الباحث القرآني

﴿خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ قالَ الزَجّاجُ: الخَتْمُ: التَغْطِيَةُ، لِأنَّ في الِاسْتِيثاقِ مِنَ الشَيْءِ بِضَرْبِ الخاتَمِ عَلَيْهِ تَغْطِيَةً لَهُ لِئَلّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يَعْقِلُونَ الخَيْرَ. يَعْنِي: إنَّ اللهَ طَبَعَ عَلَيْها، فَجَعَلَها بِحَيْثُ لا يَخْرُجُ مِنها ما فِيها مِنَ الكُفْرِ، ولا يَدْخُلُها ما لَيْسَ فِيها مِنَ الإيمانِ. وحاصِلُ الخَتْمِ والطَبْعِ: خَلْقُ الظُلْمَةِ والضِيقِ في صَدْرِ العَبْدِ عِنْدَنا، فَلا يُؤْمِنُ مادامَتْ تِلْكَ الظُلْمَةُ في قَلْبِهِ، وعِنْدَ المُعْتَزِلَةِ إعْلامٌ مَحْضٌ عَلى القُلُوبِ بِما يُظْهِرُ لِلْمَلائِكَةِ أنَّهم كُفّارٌ، فَيَلْعَنُونَهُمْ، ولا يَدْعُونَ لَهم بِخَيْرٍ. وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ إسْنادَ الخَتْمِ إلى اللهِ تَعالى مَجازٌ، والخاتَمُ في الحَقِيقَةِ الكافِرُ، إلّا أنَّهُ تَعالى لَمّا كانَ هو الَّذِي أقْدَرَهُ ومَكَّنَهُ أسْنَدَ إلَيْهِ الخَتْمَ، كَما يُسْنِدُ الفِعْلَ إلى السَبَبِ، فَيُقالُ: بَنى الأمِيرُ المَدِينَةَ، لِأنَّ لِلْفِعْلِ مُلابَساتٍ شَتّى، يُلابِسُ الفاعِلَ، والمَفْعُولَ بِهِ، والمَصْدَرَ، والزَمانَ، والمَكانَ، والمُسَبِّبَ لَهُ، فَإسْنادُهُ إلى الفاعِلِ حَقِيقَةً، وقَدْ يُسْنِدُ إلى هَذِهِ الأشْياءِ مَجازًا، لَمُضاهاتِها الفاعِلَ في مُلابَسَةِ الفِعْلِ، كَما يُضاهِي الرَجُلُ الأسَدَ في جُرْأتِهِ، فَيُسْتَعارُ لَهُ اسْمُهُ. وهَذا فَرْعُ مَسْألَةِ خَلْقِ الأفْعالِ ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ وحَّدَ السَمْعَ كَما وحَّدَ البَطْنَ في قَوْلِهِ: كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكم تَعَفُّوا، لِأمْنِ اللَبْسِ، ولِأنَّ السَمْعَ مَصْدَرٌ في أصْلِهِ، يُقالُ: سَمِعْتُ الشَيْءَ سَمْعًا وسَماعًا، والمَصْدَرُ (p-٤٦)لا يُجْمَعُ، لِأنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، يَقَعُ عَلى القَلِيلِ والكَثِيرِ، فَلا يُحْتاجُ فِيهِ إلى التَثْنِيَةِ والجَمْعِ، فَلَمَحَ الأصْلَ. وقِيلَ: المُضافُ مَحْذُوفٌ، أيْ: وعَلى مَواضِعِ سَمِعَهم. وقُرِئَ عَلى أسْماعِهِمْ ﴿وَعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ﴾ بِالرَفْعِ خَبَرٌ ومُبْتَدَأٌ. والبَصَرُ: نُورُ العَيْنِ، وهو ما يُبْصِرُ بِهِ الرائِي، كَما أنَّ البَصِيرَةَ: نُورُ القَلْبِ، وهِيَ: ما بِهِ يَسْتَبْصِرُ ويَتَأمَّلُ، وكَأنَّهُما جَوْهَرانِ لَطِيفانِ خَلَقَهُما اللهُ تَعالى، فِيهِما آلَتَيْنِ لِلْإبْصارِ والِاسْتِبْصارِ. والغِشاوَةُ: الغِطاءُ، فَعّالَةٌ، مِن غَشّاهُ: إذا غَطّاهُ. وهَذا البِناءُ لِما يَشْتَمِلُ عَلى الشَيْءِ، كالعِصابَةِ، والعِمامَةِ، والقِلادَةِ. والأسْماعُ داخِلَةٌ في حُكْمِ الخَتْمِ لا في حُكْمِ التَغْشِيَةِ، لِقَوْلِهِ: ﴿وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً﴾ [الجاثِيَةُ: ٢٣] ولِوَقْفِهِمْ عَلى سَمْعِهِمْ دُونَ قُلُوبِهِمْ. ونَصَبَ المُفَضَّلُ وحْدَهُ غِشاوَةً بِإضْمارِ جَعَلَ. وتَكْرِيرُ الجارِّ في قَوْلِهِ: ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ َدَلِيلٌ عَلى شِدَّةِ الخَتْمِ في المَوْضِعَيْنِ. قالَ الشَيْخُ الإمامُ أبُو مَنصُورٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: الكافِرُ لِما لَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ الحَقِّ، ولَمْ يَنْظُرْ في نَفْسِهِ وغَيْرِهِ مِنَ المَخْلُوقاتِ لِيَرى آثارَ الحُدُوثِ، فَيَعْلَمَ أنْ لا بُدَّ لَهُ مِن صانِعٍ، جَعَلَ كَأنَّ عَلى بَصَرِهِ وسَمِعَهُ غِشاوَةً، وإنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَقِيقَةً. وهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ الأسْماعَ عِنْدَهُ داخِلَةٌ في حُكْمِ التَغْشِيَةِ. والآيَةُ حُجَّةٌ لَنا عَلى المُعْتَزِلَةِ في الأصْلَحِ، فَإنَّهُ تَعالى أخْبَرَ أنَّهُ خَتَمَ عَلى قُلُوبِهِمْ، ولا شَكَّ أنَّ تَرْكَ الخَتْمِ أصْلَحُ لَهم ﴿وَلَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ العَذابُ مِثْلَ النَكالِ بِناءً ومَعْنًى، لِأنَّكَ تَقُولُ: أعْذَبَ عَنِ الشَيْءِ: إذا أمْسَكَ عَنْهُ، كَما تَقُولُ: نَكِلَ عَنْهُ. والفَرْقُ بَيْنَ العَظِيمِ والكَبِيرِ، أنَّ العَظِيمَ يُقابِلُ الحَقِيرَ، والكَبِيرَ يُقابِلُ الصَغِيرَ، فَكَأنَّ العَظِيمَ فَوْقَ الكَبِيرِ، كَما أنَّ الحَقِيرَ دُونَ الصَغِيرِ، ويُسْتَعْمَلانِ في الجُثَثِ والأحْداثِ جَمِيعًا، تَقُولُ: رَجُلٌ عَظِيمٌ وكَبِيرٌ، تُرِيدُ: جُثَّتَهُ، أوْ خَطَرَهُ. ومَعْنى التَنْكِيرِ أنَّ عَلى أبْصارِهِمْ نَوْعًا مِنَ التَغْطِيَةِ غَيْرَ ما يَتَعارَفُهُ الناسُ، وهو غِطاءُ التَعامِي عَنْ آياتِ اللهِ، ولَهم مِن بَيْنِ الآلامِ العِظامِ نَوْعٌ عَظِيمٌ مِنَ العَذابِ، لا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إلّا اللهُ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب