الباحث القرآني

الفَصْلُ السّابِعُ فِي قَوْلِهِ ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾، وفِيهِ فَوائِدُ الفائِدَةُ الأُولى: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: المُصَلِّي لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا، وكُلُّ مُؤْمِنٍ مُهْتَدٍ، فالمُصَلِّي مُهْتَدٍ، فَإذا قالَ اهْدِنا كانَ جارِيًا مَجْرى أنَّ مَن حَصَلَتْ لَهُ الهِدايَةُ فَإنَّهُ يَطْلُبُ الهِدايَةَ فَكانَ هَذا طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الحاصِلِ، وإنَّهُ مُحالٌ، والعُلَماءُ أجابُوا عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: المُرادُ مِنهُ صِراطُ الأوَّلِينَ في تَحَمُّلِ المَشاقِ العَظِيمَةِ لِأجْلِ مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى. يُحْكى أنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُضْرَبُ في كُلِّ يَوْمٍ كَذا مَرّاتٍ بِحَيْثُ يُغْشى عَلَيْهِ، وكانَ يَقُولُ في كُلِّ مَرَّةٍ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهم لا يَعْلَمُونَ» . فَإنْ قِيلَ: إنَّ رَسُولَنا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما قالَ ذَلِكَ إلّا مَرَّةً واحِدَةً، وهو كانَ يَقُولُ كُلَّ يَوْمٍ مَرّاتٍ فَلَزِمَ أنْ يُقالَ: إنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ أفْضَلَ مِنهُ، والجَوابُ: لَمّا كانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ طَلَبَ تِلْكَ الأخْلاقِ الفاضِلَةِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، والرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَقْرَأُ الفاتِحَةَ في كُلِّ يَوْمٍ كَذا مَرَّةٍ كانَ تَكَلُّمُ الرَّسُولِ ﷺ بِهَذِهِ الكَلِمَةِ أكْثَرَ مِن تَكَلُّمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ بِها. الوَجْهُ الثّانِي في الجَوابِ: أنَّ العُلَماءَ بَيَّنُوا أنَّ في كُلِّ خُلُقٍ مِنَ الأخْلاقِ طَرَفَيْ تَفْرِيطٍ وإفْراطٍ، وهُما مَذْمُومانِ، والحَقُّ هو الوَسَطُ، ويَتَأكَّدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] وذَلِكَ الوَسَطُ هو العَدْلُ والصَّوابُ، فالمُؤْمِنُ بَعْدَ أنْ عَرَفَ اللَّهَ بِالدَّلِيلِ صارَ مُؤْمِنًا مُهْتَدِيًا، أمّا بَعْدَ حُصُولِ هَذِهِ (p-٢٠٦)الحالَةِ فَلا بُدَّ مِن مَعْرِفَةِ العَدْلِ الَّذِي هو الخَطُّ المُتَوَسِّطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ في الأعْمالِ الشَّهْوانِيَّةِ وفي الأعْمالِ الغَضَبِيَّةِ وفي كَيْفِيَّةِ إنْفاقِ المالِ، فالمُؤْمِنُ يَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَهْدِيَهُ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ الَّذِي هو الوَسَطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ في كُلِّ الأخْلاقِ وفي كُلِّ الأعْمالِ، وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ فالسُّؤالُ زائِلٌ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ المُؤْمِنَ إذا عَرَفَ اللَّهَ بِدَلِيلٍ واحِدٍ فَلا مَوْجُودَ مِن أقْسامِ المُمْكِناتِ إلّا وفِيهِ دَلائِلُ عَلى وُجُودِ اللَّهِ وعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ وجُودِهِ ورَحْمَتِهِ وحِكْمَتِهِ. ورُبَّما صَحَّ دِينُ الإنْسانِ بِالدَّلِيلِ الواحِدِ وبَقِيَ غافِلًا عَنْ سائِرِ الدَّلائِلِ، فَقَوْلُهُ ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ مَعْناهُ عَرِّفْنا يا إلَهَنا ما في كُلِّ شَيْءٍ مِن كَيْفِيَّةِ دَلالَتِهِ عَلى ذاتِكَ وصِفاتِكَ وقُدْرَتِكَ وعِلْمِكَ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالسُّؤالُ زائِلٌ. الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ﴿صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ [الشورى: ٥٢ - ٥٣] وقالَ أيْضًا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: ١٥٣] وذَلِكَ الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ هو أنْ يَكُونَ الإنْسانُ مُعْرِضًا عَمّا سِوى اللَّهِ مُقْبِلًا بِكُلِّيَّةِ قَلْبِهِ وفِكْرِهِ وذِكْرِهِ عَلى اللَّهِ، فَقَوْلُهُ ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ المُرادُ أنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ المَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ المَذْكُورَةِ، مِثالُهُ: أنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ لَوْ أُمِرَ بِذَبْحِ ولَدِهِ لَأطاعَ كَما فَعَلَهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولَوْ أُمِرَ بِأنْ يَنْقادَ لِيَذْبَحَهُ غَيْرُهُ لَأطاعَ كَما فَعَلَهُ إسْماعِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ ولَوْ أُمِرَ بِأنْ يَرْمِيَ نَفْسَهُ في البَحْرِ لَأطاعَ كَما فَعَلَهُ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولَوْ أُمِرَ بِأنْ يَتَّلْمَذَ لِمَن هو أعْلَمُ مِنهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ في المَنصِبِ إلى أعْلى الغاياتِ لَأطاعَ كَما فَعَلَهُ مُوسى مَعَ الخَضِرِ عَلَيْهِما السَّلامُ، ولَوْ أُمِرَ بِأنْ يَصْبِرَ في الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ عَلى القَتْلِ والتَّفْرِيقِ نِصْفَيْنِ لَأطاعَ كَما فَعَلَهُ يَحْيى وزَكَرِيّا عَلَيْهِما السَّلامُ، فالمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ هو الِاقْتِداءُ بِأنْبِياءِ اللَّهِ في الصَّبْرِ عَلى الشَّدائِدِ والثَّباتِ عِنْدَ نُزُولِ البَلاءِ، ولا شَكَّ أنَّ هَذا مَقامٌ شَدِيدٌ هائِلٌ؛ لِأنَّ أكْثَرَ الخَلْقِ لا طاقَةَ لَهم بِهِ، إلّا أنّا نَقُولُ: أيُّها النّاسُ، لا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا، فَإنَّهُ لا يَضِيقُ أمْرٌ في دِينِ اللَّهِ إلّا اتَّسَعَ؛ لِأنَّ في هَذِهِ الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى اليُسْرِ والسُّهُولَةِ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمْ يَقُلْ صِراطَ الَّذِينَ ضَرَبُوا وقَتَلُوا بَلْ قالَ: ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ فَلْتَكُنْ نِيَّتُكَ عِنْدَ قِراءَةِ هَذِهِ الآيَةِ أنْ تَقُولَ: يا إلَهِي، إنَّ والِدِي رَأيْتُهُ ارْتَكَبَ الكَبائِرَ كَما ارْتَكَبْتُها، وأقْدَمَ عَلى المَعاصِي كَما أقْدَمْتُ عَلَيْها، ثُمَّ رَأيْتُهُ لَمّا قَرُبَ مَوْتُهُ تابَ وأنابَ فَحَكَمْتَ لَهُ بِالنَّجاةِ مِنَ النّارِ والفَوْزِ بِالجَنَّةِ فَهو مِمَّنْ أنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِأنْ وفَّقْتَهُ لِلتَّوْبَةِ، ثُمَّ أنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِأنْ قَبِلْتَ تَوْبَتَهُ، فَأنا أقُولُ: اهْدِنا إلى مِثْلِ ذَلِكَ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ طَلَبًا لِمَرْتَبَةِ التّائِبِينَ، فَإذا وجَدْتَها فاطْلُبِ الِاقْتِداءَ بِدَرَجاتِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَهَذا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ . الوَجْهُ الخامِسُ: كَأنَّ الإنْسانَ يَقُولُ في الطَّرِيقِ: كَثْرَةُ الأحْبابِ يَجُرُّونَنِي إلى طَرِيقٍ، والأعْداءُ إلى طَرِيقٍ ثانٍ، والشَّيْطانُ إلى طَرِيقٍ ثالِثٍ، وكَذا القَوْلُ في الشَّهْوَةِ والغَضَبِ والحِقْدِ والحَسَدِ، وكَذا القَوْلُ في التَّعْطِيلِ والتَّشْبِيهِ والجَبْرِ والقَدَرِ والإرْجاءِ والوَعِيدِ والرَّفْضِ والخُرُوجِ، والعَقْلُ ضَعِيفٌ، والعُمْرُ قَصِيرٌ، والصِّناعَةُ طَوِيلَةٌ، والتَّجْرِبَةُ خَطِرَةٌ، والقَضاءُ عَسِيرٌ، وقَدْ تَحَيَّرْتُ في الكُلِّ فاهْدِنِي إلى طَرِيقٍ أخْرُجُ مِنهُ إلى الجَنَّةِ. والمُسْتَقِيمُ: السَّوِيُّ الَّذِي لا غِلَظَ فِيهِ. يُحْكى عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ أدْهَمَ أنَّهُ كانَ يَسِيرُ إلى بَيْتِ اللَّهِ، فَإذا أعْرابِيٌّ عَلى ناقَةٍ لَهُ فَقالَ: يا شَيْخُ إلى (p-٢٠٧)أيْنَ ؟ فَقالَ إبْراهِيمُ: إلى بَيْتِ اللَّهِ، قالَ كَأنَّكَ مَجْنُونٌ لا أرى لَكَ مَرْكَبًا ولا زادًا، والسَّفَرُ طَوِيلٌ، فَقالَ إبْراهِيمُ: إنَّ لِي مَراكِبَ كَثِيرَةً ولَكِنَّكَ لا تَراها، قالَ: وما هي ؟ قالَ: إذا نَزَلَتْ عَلَيَّ بَلِيَّةٌ رَكِبْتُ مَرْكَبَ الصَّبْرِ، وإذا نَزَلَ عَلَيَّ نِعْمَةٌ رَكِبْتُ مَرْكَبَ الشُّكْرِ، وإذا نَزَلَ بِيَ القَضاءُ رَكِبْتُ مَرْكَبَ الرِّضا، وإذا دَعَتْنِي النَّفْسُ إلى شَيْءٍ عَلِمْتُ أنَّ ما بَقِيَ مِنَ العُمُرِ أقَلُّ مِمّا مَضى، فَقالَ الأعْرابِيُّ: سِرْ بِإذْنِ اللَّهِ فَأنْتَ الرّاكِبُ وأنا الرّاجِلُ. الوَجْهُ السّادِسُ: قالَ بَعْضُهم: الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ: الإسْلامُ، وقالَ بَعْضُهم: القُرْآنُ، وهَذا لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بَدَلٌ مِنَ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ التَّقْدِيرُ: اهْدِنا صِراطَ مَن أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ، ومَن تَقَدَّمَنا مِنَ الأُمَمِ ما كانَ لَهُمُ القُرْآنُ والإسْلامُ، وإذا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أنَّ المُرادَ اهْدِنا صِراطَ المُحِقِّينَ المُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ، وإنَّما قالَ الصِّراطَ ولَمْ يَقُلِ السَّبِيلَ ولا الطَّرِيقَ وإنْ كانَ الكُلُّ واحِدًا لِيَكُونَ لَفْظُ الصِّراطِ مُذَكِّرًا لِصِراطِ جَهَنَّمَ فَيَكُونُ الإنْسانُ عَلى مَزِيدِ خَوْفٍ وخَشْيَةٍ. القَوْلُ الثّانِي في تَفْسِيرِ (اهْدِنا): أيْ ثَبِّتْنا عَلى الهِدايَةِ الَّتِي وهَبْتَها مِنّا، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا﴾ [آل عمران: ٨] أيْ: ثَبِّتْنا عَلى الهِدايَةِ فَكَمْ مِن عالِمٍ وقَعَتْ لَهُ شُبْهَةٌ ضَعِيفَةٌ في خاطِرِهِ فَزاغَ وذَلَّ وانْحَرَفَ عَنِ الدِّينِ القَوِيمِ والمَنهَجِ المُسْتَقِيمِ. الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لِمَ قالَ: اهْدِنا ولَمْ يَقُلْ: اهْدِنِي ؟ والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ أنَّ الدُّعاءَ كُلَّما كانَ أعَمَّ كانَ إلى الإجابَةِ أقْرَبُ. كانَ بَعْضُ العُلَماءِ يَقُولُ لِتَلامِذَتِهِ: إذا قَرَأْتُمْ في خُطْبَةِ السّابِقِ ”ورَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وعَنْ جَماعَةِ المُسْلِمِينَ“ إنْ نَوَيْتَنِي في قَوْلِكَ ”رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ“ فَحَسَنٌ، وإلّا فَلا حَرَجَ، ولَكِنْ إيّاكَ وأنْ تَنْسانِي في قَوْلِكَ ”وعَنْ جَماعَةِ المُسْلِمِينَ“ لِأنَّ قَوْلَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ تَخْصِيصٌ بِالدُّعاءِ فَيَجُوزُ أنْ لا يُقْبَلَ، وأمّا قَوْلُهُ وعَنْ جَماعَةِ المُسْلِمِينَ فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ في المُسْلِمِينَ مَن يَسْتَحِقُّ الإجابَةَ، وإذا أجابَ اللَّهُ الدُّعاءَ في البَعْضِ فَهو أكْرَمُ مِن أنْ يَرُدَّهُ في الباقِي، ولِهَذا السَّبَبِ فَإنَّ السُّنَّةَ إذا أرادَ أنْ يَذْكُرَ دُعاءً أنْ يُصَلِّيَ أوَّلًا عَلى النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ يَدْعُو ثُمَّ يَخْتِمُ الكَلامَ بِالصَّلاةِ عَلى النَّبِيِّ ﷺ ثانِيًا؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى يُجِيبُ الدّاعِيَ في صَلاتِهِ عَلى النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ إذا أُجِيبَ في طَرَفَيْ دُعائِهِ امْتَنَعَ أنْ يُرَدَّ في وسَطِهِ. الثّانِي: قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «ادْعُوا اللَّهَ بِألْسِنَةٍ ما عَصَيْتُمُوهُ بِها، قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ ومَن لَنا بِتِلْكَ الألْسِنَةِ ؟ قالَ يَدْعُو بَعْضُكم لِبَعْضٍ؛ لِأنَّكَ ما عَصَيْتَ بِلَسانِهِ وهو ما عَصى بِلِسانِكَ» . والثّالِثُ: كَأنَّهُ يَقُولُ: أيُّها العَبْدُ، ألَسْتَ قُلْتَ في أوَّلِ السُّورَةِ: الحَمْدُ لِلَّهِ، وما قُلْتَ: أحْمَدُ اللَّهَ فَذَكَرْتَ أوَّلًا حَمْدَ جَمِيعِ الحامِدِينَ فَكَذَلِكَ في وقْتِ الدُّعاءِ أشْرِكْهم فَقُلِ اهْدِنا. الرّابِعُ: كَأنَّ العَبْدَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَكَ يَقُولُ: الجَماعَةُ رَحْمَةٌ، والفُرْقَةُ عَذابٌ، فَلَمّا أرَدْتُ تَحْمِيدَكَ ذَكَرْتُ حَمْدَ الجَمِيعِ فَقُلْتُ الحَمْدُ لِلَّهِ، ولَمّا ذَكَرْتُ العِبادَةَ ذَكَرْتُ عِبادَةَ الجَمِيعِ فَقُلْتُ إيّاكَ نَعْبُدُ، ولَمّا ذَكَرْتُ الِاسْتِعانَةَ ذَكَرْتُ اسْتِعانَةَ الجَمِيعِ فَقُلْتُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ، فَلا جَرَمَ لَمّا طَلَبْتُ الهِدايَةَ طَلَبْتُها لِلْجَمِيعِ فَقُلْتُ اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ، ولَمّا طَلَبْتُ الِاقْتِداءَ بِالصّالِحِينَ طَلَبْتُ الِاقْتِداءَ بِالجَمِيعِ فَقُلْتُ صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، ولَمّا طَلَبْتُ الفِرارَ مِنَ المَرْدُودِينَ فَرَرْتُ مِنَ الكُلِّ فَقُلْتُ: غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ، فَلَمّا لَمْ أُفارِقِ الأنْبِياءَ والصّالِحِينَ في الدُّنْيا فَأرْجُو أنْ لا أُفارِقَهم في القِيامَةِ قالَ تَعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ الآيَةَ [النساء: ٦٩] . (p-٢٠٨)الفائِدَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّ أهْلَ الهَنْدَسَةِ قالُوا: الخَطُّ المُسْتَقِيمُ هو أقْصَرُ خَطٍّ يَصِلُ بَيْنَ نُقْطَتَيْنِ، فالحاصِلُ أنَّ الخَطَّ المُسْتَقِيمَ أقْصَرُ مِن جَمِيعِ الخُطُوطِ المُعْوَجَّةِ، فَكَأنَّ العَبْدَ يَقُولُ: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ لِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ أقْرَبُ الخُطُوطِ وأقْصَرُها، وأنا عاجِزٌ فَلا يَلِيقُ بِضَعْفِي إلّا الطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ. الثّانِي: أنَّ المُسْتَقِيمَ واحِدٌ وما عَداهُ مُعْوَجَّةٌ وبَعْضُها يُشْبِهُ بَعْضًا في الِاعْوِجاجِ فَيَشْتَبِهُ الطَّرِيقُ عَلَيَّ، أمّا المُسْتَقِيمُ فَلا يُشابِهُهُ غَيْرُهُ فَكانَ أبْعَدَ عَنِ الخَوْفِ والآفاتِ وأقْرَبَ إلى الأمانِ. الثّالِثُ: الطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ يُوصِلُ إلى المَقْصُودِ، والمُعْوَجُّ لا يُوصِلُ إلَيْهِ. والرّابِعُ: المُسْتَقِيمُ لا يَتَغَيَّرُ، والمُعْوَجُّ يَتَغَيَّرُ، فَلِهَذِهِ الأسْبابِ سَألَ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب