اللَّهُ“ . وقالَ الأصَمُّ: مَعْناهُ: لِلَّذِينِ أحْسَنُوا في كُلِّ ما تَعَبَّدُوا بِهِ، ومَعْناهُ: أنَّهم أتَوْا بِالمَأْمُورِ بِهِ كَما يَنْبَغِي، واجْتَنَبُوا المَنهِيّاتِ مِنَ الوَجْهِ الَّذِي صارَتْ مَنهِيًّا عَنْها. والقَوْلُ الثّانِي أقْرَبُ إلى الصَّوابِ؛ لِأنَّ الدَّرَجاتِ العالِيَةَ لا تَحْصُلُ إلّا لِأهْلِ الطّاعاتِ. (p-٦٣) وأمّا اللَّفْظُ الثّانِي: وهو ﴿الحُسْنى﴾ فَقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: الحُسْنى في اللُّغَةِ تَأْنِيثُ الأحْسَنِ، والعَرَبُ تُوَقِعُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَلى الحالَةِ المَحْبُوبَةِ والخَصْلَةِ المَرْغُوبِ فِيها، ولِذَلِكَ لَمْ تُؤَكَّدْ، ولَمْ تُنْعَتْ بِشَيْءٍ، وقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: المُرادُ: المَثُوبَةُ الحُسْنى. ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿هَلْ جَزاءُ الإحْسانِ إلّا الإحْسانُ﴾ [الرحمن: ٦٠] . وأمّا اللَّفْظُ الثّالِثُ: وهو الزِّيادَةُ. فَنَقُولُ: هَذِهِ الكَلِمَةُ مُبْهَمَةٌ، ولِأجْلِ هَذا اخْتَلَفَ النّاسُ في تَفْسِيرِها، وحاصِلُ كَلامِهِمْ يَرْجِعُ إلى قَوْلَيْنِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنها رُؤْيَةُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى. قالُوا: والدَّلِيلُ عَلَيْهِ النَّقْلُ والعَقْلُ. أمّا النَّقْلُ: فالحَدِيثُ الصَّحِيحُ الوارِدُ فِيهِ، وهو أنَّ الحُسْنى هي الجَنَّةُ، والزِّيادَةُ هي النَّظَرُ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى. وأمّا العَقْلُ: فَهو أنَّ الحُسْنى لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ دَخَلَ عَلَيْها حَرْفُ التَّعْرِيفِ، فانْصَرَفَ إلى المَعْهُودِ السّابِقِ، وهو دارُ السَّلامِ. والمَعْرُوفُ مِنَ المُسْلِمِينَ والمُتَقَرِّرِ بَيْنَ أهْلِ الإسْلامِ مِن هَذِهِ اللَّفْظَةِ هو الجَنَّةُ وما فِيها مِنَ المَنافِعِ والتَّعْظِيمِ. وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الزِّيادَةِ أمْرًا مُغايِرًا لِكُلِّ ما في الجَنَّةِ مِنَ المَنافِعِ والتَّعْظِيمِ، وإلّا لَزِمَ التَّكْرارُ. وكُلُّ مَن قالَ بِذَلِكَ قالَ: إنَّما هي رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعالى. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الزِّيادَةِ: الرُّؤْيَةُ. ومِمّا يُؤَكِّدُ هَذا وجْهانِ، الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ﴾ ﴿إلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢، ٢٣] فَأثْبَتَ لِأهْلِ الجَنَّةِ أمْرَيْنِ، أحَدُهُما: نَضْرَةُ الوُجُوهِ والثّانِي: النَّظَرُ إلى اللَّهِ تَعالى، وآياتُ القُرْآنِ يُفَسِّرُ بَعْضُها بَعْضًا فَوَجَبَ حَمْلُ الحُسْنى هاهُنا عَلى نَضْرَةِ الوُجُوهِ، وحَمْلُ الزِّيادَةِ عَلى رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ لِرَسُولِهِ ﷺ: ﴿وإذا رَأيْتَ ثَمَّ رَأيْتَ نَعِيمًا ومُلْكًا كَبِيرًا﴾ [الإنسان: ٢٠] أثْبَتَ لَهُ النَّعِيمَ، ورُؤْيَةَ المُلْكِ الكَبِيرِ، فَوَجَبَ هاهُنا حَمْلُ الحُسْنى والزِّيادَةِ عَلى هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ لا يَجُوزُ حَمْلُ هَذِهِ الزِّيادَةِ عَلى الرُّؤْيَةِ. قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ وُجُوهٌ، الأوَّلُ: أنَّ الدَّلائِلَ العَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلى أنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعالى مُمْتَنِعَةٌ. والثّانِي: أنَّ الزِّيادَةَ يَجِبُ أنْ تَكُونَ مِن جِنْسِ المَزِيدِ عَلَيْهِ، ورُؤْيَةُ اللَّهِ تَعالى لَيْسَتْ مِن جَنْسِ نَعِيمِ الجَنَّةِ. الثّالِثُ: أنَّ الخَبَرَ الَّذِي تَمَسَّكْتُمْ بِهِ في هَذا البابِ هو ما رُوِيَ أنَّ الزِّيادَةَ هي النَّظَرُ إلى وجْهِ اللَّهِ تَعالى، وهَذا الخَبَرُ يُوجِبُ التَّشْبِيهَ؛ لِأنَّ النَّظَرَ عِبارَةٌ عَنْ تَقْلِيبِ الحَدَقَةِ إلى جِهَةِ المَرْئِيِّ. وذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ المَرْئِيِّ في الجِهَةِ؛ لِأنَّ الوَجْهَ اسْمٌ لِلْعُضْوِ المَخْصُوصِ، وذَلِكَ أيْضًا يُوجِبُ التَّشْبِيهَ. فَثَبَتَ أنَّ هَذا اللَّفْظَ لا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلى الرُّؤْيَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى شَيْءٍ آخَرَ. وعِنْدَ هَذا قالَ الجُبّائِيُّ: الحُسْنى عِبارَةٌ عَنِ الثَّوابِ المُسْتَحَقِّ، والزِّيادَةُ هي ما يَزِيدُهُ اللَّهُ تَعالى عَلى هَذا الثَّوابِ مِنَ التَّفَضُّلِ. قالَ: والَّذِي يَدُلُّ عَلى صِحَّتِهِ، القُرْآنُ وأقْوالُ المُفَسِّرِينَ. أمّا القُرْآنُ: فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيُوَفِّيَهم أُجُورَهم ويَزِيدَهم مِن فَضْلِهِ﴾ [فاطر: ٣٠] . وأمّا أقْوالُ المُفَسِّرِينَ: فَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: الزِّيادَةُ غُرْفَةٌ مِن لُؤْلُؤَةٍ واحِدَةٍ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الحُسْنى هي الحَسَنَةُ، والزِّيادَةُ عَشْرُ أمْثالِها. وعَنِ الحَسَنِ: عَشْرُ أمْثالِها إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وعَنْ مُجاهِدٍ: الزِّيادَةُ مَغْفِرَةُ اللَّهِ ورِضْوانُهُ. وعَنْ يَزِيدِ بْنِ سَمُرَةَ: الزِّيادَةُ أنْ تَمُرَّ السَّحابَةُ بِأهْلِ الجَنَّةِ (p-٦٤)فَتَقُولَ: ما تُرِيدُونَ أنْ أُمْطِرَكم ؟ فَلا يُرِيدُونَ شَيْئًا إلّا أمْطَرَتْهم. أجابَ أصْحابُنا عَنْ هَذِهِ الوُجُوهِ فَقالُوا: أمّا قَوْلُكم: إنَّ الدَّلائِلَ العَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلى امْتِناعِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى، فَهَذا مَمْنُوعٌ؛ لِأنّا بَيَّنّا في كُتُبِ الأُصُولِ أنَّ تِلْكَ الدَّلائِلَ في غايَةِ الضَّعْفِ ونِهايَةِ السَّخافَةِ، وإذا لَمْ يُوجَدْ في العَقْلِ ما يَمْنَعُ مِن رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى وجاءَتِ الأخْبارُ الصَّحِيحَةُ بِإثْباتِ الرُّؤْيَةِ، وجَبَ إجْراؤُها عَلى ظَواهِرِها. أمّا قَوْلُهُ: الزِّيادَةُ يَجِبُ أنْ تَكُونَ مِن جِنْسِ المَزِيدِ عَلَيْهِ. فَنَقُولُ: المَزِيدُ عَلَيْهِ، إذا كانَ مُقَدَّرًا بِمِقْدارٍ مُعَيَّنٍ، وجَبَ أنْ تَكُونَ الزِّيادَةُ عَلَيْهِ مُخالِفَةً لَهُ. مِثالُ الأوَّلِ: قَوْلُ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: أعْطَيْتُكَ عَشَرَةَ أمْدادٍ مِنَ الحِنْطَةِ وزِيادَةً، فَهاهُنا يَجِبُ أنْ تَكُونَ تِلْكَ الزِّيادَةُ مِنَ الحِنْطَةِ. ومِثالُ الثّانِي: قَوْلُهُ: أعْطَيْتُكَ الحِنْطَةَ وزِيادَةً، فَهاهُنا يَجِبُ أنْ تَكُونَ تِلْكَ الزِّيادَةُ غَيْرَ الحِنْطَةِ، والمَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ لَفْظُ ﴿الحُسْنى﴾ وهي الجَنَّةُ، وهي مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ، فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ تِلْكَ الزِّيادَةُ عَلَيْها شَيْئًا مُغايِرًا لِكُلِّ ما في الجَنَّةِ. وأمّا قَوْلُهُ: الخَبَرُ المَذْكُورُ في هَذا البابِ، اشْتَمَلَ عَلى لَفْظِ النَّظَرِ، وعَلى إثْباتِ الوَجْهِ لِلَّهِ تَعالى، وكِلاهُما يُوجِبانِ التَّشْبِيهَ. فَنَقُولُ: هَذا الخَبَرُ أفادَ إثْباتَ الرُّؤْيَةِ، وأفادَ إثْباتَ الجِسْمِيَّةِ. ثُمَّ قامَ الدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، ولَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلى امْتِناعِ رُؤْيَتِهِ، فَوَجَبَ تَرْكُ العَمَلِ بِما قامَ الدَّلِيلُ عَلى فَسادِهِ فَقَطْ، وأيْضًا فَقَدْ بَيَّنّا أنَّ لَفْظَ هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الزِّيادَةَ هي الرُّؤْيَةُ مِن غَيْرِ حاجَةٍ تُنافِي تَقْرِيرَ ذَلِكَ الخَبَرِ، واللَّهُ أعْلَمُ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا شَرَحَ ما يَحْصُلُ لِأهْلِ الجَنَّةِ مِنَ السَّعاداتِ، شَرَحَ بَعْدَ ذَلِكَ الآفاتِ الَّتِي صانَهُمُ اللَّهُ بِفَضْلِهِ عَنْها، فَقالَ: ﴿ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهم قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ﴾ والمَعْنى: لا يَغْشاها قَتَرٌ، وهي غَبَرَةٌ فِيها سَوادٌ ﴿ولا ذِلَّةٌ﴾ ولا أثَرُ هَوانٍ ولا كُسُوفٍ. فالصِّفَةُ الأُولى: هي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ﴾ ﴿تَرْهَقُها قَتَرَةٌ﴾ [عبس: ٤٠، ٤١] . والصِّفَةُ الثّانِيَةُ: هي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ﴾ ﴿عامِلَةٌ ناصِبَةٌ﴾ [الغاشية: ٢، ٣] والغَرَضُ مِن نَفْيِ هاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، نَفْيُ أسْبابِ الخَوْفِ والحُزْنِ والذُّلِّ عَنْهم، لِيُعْلَمَ أنَّ نَعِيمَهُمُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى خالِصٌ غَيْرُ مَشُوبٍ بِالمَكْرُوهاتِ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ ما إذا حَصَلَ غَيَّرَ صَفْحَةَ الوَجْهِ، ويُزِيلُ ما فِيها مِنَ النَّضارَةِ والطَّلاقَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهم خالِدُونَ في الجَنَّةِ لا يَخافُونَ الِانْقِطاعَ. واعْلَمْ أنَّ عُلَماءَ الأُصُولِ قالُوا: الثَّوابُ مَنفَعَةٌ خالِصَةٌ دائِمَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالتَّعْظِيمِ، فَقَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ﴾ [يونس: ٢٥] يَدُلُّ عَلى غايَةِ التَّعْظِيمِ، وقَوْلُهُ: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ﴾ يَدُلُّ عَلى حُصُولِ المَنفَعَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهم قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ﴾ يَدُلُّ عَلى كَوْنِها خالِصَةً، وقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ أصْحابُ الجَنَّةِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ إشارَةٌ إلى كَوْنِها دائِمَةً آمِنَةً مِنَ الِانْقِطاعِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب