الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ في الآيَةِ مَسائِلُ:(p-٦١) المَسْألَةُ الأُولى: في كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ. اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا نَفَّرَ الغافِلِينَ عَنِ المَيْلِ إلى الدُّنْيا بِالمَثَلِ السّابِقِ، رَغَّبَهم في الآخِرَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ. ووَجْهُ التَّرْغِيبِ في الآخِرَةِ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«مَثَلِي ومَثَلُكم شَبَهُ سَيِّدٍ بَنى دارًا ووَضَعَ مائِدَةً وأرْسَلَ داعِيًا، فَمَن أجابَ الدّاعِيَ دَخَلَ الدّارَ وأكَلَ مِنَ المائِدَةِ ورَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ، ومَن لَمْ يُجِبْ لَمْ يَدْخُلْ ولَمْ يَأْكُلْ ولَمْ يَرْضَ عَنْهُ السَّيِّدُ، فاللَّهُ السَّيِّدُ، والدّارُ دارُ الإسْلامِ، والمائِدَةُ الجَنَّةُ، والدّاعِي مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلامُ» “ وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«ما مِن يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ إلّا وبِجَنْبَيْها مَلَكانِ يُنادِيانِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ كُلُّ الخَلائِقِ إلّا الثَّقَلَيْنِ: أيُّها النّاسُ، هَلُمُّوا إلى رَبِّكم، واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ» “ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لا شُبْهَةَ أنَّ المُرادَ مِن دارِ السَّلامِ الجَنَّةُ، إلّا أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في السَّبَبِ الَّذِي لِأجْلِهِ حَصَلَ هَذا الِاسْمُ عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ السَّلامَ هو اللَّهُ تَعالى، والجَنَّةُ دارُهُ. ويَجِبُ عَلَيْنا هاهُنا بَيانُ فائِدَةِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعالى بِالسَّلامِ، وفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّهُ لَمّا كانَ واجِبَ الوُجُودِ لِذاتِهِ فَقَدْ سَلِمَ مِنَ الفَناءِ والتَّغَيُّرِ، وسَلِمَ مِنِ احْتِياجِهِ في ذاتِهِ وصِفاتِهِ إلى الِافْتِقارِ إلى الغَيْرِ، وهَذِهِ الصِّفَةُ لَيْسَتْ إلّا لَهُ سُبْحانَهُ، كَما قالَ: ﴿واللَّهُ الغَنِيُّ وأنْتُمُ الفُقَراءُ﴾ [محمد: ٣٨] وقالَ: ﴿ياأيُّها النّاسُ أنْتُمُ الفُقَراءُ إلى اللَّهِ﴾ [فاطر: ١٥] . وثانِيها: أنَّهُ تَعالى يُوصَفُ بِالسَّلامِ، بِمَعْنى أنَّ الخَلْقَ سَلِمُوا مِن ظُلْمِهِ، قالَ: ﴿وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] ولِأنَّ كُلَّ ما سِواهُ فَهو مُلْكُهُ ومِلْكُهُ، وتَصَرُّفُ الفاعِلِ في مِلْكِ نَفْسِهِ لا يَكُونُ ظُلْمًا. ولِأنَّ الظُّلْمَ إنَّما يَصْدُرُ إمّا عَنِ العاجِزِ أوِ الجاهِلِ أوِ المُحْتاجِ، ولَمّا كانَ الكُلُّ مُحالًا عَلى اللَّهِ تَعالى، كانَ الظُّلْمُ مُحالًا في حَقِّهِ. وثالِثُها: قالَ المُبَرِّدُ: إنَّهُ تَعالى يُوصَفُ بِالسَّلامِ بِمَعْنى أنَّهُ ذُو السَّلامِ؛ أيِ الَّذِي لا يَقْدِرُ عَلى السَّلامِ إلّا هو، والسَّلامُ عِبارَةٌ عَنْ تَخْلِيصِ العاجِزِينَ عَنِ المَكارِهِ والآفاتِ. فالحَقُّ تَعالى هو السّاتِرُ لِعُيُوبِ المَعْيُوبِينَ، وهو المُجِيبُ لِدَعْوَةِ المُضْطَرِّينَ، وهو المُنْتَصِفُ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظّالِمِينَ. قالَ المُبَرِّدُ: وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: السَّلامُ مَصْدَرُ سَلِمَ. القَوْلُ الثّانِي: السَّلامُ جَمْعُ سَلامَةٍ، ومَعْنى دارِ السَّلامِ: الدّارُ الَّتِي مَن دَخَلَها سَلِمَ مِنَ الآفاتِ. فالسَّلامُ هاهُنا بِمَعْنى السَّلامَةِ، كالرَّضاعِ بِمَعْنى الرَّضاعَةِ. فَإنَّ الإنْسانَ هُناكَ سَلِمَ مِن كُلِّ الآفاتِ، كالمَوْتِ والمَرَضِ والألَمِ والمَصائِبِ ونَزَغاتِ الشَّيْطانِ والكُفْرِ والبِدْعَةِ والكَدِّ والتَّعَبِ. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّهُ سُمِّيَتِ الجَنَّةُ بِدارِ السَّلامِ لِأنَّهُ تَعالى يُسَلِّمُ عَلى أهْلِها، قالَ تَعالى: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨] والمَلائِكَةُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ أيْضًا، قالَ تَعالى: ﴿والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ ﴿سَلامٌ عَلَيْكم بِما صَبَرْتُمْ﴾ [الرعد: ٢٣، ٢٤] وهم أيْضًا يُحَيِّي بَعْضُهم بَعْضًا بِالسَّلامِ، قالَ تَعالى: ﴿تَحِيَّتُهم فِيها سَلامٌ﴾ [إبراهيم: ٢٣] وأيْضًا فَسَلامُهم يَصِلُ إلى السُّعَداءِ مِن أهْلِ الدُّنْيا، قالَ تَعالى: ﴿وأمّا إنْ كانَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ﴾ ﴿فَسَلامٌ لَكَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ﴾ [الواقعة: ٩٠، ٩١] . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّ كَمالَ جُودِ اللَّهِ تَعالى وكَمالَ قُدْرَتِهِ وكَمالَ رَحْمَتِهِ بِعِبادِهِ مَعْلُومٌ، فَدَعَوَتُهُ عَبِيدَهُ إلى دارِ السَّلامِ، تَدُلُّ عَلى أنَّ دارَ السَّلامِ قَدْ حَصَلَ فِيها ما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ؛ لِأنَّ العَظِيمَ إذا اسْتَعْظَمَ شَيْئًا ورَغَّبَ فِيهِ وبالَغَ في ذَلِكَ التَّرْغِيبِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى كَمالِ حالِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، لا سِيَّما وقَدْ مَلَأ اللَّهُ هَذا الكِتابَ المُقَدَّسَ مِن وصْفِ الجَنَّةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ وجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾ [الواقعة: ٨٩] ونَحْنُ نَذْكُرُ هاهُنا كَلامًا كُلِّيًّا في تَقْرِيرِ هَذا المَطْلُوبِ، فَنَقُولُ: الإنْسانُ إنَّما يَسْعى في يَوْمِهِ لِغَدِهِ. ولِكُلِّ إنْسانٍ غَدانِ، غَدٌ في الدُّنْيا وغَدٌ في الآخِرَةِ. فَنَقُولُ: غَدُ الآخِرَةِ خَيْرٌ مِن غَدِ الدُّنْيا مِن وُجُوهٍ (p-٦٢)أرْبَعَةٍ: أوَّلُها: أنَّ الإنْسانَ قَدْ لا يُدْرِكُ غَدَ الدُّنْيا وبِالضَّرُورَةِ يُدْرِكُ غَدَ الآخِرَةِ. وثانِيها: أنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يُدْرِكَ غَدَ الدُّنْيا فَلَعَلَّهُ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَنْتَفِعَ بِما جَمَعَهُ، إمّا لِأنَّهُ يَضِيعُ مِنهُ ذَلِكَ المالُ أوْ لِأنَّهُ يَحْصُلُ في بَدَنِهِ مَرَضٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الِانْتِفاعِ بِهِ. أمّا غَدُ الآخِرَةِ فَكُلُّ ما اكْتَسَبَهُ الإنْسانُ لِأجْلِ هَذا اليَوْمِ، فَإنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَنْتَفِعَ بِهِ. وثالِثُها: أنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يَجِدَ غَدَ الدُّنْيا ويَقْدِرَ عَلى أنْ يَنْتَفِعَ بِمالِهِ، إلّا أنَّ تِلْكَ المَنافِعَ مَخْلُوطَةٌ بِالمَضارِّ والمَتاعِبِ؛ لِأنَّ سِعاداتِ الدُّنْيا غَيْرُ خالِصَةٍ عَنِ الآفاتِ، بَلْ هي مَمْزُوجَةٌ بِالبَلِيّاتِ، والِاسْتِقْراءُ يَدُلُّ عَلَيْهِ. ولِذَلِكَ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مَن طَلَبَ ما لَمْ يُخْلَقْ أتْعَبَ نَفْسَهُ ولَمْ يُرْزَقْ“ فَقِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، وما هو ؟ قالَ: ”سُرُورُ يَوْمٍ بِتَمامِهِ» “ وأمّا مَنافِعُ غَدِ الآخِرَةِ فَهي خالِصَةٌ عَنِ الغُمُومِ والهُمُومِ والأحْزانِ، سالِمَةٌ عَنْ كُلِّ المُنَفِّراتِ. ورابِعُها: أنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يَصِلَ الإنْسانُ إلى غَدِ الدُّنْيا ويَنْتَفِعَ بِسَبَبِهِ، وكانَ ذَلِكَ الِانْتِفاعُ خالِيًا عَنْ خَلْطِ الآفاتِ، إلّا أنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا. ومَنافِعُ الآخِرَةِ دائِمَةٌ مُبَرَّأةٌ عَنِ الِانْقِطاعِ، فَثَبَتَ أنَّ سَعاداتِ الدُّنْيا مَشُوبَةٌ بِهَذِهِ العُيُوبِ الأرْبَعَةِ، وأنَّ سَعاداتِ الآخِرَةِ سالِمَةٌ عَنْها. فَلِهَذا السَّبَبِ كانَتِ الجَنَّةُ دارَ السَّلامِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الكُفْرَ والإيمانَ بِقَضاءِ اللَّهِ تَعالى، قالُوا: إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ دَعا جَمِيعَ الخَلْقِ إلى دارِ السَّلامِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهُ ما هَدى إلّا بَعْضَهم، فَهَذِهِ الهِدايَةُ الخاصَّةُ يَجِبُ أنْ تَكُونَ مُغايِرَةً لِتِلْكَ الدَّعْوَةِ العامَّةِ، ولا شَكَّ أيْضًا أنَّ الإقْدارَ والتَّمْكِينَ وإرْسالَ الرُّسُلِ وإنْزالَ الكُتُبِ أُمُورٌ عامَّةٌ، فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الهِدايَةُ الخاصَّةُ مُغايِرَةً لِكُلِّ هَذِهِ الأشْياءِ، وما ذاكَ إلّا ما ذَكَرْناهُ مِن أنَّهُ تَعالى خَصَّهُ بِالعِلْمِ والمَعْرِفَةِ دُونَ غَيْرِهِ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُشْكِلَةٌ عَلى المُعْتَزِلَةِ وما قَدَرُوا عَلى إيرادِ الأسْئِلَةِ الكَثِيرَةِ، وحاصِلُ ما ذَكَرَهُ القاضِي في وجْهَيْنِ، الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ: ويَهْدِي اللَّهُ مَن يَشاءُ إلى إجابَةِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ، بِمَعْنى أنَّ مَن أجابَ الدُّعاءَ وأطاعَ واتَّقى فَإنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِ إلَيْها. والثّانِي: أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الآيَةِ الألْطافُ. وأجابَ أصْحابُنا عَنْ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ بِحَرْفٍ واحِدٍ، وهو أنَّ عِنْدَهم أنَّهُ يَجِبُ عَلى اللَّهِ فِعْلُ هَذِهِ الهِدايَةِ، وما كانَ واجِبًا لا يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالمَشِيئَةِ، وهَذا مُعَلَّقٌ بِالمَشِيئَةِ، فامْتَنَعَ حَمْلُهُ عَلى ما ذَكَرُوهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب