الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا مَسَّ الإنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أوْ قاعِدًا أوْ قائِمًا فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأنْ لَمْ يَدْعُنا إلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وجْهانِ، الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ في الآيَةِ الأُولى أنَّهُ لَوْ أنْزَلَ العَذابَ عَلى العَبْدِ في الدُّنْيا لَهَلَكَ ولَقُضِيَ عَلَيْهِ، فَبَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى غايَةِ ضَعْفِهِ ونِهايَةِ عَجْزِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِما ذَكَرَهُ مِن أنَّهُ لَوْ أنْزَلَ عَلَيْهِ العَذابَ لَماتَ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم يَسْتَعْجِلُونَ في نُزُولِ العَذابِ، ثُمَّ بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهم كاذِبُونَ في ذَلِكَ الطَّلَبِ والِاسْتِعْجالِ؛ لِأنَّهُ لَوْ نَزَلَ بِالإنْسانِ أدْنى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ ويُؤْذِيهِ، فَإنَّهُ يَتَضَرَّعُ إلى اللَّهِ تَعالى في إزالَتِهِ عَنْهُ وفي دَفْعِهِ عَنْهُ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ صادِقًا في هَذا الطَّلَبِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآيَةِ بَيانُ أنَّ الإنْسانَ قَلِيلُ الصَّبْرِ عِنْدَ نُزُولِ البَلاءِ، قَلِيلُ الشُّكْرِ عِنْدَ وِجْدانِ النَّعْماءِ والآلاءِ، فَإذا مَسَّهُ الضُّرُّ أقْبَلَ عَلى التَّضَرُّعِ والدُّعاءِ مُضْطَجِعًا أوْ قائِمًا أوْ قاعِدًا، مُجْتَهِدًا في ذَلِكَ الدُّعاءِ، طالِبًا مِنَ اللَّهِ تَعالى إزالَةَ تِلْكَ المِحْنَةِ وتَبْدِيلَها بِالنِّعْمَةِ والمِنحَةِ، فَإذا كَشَفَ تَعالى عَنْهُ ذَلِكَ بِالعافِيَةِ أعْرَضَ عَنِ الشُّكْرِ، ولَمْ يَتَذَكَّرْ ذَلِكَ الضُّرَّ ولَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ الإنْعامِ، وصارَ بِمَنزِلَةِ مَن لَمْ يَدْعُ اللَّهَ تَعالى لِكَشْفِ ضُرِّهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى ضَعْفِ طَبِيعَةِ الإنْسانِ وشِدَّةِ اسْتِيلاءِ الغَفْلَةِ والشَّهْوَةِ عَلَيْهِ، وإنَّما ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مَذْمُومَةٌ، بَلِ الواجِبُ عَلى الإنْسانِ العاقِلِ أنْ يَكُونَ صابِرًا عِنْدَ نُزُولِ البَلاءِ، شاكِرًا عِنْدَ الفَوْزِ بِالنَّعْماءِ، ومِن شَأْنِهِ أنْ يَكُونَ كَثِيرَ الدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ في أوْقاتِ الرّاحَةِ والرَّفاهِيَةِ، حَتّى يَكُونَ مُجابَ الدَّعْوَةِ في وقْتِ المِحْنَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«مَن سَرَّهُ أنْ يُسْتَجابَ لَهُ عِنْدَ الكَرْبِ والشَّدائِدِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعاءَ عِنْدَ الرَّخاءِ» “ . واعْلَمْ أنَّ المُؤْمِنَ إذا ابْتُلِيَ بِبَلِيَّةٍ ومِحْنَةٍ وجَبَ عَلَيْهِ رِعايَةُ أُمُورٍ، فَأوَّلُها: أنْ يَكُونَ راضِيًا بِقَضاءِ اللَّهِ تَعالى غَيْرَ مُعْتَرِضٍ بِالقَلْبِ واللِّسانِ عَلَيْهِ. وإنَّما وجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى مالِكٌ عَلى الإطْلاقِ ومَلِكٌ بِالِاسْتِحْقاقِ. فَلَهُ أنْ يَفْعَلَ في مُلْكِهِ ومِلْكِهِ ما شاءَ كَما يَشاءُ، ولِأنَّهُ تَعالى حَكِيمٌ عَلى الإطْلاقِ وهو مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الباطِلِ والعَبَثِ، فَكُلُّ ما فَعَلَهُ فَهو حِكْمَةٌ وصَوابٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ أنَّهُ تَعالى إنْ أبْقى عَلَيْهِ تِلْكَ المِحْنَةَ فَهو عَدْلٌ، وإنْ أزالَها عَنْهُ فَهو فَضْلٌ، وحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ والسُّكُوتُ وتَرْكُ القَلَقِ والِاضْطِرابِ. وثانِيها: أنَّهُ في ذَلِكَ الوَقْتِ إنِ اشْتَغَلَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى والثَّناءِ عَلَيْهِ بَدَلًا عَنِ الدُّعاءِ كانَ أفْضَلَ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ حِكايَةً عَنْ رَبِّ العِزَّةِ ”«مَن شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتِي أعْطَيْتُهُ أفْضَلَ ما أُعْطِي السّائِلِينَ» “ ولِأنَّ الِاشْتِغالَ (p-٤٢)بِالذِّكْرِ اشْتِغالٌ بِالحَقِّ، والِاشْتِغالَ بِالدُّعاءِ اشْتِغالٌ بِطَلَبِ حَظِّ النَّفْسِ، ولا شَكَّ أنَّ الأوَّلَ أفْضَلُ، ثُمَّ إنِ اشْتَغَلَ بِالدُّعاءِ وجَبَ أنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ أنْ يَكُونَ إزالَتُهُ صَلاحًا في الدِّينِ، وبِالجُمْلَةِ فَإنَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ الدِّينُ راجِحًا عِنْدَهُ عَلى الدُّنْيا. وثالِثُها: أنَّهُ سُبْحانَهُ إذا أزالَ عَنْهُ تِلْكَ البَلِيَّةَ فَإنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يُبالِغَ في الشُّكْرِ، وأنْ لا يَخْلُوَ عَنْ ذَلِكَ الشُّكْرِ في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، وأحْوالِ الشِّدَّةِ والرَّخاءِ، فَهَذا هو الطَّرِيقُ الصَّحِيحُ عِنْدَ نُزُولِ البَلاءِ. وهاهُنا مَقامٌ آخَرُ أعْلى وأفْضَلُ مِمّا ذَكَرْناهُ، وهو أنَّ أهْلَ التَّحْقِيقِ قالُوا: إنَّ مَن كانَ في وقْتِ وِجْدانِ النِّعْمَةِ مَشْغُولًا بِالنِّعْمَةِ لا بِالمُنْعِمِ كانَ عِنْدَ البَلِيَّةِ مَشْغُولًا بِالبَلاءِ لا بِالمُبْلِي، ومِثْلُ هَذا الشَّخْصِ يَكُونُ أبَدًا في البَلاءِ، أمّا في وقْتِ البَلاءِ فَلا شَكَّ أنَّهُ يَكُونُ في البَلاءِ، وأمّا في وقْتِ حُصُولِ النَّعْماءِ فَإنَّ خَوْفَهُ مِن زَوالِها يَكُونُ أشَدَّ أنْواعِ البَلاءِ، فَإنَّ النِّعْمَةَ كُلَّما كانَتْ أكْمَلَ وألَذَّ وأقْوى وأفْضَلَ كانَ خَوْفُ زَوالِها أشَدَّ إيذاءً وأقْوى إيحاشًا، فَثَبَتَ أنَّ مَن كانَ مَشْغُولًا بِالنِّعْمَةِ كانَ أبَدًا في لُجَّةِ البَلِيَّةِ. أمّا مَن كانَ في وقْتِ النِّعْمَةِ مَشْغُولًا بِالمُنْعِمِ، لَزِمَ أنْ يَكُونَ في وقْتِ البَلاءِ مَشْغُولًا بِالمُبْلِي، وإذا كانَ المُنْعِمُ والمُبْلِي واحِدًا كانَ نَظَرُهُ أبَدًا عَلى مَطْلُوبٍ واحِدٍ، وكانَ مَطْلُوبُهُ مُنَزَّهًا عَنِ التَّغَيُّرِ مُقَدَّسًا عَنِ التَّبَدُّلِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ كانَ في وقْتِ البَلاءِ وفي وقْتِ النَّعْماءِ غَرِقًا في بَحْرِ السَّعاداتِ، واصِلًا إلى أقْصى الكَمالاتِ، وهَذا النَّوْعُ مِنَ البَيانِ بَحْرٌ لا ساحِلَ لَهُ، ومَن أرادَ أنْ يَصِلَ إلَيْهِ فَلْيَكُنْ مِنَ الواصِلِينَ إلى العَيْنِ دُونَ السّامِعِينَ لِلْأثَرِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في (الإنْسانَ) في قَوْلِهِ: ﴿وإذا مَسَّ الإنْسانَ الضُّرُّ﴾ فَقالَ بَعْضُهم: إنَّهُ الكافِرُ، ومِنهم مَن بالَغَ وقالَ: كُلُّ مَوْضِعٍ في القُرْآنِ ورَدَ فِيهِ ذِكْرُ الإنْسانِ فالمُرادُ هو الكافِرُ، وهَذا باطِلٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ياأيُّها الإنْسانُ إنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ ﴿فَأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ [الانشقاق: ٦ - ٧] لا شُبْهَةَ في أنَّ المُؤْمِنَ داخِلٌ فِيهِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ [الدهر: ١] وقَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] وقَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ ونَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق: ١٦] فالَّذِي قالُوهُ بَعِيدٌ، بَلِ الحَقُّ أنْ نَقُولَ: اللَّفْظُ المُفْرَدُ المُحَلّى بِالألِفِ واللّامِ حُكْمُهُ أنَّهُ إذا حَصَلَ هُناكَ مَعْهُودٌ سابِقٌ انْصَرَفَ إلَيْهِ، وإنْ لَمْ يَحْصُلْ هُناكَ مَعْهُودٌ سابِقٌ وجَبَ حَمْلُهُ عَلى الِاسْتِغْراقِ صَوْنًا لَهُ عَنِ الإجْمالِ والتَّعْطِيلِ. ولَفْظُ (الإنْسانَ) هاهُنا لائِقٌ بِالكافِرِ؛ لِأنَّ العَمَلَ المَذْكُورَ لا يَلِيقُ بِالمُسْلِمِ البَتَّةَ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿دَعانا لِجَنْبِهِ أوْ قاعِدًا أوْ قائِمًا﴾ وجْهانِ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنهُ ذِكْرُ أحْوالِ الدُّعاءِ فَقَوْلُهُ: ﴿لِجَنْبِهِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ بِدَلِيلِ عَطْفِ الحالَيْنِ عَلَيْهِ، والتَّقْدِيرُ: دَعانا مُضْطَجِعًا أوْ قاعِدًا أوْ قائِمًا. فَإنْ قالُوا: فَما فائِدَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الأحْوالِ ؟ قُلْنا: مَعْناهُ: إنَّ المَضْرُورَ لا يَزالُ داعِيًا لا يَفْتُرُ عَنِ الدُّعاءِ إلى أنْ يَزُولَ عَنْهُ الضُّرُّ، سَواءٌ كانَ مُضْطَجِعًا أوْ قاعِدًا أوْ قائِمًا. والوَجْهُ الثّانِي: أنْ تَكُونَ هَذِهِ الأحْوالُ الثَّلاثَةُ تَعْدِيدًا لِأحْوالِ الضُّرِّ، والتَّقْدِيرُ: وإذا مَسَّ الإنْسانَ الضُّرُّ لِجَنْبِهِ أوْ قاعِدًا أوْ قائِمًا دَعانا، وهو قَوْلُ الزَّجّاجِ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لِأنَّ ذِكْرَ الدُّعاءِ أقْرَبُ إلى هَذِهِ الأحْوالِ مِن ذِكْرِ الضُّرِّ، ولِأنَّ القَوْلَ بِأنَّ هَذِهِ الأحْوالَ أحْوالٌ لِلدُّعاءِ يَقْتَضِي مُبالَغَةَ الإنْسانِ في الدُّعاءِ، ثُمَّ إذا تَرَكَ الدُّعاءَ بِالكُلِّيَّةِ وأعْرَضَ عَنْهُ كانَ ذَلِكَ أعْجَبَ. (p-٤٣) المَسْألَةُ الخامِسَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿مَرَّ﴾ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: المُرادُ مِنهُ أنَّهُ مَضى عَلى طَرِيقَتِهِ الأُولى قَبْلَ مَسِّ الضُّرِّ ونَسِيَ حالَ الجُهْدِ. الثّانِي: مَرَّ عَنْ مَوْقِفِ الِابْتِهالِ والتَّضَرُّعِ لا يَرْجِعُ إلَيْهِ، كَأنَّهُ لا عَهْدَ لَهُ بِهِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَأنْ لَمْ يَدْعُنا إلى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾ تَقْدِيرُهُ: كَأنَّهُ لَمْ يَدْعُنا، ثُمَّ أسْقَطَ الضَّمِيرَ عَنْهُ عَلى سَبِيلِ التَّخْفِيفِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا﴾ [يونس: ٤٥] قالَ الحَسَنُ: نَسِيَ ما دَعا اللَّهَ فِيهِ، وما صَنَعَ اللَّهُ بِهِ في إزالَةِ ذَلِكَ البَلاءِ عَنْهُ: المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قالَ صاحِبُ ”النَّظْمِ“: قَوْلُهُ: ﴿وإذا مَسَّ الإنْسانَ﴾ (إذا) مَوْضُوعَةٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ، ثُمَّ قالَ: ﴿فَلَمّا كَشَفْنا﴾ وهَذا لِلْماضِي، فَهَذا النَّظْمُ يَدُلُّ عَلى أنَّ مَعْنى الآيَةِ أنَّهُ هَكَذا كانَ فِيما مَضى، وهَكَذا يَكُونُ في المُسْتَقْبَلِ. فَدَلَّ ما في الآيَةِ مِنَ الفِعْلِ المُسْتَقْبَلِ عَلى ما فِيهِ مِنَ المَعْنى المُسْتَقْبَلِ، وما فِيهِ مِنَ الفِعْلِ الماضِي عَلى ما فِيهِ مِنَ المَعْنى الماضِي، وأقُولُ: البُرْهانُ العَقْلِيُّ مُساعِدٌ عَلى هَذا المَعْنى، وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ جُبِلَ عَلى الضَّعْفِ والعَجْزِ وقِلَّةِ الصَّبْرِ، وجُبِلَ أيْضًا عَلى الغُرُورِ والبَطَرِ والنِّسْيانِ والتَّمَرُّدِ والعُتُوِّ، فَإذا نَزَلَ بِهِ البَلاءُ حَمَلَهُ ضَعْفُهُ وعَجْزُهُ عَلى كَثْرَةِ الدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ، وإظْهارِ الخُضُوعِ والِانْقِيادِ، وإذا زالَ البَلاءُ ووَقَعَ في الرّاحَةِ اسْتَوْلى عَلَيْهِ النِّسْيانُ فَنَسِيَ إحْسانَ اللَّهِ تَعالى إلَيْهِ، ووَقَعَ في البَغْيِ والطُّغْيانِ والجُحُودِ والكُفْرانِ. فَهَذِهِ الأحْوالُ مِن نَتائِجِ طَبِيعَتِهِ ولَوازِمِ خِلْقَتِهِ، وبِالجُمْلَةِ فَهَؤُلاءِ المَساكِينُ مَعْذُورُونَ ولا عُذْرَ لَهم. المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ هَذا المُزَيِّنَ هو اللَّهُ تَعالى أوِ النَّفْسُ أوِ الشَّيْطانُ، فَرْعٌ عَلى مَسْألَةِ الجَبْرِ والقَدْرِ وهو مَعْلُومٌ. البَحْثُ الثّانِي: في بَيانِ السَّبَبِ الَّذِي لِأجْلِهِ سَمّى اللَّهُ سُبْحانَهُ الكافِرَ مُسْرِفًا. وفِيهِ وُجُوهٌ: الوَجْهُ الأوَّلُ: قالَ أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ: الكافِرُ مُسْرِفٌ في نَفْسِهِ وفي مالِهِ ومُضَيِّعٌ لَهُما؛ أمّا في النَّفْسِ فَلِأنَّهُ جَعَلَها عَبْدًا لِلْوَثَنِ، وأمّا في المالِ فَلِأنَّهم كانُوا يُضَيِّعُونَ أمْوالَهم في البَحِيرَةِ والسّائِبَةِ والوَصِيلَةِ والِحامِ. الوَجْهُ الثّانِي: قالَ القاضِي: إنَّ مَن كانَتْ عادَتُهُ أنْ يَكُونَ عِنْدَ نُزُولِ البَلاءِ كَثِيرَ التَّضَرُّعِ والدُّعاءِ، وعِنْدَ زَوالِ البَلاءِ ونُزُولِ الآلاءِ مُعْرِضًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مُتَغافِلًا عَنْهُ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ بِشُكْرِهِ، كانَ مُسْرِفًا في أمْرِ دِينِهِ مُتَجاوِزًا لِلْحَدِّ في الغَفْلَةِ عَنْهُ، ولا شُبْهَةَ في أنَّ المَرْءَ كَما يَكُونُ مُسْرِفًا في الإنْفاقِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُسْرِفًا فِيما يَتْرُكُهُ مِن واجِبٍ أوْ يُقْدِمُ عَلَيْهِ مِن قَبِيحٍ، إذا تَجاوَزَ الحَدَّ فِيهِ. الوَجْهُ الثّالِثُ: وهو الَّذِي خَطَرَ بِالبالِ في هَذا الوَقْتِ، أنَّ المُسْرِفَ هو الَّذِي يُنْفِقُ المالَ الكَثِيرَ لِأجْلِ الغَرَضِ الخَسِيسِ، ومَعْلُومٌ أنَّ لَذّاتِ الدُّنْيا وطَيِّباتِها خَسِيسَةٌ جِدًّا في مُقابَلَةِ سَعاداتِ الدّارِ الآخِرَةِ. واللَّهُ تَعالى أعْطاهُ الحَواسَّ والعَقْلَ والفَهْمَ والقُدْرَةَ لِاكْتِسابِ تِلْكَ السَّعاداتِ العَظِيمَةِ، فَمَن بَذَلَ هَذِهِ الآلاتِ الشَّرِيفَةَ لِأجْلِ أنْ يَفُوزَ بِهَذِهِ السَّعاداتِ الجُسْمانِيَّةِ الخَسِيسَةِ، كانَ قَدْ أنْفَقَ أشْياءَ عَظِيمَةً كَثِيرَةً لِأجْلِ أنْ يَفُوزَ بِأشْياءَ حَقِيرَةٍ خَسِيسَةٍ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مِنَ المُسْرِفِينَ. البَحْثُ الثّالِثُ: الكافُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ﴾ لِلتَّشْبِيهِ. والمَعْنى: كَما زُيِّنَ لِهَذا الكافِرِ هَذا العَمَلُ القَبِيحُ المُنْكَرُ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الإعْراضِ عَنِ الذِّكْرِ ومُتابَعَةِ الشَّهَواتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب