الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ أهْلَكْنا القُرُونَ مِن قَبْلِكم لَمّا ظَلَمُوا وجاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ وما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ﴾ ﴿ثُمَّ جَعَلْناكم خَلائِفَ في الأرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في بَيانِ كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ. اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْهم أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: ﴿اللَّهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢] ثُمَّ إنَّهُ أجابَ عَنْهُ بِأنْ ذَكَرَ أنَّهُ لا صَلاحَ في إجابَةِ دُعائِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهم كاذِبُونَ في هَذا الطَّلَبِ لِأنَّهُ لَوْ نَزَلَتْ بِهِمْ آفَةٌ أخَذُوا في التَّضَرُّعِ إلى اللَّهِ تَعالى في إزالَتِها والكَشْفِ لَها، بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ ما يَجْرِي مَجْرى التَّهْدِيدِ، وهو أنَّهُ تَعالى قَدْ يُنْزِلُ بِهِمْ عَذابَ الِاسْتِئْصالِ ولا يُزِيلُهُ عَنْهم، والغَرَضُ مِنهُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ رادِعًا لَهم عَنْ قَوْلِهِمْ: إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ؛ لِأنَّهم مَتى سَمِعُوا أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ يُجِيبُ دُعاءَهم ويُنْزِلُ عَلَيْهِمْ عَذابَ الِاسْتِئْصالِ، ثُمَّ سَمِعُوا مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى أنَّ ذَلِكَ قَدْ وقَعَ مِرارًا كَثِيرَةً، صارَ ذَلِكَ رادِعًا لَهم وزاجِرًا عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ الكَلامِ، فَهَذا وجْهٌ حَسَنٌ مَقْبُولٌ في كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ﴿لَمّا﴾ ظَرْفٌ لِـ ﴿أهْلَكْنا﴾ والواوُ في قَوْلِهِ: ﴿وجاءَتْهُمْ﴾ لِلْحالِ، أيْ: ظَلَمُوا بِالتَّكْذِيبِ. وقَدْ جاءَتْهم رُسُلُهم بِالدَّلائِلِ والشَّواهِدِ عَلى صِدْقِهِمْ وهي المُعْجِزاتُ، وقَوْلُهُ: ﴿وما كانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى ﴿ظَلَمُوا﴾ وأنْ يَكُونَ اعْتِراضًا، واللّامُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وأنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ مِنهم أنَّهم يُصِرُّونَ عَلى الكُفْرِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما أهْلَكَهم لِأجْلِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، فَكَذَلِكَ يَجْزِي كُلَّ مُجْرِمٍ، وهو وعِيدٌ لِأهْلِ مَكَّةَ عَلى تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ، وقُرِئَ (يَجْزِي) بِالياءِ، وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ جَعَلْناكم خَلائِفَ﴾ الخِطابُ لِلَّذِينِ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أيْ: اسْتَخْلَفْناكم في الأرْضِ بَعْدَ القُرُونِ الَّتِي أهْلَكْناهم، لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، خَيْرًا أوْ شَرًّا، فَنُعامِلُكم عَلى حَسَبِ عَمَلِكم. بَقِيَ في الآيَةِ سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: كَيْفَ جازَ النَّظَرُ إلى اللَّهِ تَعالى وفِيهِ مَعْنى المُقابَلَةِ ؟ والجَوابُ: أنَّهُ اسْتُعِيرَ لَفْظُ النَّظَرِ لِلْعِلْمِ الحَقِيقِيِّ الَّذِي لا يَتَطَرَّقُ الشَّكُّ إلَيْهِ، وشُبِّهَ هَذا العِلْمُ بِنَظَرِ النّاظِرِ وعِيانِ المُعايِنِ. السُّؤالُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ جَعَلْناكم خَلائِفَ في الأرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ مُشْعِرٌ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى ما كانَ عالِمًا بِأحْوالِهِمْ قَبْلَ وُجُودِهِمْ. والجَوابُ: المُرادُ مِنهُ أنَّهُ تَعالى يُعامِلُ العِبادَ مُعامَلَةَ مَن يَطْلُبُ العِلْمَ بِما يَكُونُ مِنهم، لِيُجازِيَهم بِحَسَبِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا﴾ [هود: ٧] وقَدْ مَرَّ نَظائِرُ هَذا. وقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«إنَّ الدُّنْيا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ (p-٤٥)وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكم فِيها فَناظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» “ وقالَ قَتادَةُ: صَدَقَ اللَّهُ رَبُّنا، ما جَعَلَنا خُلَفاءَ إلّا لِيَنْظُرَ إلى أعْمالِنا، فَأرُوا اللَّهَ مِن أعْمالِكم خَيْرًا، بِاللَّيْلِ والنَّهارِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الزَّجّاجُ: مَوْضِعُ (كَيْفَ) نَصْبٌ بِقَوْلِهِ: (تَعْمَلُونَ) لِأنَّها حَرْفُ اسْتِفْهامٍ، والِاسْتِفْهامُ لا يَعْمَلُ فِيهِ ما قَبْلَهُ، ولَوْ قُلْتَ: لِنَنْظُرَ خَيْرًا تَعْمَلُونَ أمْ شَرًّا، كانَ العامِلُ في (خَيْرٍ وشَرٍّ) (تَعْمَلُونَ) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب