الباحث القرآني
وَلَمّا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِما يُثْبِتُ الوَحْدانِيَّةَ، ويُبْطِلُ الإشْراكَ -لِخَلْقِهِمْ أحْياءً قادِرِينَ، وخَلْقِ الأرْضِ الَّتِي هي مَكانُهم ومُسْتَقَرُّهُمْ، وخَلْقِ السَماءِ الَّتِي هي (p-٦٤)كالقُبَّةِ المَضْرُوبَةِ، والخَيْمَةِ المُطْنِبَةِ عَلى هَذا القَرارِ، وما سِواهُ عَزَّ وجَلَّ مِن شَبَهِ عَقْدِ النِكاحِ بَيْنَ المُقْلَةِ والمَظَلَّةِ بِإنْزالِ الماءِ مِنها عَلَيْها، والإخْراجُ بِهِ مِن بَطْنِها أشْباهَ النَسْلِ مِنَ الثِمارِ رِزْقًا لِبَنِي آدَمَ، فَهَذا كُلُّهُ دَلِيلٌ مُوصِلٌ إلى التَوْحِيدِ، مُبْطِلٌ لِلْإشْراكِ، لِأنَّ شَيْئًا مِنَ المَخْلُوقاتِ لا يَقْدِرُ عَلى إيجادِ شَيْءٍ مِنها- عَطَفَ عَلى ذَلِكَ ما هو الحُجَّةُ عَلى إثْباتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وما يُقَرِّرُ إعْجازَ القُرْآنِ، فَقالَ: ﴿وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَـزَّلْنا﴾ الآيَةُ. "ما" نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، أوْ بِمَعْنى الَّذِي ﴿عَلى عَبْدِنا﴾ مُحَمَّدٍ ﷺ، والعَبْدُ: اسْمٌ لِمَمْلُوكٍ مِن جِنْسِ العُقَلاءِ. والمَمْلُوكُ: مَوْجُودٌ قُهِرَ بِالِاسْتِيلاءِ.
وَقِيلَ: نَزَّلْنا دُونَ أنْزَلْنا، لِأنَّ المُرادَ بِهِ النُزُولَ عَلى سَبِيلِ التَدْرِيجِ والتَنْجِيمِ، وهو مِن مَحازِهِ لِمَكانِ التَحَدِّي. وذَلِكَ أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كانَ هَذا مِن عِنْدِ اللهِ لَمْ يَنْزِلْ هَكَذا نُجُومًا سُورَةً بَعْدَ سُورَةٍ، وآياتٍ غِبَّ آياتٍ، عَلى حَسَبِ النَوازِلِ، وعَلى سَنَنِ ما نَرى عَلَيْهِ أهْلَ الخَطابَةِ والشِعْرِ مِن وُجُودِ ما يُوجَدُ مِنهم مُفَرَّقًا حِينًا فَحِينًا شَيْئًا فَشَيْئًا، لا يُلْقِي الناظِمُ دِيوانَ شِعْرِهِ دَفْعَةً، ولا يَرْمِي الناثِرُ بِخُطَبِهِ ضَرْبَةً، فَلَوْ أنْزَلَهُ اللهُ لِأنْزَلَهُ جُمْلَةً. قالَ اللهُ تَعالى: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُـزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً﴾ [الفَرْقانُ: ٣٢] فَقِيلَ: إنِ ارْتَبْتُمْ في هَذا الَّذِي وقَعَ إنْزالُهُ هَكَذا عَلى تَدْرِيجٍ ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ﴾ أيْ: فَهاتُوا أنْتُمْ نَوْبَةً واحِدَةً مِن نُوَبِهِ، وهَلُمُّوا نَجْمًا فَرْدًا مِن نُجُومِهِ: سُورَةٌ مِن أصْغَرِ السُوَرِ. والسُورَةُ: الطائِفَةُ مِنَ القُرْآنِ المُتَرْجَمَةُ الَّتِي أقَلُّها ثَلاثُ آياتٍ. وواوُها إنْ كانَتْ أصْلًا، فَإمّا أنْ تُسَمّى بِسُورِ المَدِينَةِ، وهو حائِطُها، لِأنَّها طائِفَةٌ مِنَ القُرْآنِ مَحْدُودَةٌ مُحَوَّزَةٌ عَلى حِيالِها، كالبَلَدِ المُسَوَّرِ، أوْ لِأنَّها مُحْتَوِيَةٌ عَلى فُنُونٍ مِنَ العِلْمِ، وأجْناسٍ مِنَ الفَوائِدِ، كاحْتِواءِ سُورِ المَدِينَةِ عَلى ما فِيها. وإمّا أنْ تُسَمّى بِالسُورَةِ الَّتِي هي الرُتْبَةُ، لِأنَّ السُورَ بِمَنزِلَةِ المَنازِلِ والمَراتِبِ، يَتَرَقّى فِيها القارِئُ، وهي أيْضًا في نَفْسِها مُرَتَّبَةٌ، (p-٦٥)طِوالٌ، وأوْساطٌ، وقِصارٌ، أوْ لِرَفْعَةِ بِنائِها، وجَلالَةِ مَحَلِّها في الدِينِ. وإنْ كانَتْ مُنْقَلِبَةً عَنْ هَمْزَةٍ فَلِأنَّها قِطْعَةٌ وطائِفَةٌ مِنَ القُرْآنِ، كالسُؤْرَةِ الَّتِي هِيَ: البَقِيَّةُ مِنَ الشَيْءِ. وأمّا الفائِدَةُ في تَفْصِيلِ القُرْآنِ وتَقْطِيعِهِ سُوَرًا فَهي كَثِيرَةٌ -وَلِذا أنْزَلَ اللهُ تَعالى التَوْراةَ والإنْجِيلَ والزَبُورَ وسائِرَ ما أوْحاهُ إلى أنْبِيائِهِ مُسَوَّرَةً مُتَرْجَمَةَ السُوَرِ، وبَوَّبَ المُصَنِّفُونَ في كُلِّ فَنٍّ كُتُبَهم أبْوابًا مُوَشَّحَةَ الصُدُورِ بِالتَراجِمِ- مِنها: أنَّ الجِنْسَ إذا انْطَوَتْ تَحْتَهُ أنْواعٌ واشْتَمَلَ عَلى أصْنافٍ، كانَ أحْسَنَ مِن أنْ يَكُونَ بَيانًا واحِدًا. ومِنها: أنَّ القارِئَ إذا خَتَمَ سُورَةً، أوْ بابًا مِنَ الكِتابِ، ثُمَّ أخَذَ في آخَرَ كانَ أنْشَطَ لَهُ، وأبْعَثَ عَلى الدَرْسِ، والتَحْصِيلِ مِنهُ، ولَوِ اسْتَمَرَّ الكِتابُ بِطُولِهِ. ومِن ثَمَّ جَزَّأ القُرّاءُ القُرْآنَ أسْباعًا، وأجْزاءً، وعُشُورًا، وأخْماسًا، ومِنها: أنَّ الحافِظَ إذا حَذِقَ السُورَةَ اعْتَقَدَ أنَّهُ أخَذَ مِن كِتابِ اللهِ طائِفَةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِها، ولَها فاتِحَةٌ وخاتِمَةٌ، فَيَعْظُمُ عِنْدَهُ ما حَفِظَهُ، ويَجِلُّ في نَفْسِهِ، ومِنهُ حَدِيثُ أنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كانَ الرَجُلُ إذا قَرَأ البَقَرَةَ وآلَ عِمْرانَ جَلَّ فِينا. ومِن ثَمَّ كانَتِ القِراءَةُ في الصَلاةِ بِسُورَةٍ تامَّةٍ أفْضَلَ ﴿مِن مِثْلِهِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِسُورَةٍ صِفَةٌ لَها. والضَمِيرُ لِما نَزَّلْنا، أيْ: بِسُورَةٍ كائِنَةٍ مِن مِثْلِهِ. يَعْنِي: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِمّا هو عَلى صِفَتِهِ في البَيانِ الغَرِيبِ، وعُلُوِّ الطَبَقَةِ في حُسْنِ النَظْمِ، أوْ لِعَبْدِنا، أيْ: فَأْتُوا مِمَّنْ هو عَلى حالِهِ مِن كَوْنِهِ أُمِيًّا لَمْ يَقْرَأِ الكُتُبَ، ولَمْ يَأْخُذْ مِنَ العُلَماءِ، ولا قَصَدَ إلى مَثَلٍ ونَظِيرٍ هُنالِكَ. ورَدُّ الضَمِيرِ إلى المُنْزِلِ أوْلى، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ [يُونُسُ: ٣٨] ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾ [هُودٌ: ١٣] ﴿عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ [الإسْراءُ: ٨٨] ولِأنَّ الكَلامَ مَعَ رَدِّ الضَمِيرِ إلى المُنْزِلِ أحْسَنُ تَرْتِيبًا، وذَلِكَ: أنَّ الحَدِيثَ في المُنْزَلِ لا في المُنْزَلِ عَلَيْهِ، وهو مَسُوقٌ إلَيْهِ، فَإنَّ المَعْنى: وإنِ ارْتَبْتُمْ في أنَّ القُرْآنَ مُنْزَلٌ مِن عِنْدِ اللهِ، فَهاتُوا أنْتُمْ نُبَذًا مِمّا يُماثِلُهُ. وقَضِيَّةُ التَرْتِيبِ لَوْ كانَ الضَمِيرُ مَرْدُودًا إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ أنْ يُقالَ: وإنِ ارْتَبْتُمْ في أنَّ مُحَمَّدًا مُنَزَّلٌ عَلَيْهِ، (p-٦٧)فَهاتُوا قُرْآنًا مِن مِثْلِهِ، ولِأنَّ هَذا التَفْسِيرَ يُلائِمُ قَوْلَهُ: ﴿وادْعُوا شُهَداءَكُمْ﴾ جَمْعُ شَهِيدٍ، بِمَعْنى الحاضِرِ، أوِ القائِمِ بِالشَهادَةِ،
﴿مِن دُونِ اللهِ﴾ أيْ: غَيْرُ اللهِ، وهو مُتَعَلِّقٌ بِـ " شُهَداءَكم " أيِ: ادْعُوا الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهم آلِهَةً مِن دُونِ اللهِ، وزَعَمْتُمْ أنَّهم يَشْهَدُونَ لَكم يَوْمَ القِيامَةِ أنَّكم عَلى الحَقِّ، أوْ مَن يَشْهَدُ لَكم بِأنَّهُ مِثْلُ القُرْآنِ،
﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ إنَّ ذَلِكَ مُخْتَلَقٌ، وأنَّهُ مِن كَلامِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، وجَوابُ الشَرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، أيْ: إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دَعْواكم فَأْتُوا أنْتُمْ بِمِثْلِهِ، واسْتَعِينُوا بِآلِهَتِكم عَلى ذَلِكَ.
{"ayah":"وَإِن كُنتُمۡ فِی رَیۡبࣲ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُوا۟ بِسُورَةࣲ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُوا۟ شُهَدَاۤءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق