الباحث القرآني

(p-٢٥)سُورَةُ الفاتِحَةِ بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ مَكِّيَّةٌ، وقِيلَ: مَدَنِيَّةٌ، والأصَحُّ أنَّها مَكِّيَّةٌ ومَدَنِيَّةٌ. نَزَلَتْ بِمَكَّةَ حِينَ فُرِضَتِ الصَلاةُ، ثُمَّ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ حِينَ حُوِّلَتِ القِبْلَةُ إلى الكَعْبَةِ. وتُسَمّى أُمَّ القُرْآنِ لِلْحَدِيثِ، ولِاشْتِمالِها عَلى المَعانِي الَّتِي في القُرْآنِ، وسُورَةَ الوافِيَةِ والكافِيَةِ لِذَلِكَ، وسُورَةَ الكَنْزِ، لِقَوْلِهِ ﷺ حاكِيًا عَنِ اللهِ تَعالى: « "فاتِحَةُ الكِتابِ كَنْزٌ مِن كُنُوزِ عَرْشِي". » وسُورَةَ الشِفاءِ والشافِيَةِ، لِقَوْلَهِ ﷺ: « "فاتِحَةُ الكِتابِ شِفاءٌ مِن كُلِّ داءٍ إلّا السامَ". » وسُورَةَ المَثانِي، لِأنَّها تُثَنّى في كُلِّ صَلاةٍ. وسُورَةَ الصَلاةِ لِما يُرْوى، ولِأنَّها تَكُونُ واجِبَةً أوْ فَرِيضَةً، وسُورَةَ الحَمْدِ والأساسِ، فَإنَّها أساسُ القُرْآنِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-: إذا اعْتَلَلْتَ أوِ اشْتَكَيْتَ فَعَلَيْكَ بِالأساسِ. وآيُها سَبْعٌ بِالِاتِّفاقِ، واللهُ أعْلَمُ. ﴿بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ﴾ قُرّاءُ المَدِينَةِ والبَصْرَةِ والشامِ عَلى أنَّ التَسْمِيَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنَ الفاتِحَةِ، ولا مِن غَيْرِها مِنَ السُورِ، وإنَّما كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ والتَبَرُّكِ لِلِابْتِداءِ بِها، وهو مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ ومِن تابَعَهُ -رَحِمَهُمُ (p-٢٦)اللهُ- ولِذا لا يُجْهَرُ بِها عِنْدَهم في الصَلاةِ، وقُرّاءُ مَكَّةَ والكُوفَةِ عَلى أنَّها آيَةٌ مِنَ الفاتِحَةِ ومِن كُلِّ سُورَةٍ، وعَلَيْهِ الشافِعِيُّ وأصْحابُهُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- ولِذا يَجْهَرُونَ بِها، وقالُوا: قَدْ أثْبَتَها السَلَفُ في المُصْحَفِ مَعَ الأمْرِ بِتَجْرِيدِ القُرْآنِ [عَمّا لَيْسَ مِنهُ]. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-: مَن تَرَكَها فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وأرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةً مِن كِتابِ اللهِ. ولَنا حَدِيثُ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: سَمِعْتُ النَبِيَّ ﷺ يَقُولُ: « "قالَ اللهُ تَعالى: قَسَّمْتُ الصَلاةَ -أيِ: الفاتِحَةَ- بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَألَ. فَإذا قالَ العَبْدُ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ قالَ اللهُ تَعالى: حَمِدَنِي عَبْدِي. وإذا قالَ: ﴿الرَحْمَنِ الرَحِيمِ﴾ قالَ اللهُ تَعالى: أثْنى عَلَيَّ عَبْدِي. وإذا قالَ: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِينِ﴾ قالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. وإذا قالَ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قالَ: هَذا بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَألَ. فَإذا قالَ: ﴿اهْدِنا الصِراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضالِّينَ﴾ قالَ: هَذا لِعَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَألَ". » فالِابْتِداءُ بِقَوْلِهِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ التَسْمِيَةَ لَيْسَتْ مِنَ الفاتِحَةِ، وإذا لَمْ تَكُنْ مِنَ الفاتِحَةِ لا تَكُونُ مِن غَيْرِها إجْماعًا. والحَدِيثُ مَذْكُورٌ في "صِحاحِ المَصابِيحِ". وما ذَكَرُوا لا يَضُرُّنا، لِأنَّ التَسْمِيَةَ آيَةٌ مِنَ القُرْآنِ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ ولِلتَّبَرُّكِ في الِابْتِداءِ بِها بَيْنَ السُورِ عِنْدَنا، ذَكَرَهُ فَخْرُ الإسْلامِ في "المَبْسُوطِ"، وإنَّما يَرُدُّ عَلَيْنا أنْ لَوْ لَمْ نَجْعَلْها آيَةً مِنَ القُرْآنِ، وتَمامُ تَقْرِيرِهِ في "الكافِي" وتَعَلَّقَتِ الباءُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: بِسْمِ اللهِ أقْرَأُ، أوْ أتْلُو، لِأنَّ الَّذِي يَتْلُو التَسْمِيَةَ مَقْرُوءٌ، كَما أنَّ المُسافِرَ إذا حَلَّ وارْتَحَلَ فَقالَ: بِسْمِ اللهِ والبَرَكاتِ، كانَ المَعْنى: بِسْمِ اللهِ أحِلُّ، وبِسْمِ اللهِ أرْتَحِلُ، وكَذا الذابِحُ، وكُلُّ فاعِلٍ يَبْدَأُ في فِعْلِهِ بِسْمِ اللهِ كانَ مُضْمَرًا ما جَعَلَ التَسْمِيَةَ مَبْدَأً لَهُ. وإنَّما قُدِّرَ المَحْذُوفُ (p-٢٧)مُتَأخِّرًا، لِأنَّ الأهَمَّ مِنَ الفِعْلِ والمُتَعَلِّقِ بِهِ [هُوَ المُتَعَلَّقُ بِهِ]. وكانُوا يَبْدَءُونَ بِأسْماءِ آلْهَتِهِمْ فَيَقُولُونَ: باسِمِ اللاتِ، وباسِمِ العُزّى، فَوَجَبَ أنْ يَقْصِدَ المُوَحِّدُ مَعْنى اخْتِصاصِ اسْمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ بِالِابْتِداءِ، وذا بِتَقْدِيمِهِ وتَأْخِيرِ الفِعْلِ، وإنَّما قَدَّمَ الفِعْلَ في ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العَلَقُ: ١] لِأنَّها أوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ في قَوْلٍ، وكانَ الأمْرُ بِالقِراءَةِ أهَمَّ، فَكانَ تَقْدِيمُ الفِعْلِ أوْقَعَ، ويَجُوزُ أنْ يُحْمَلَ " اقْرَأْ " عَلى مَعْنى: افْعَلِ القِراءَةَ وحَقِّقَها، كَقَوْلِهِمْ: فُلانٌ يُعْطِي ويَمْنَعُ، غَيْرَ مُتَّعَدٍ إلى مَقْرُوءٍ بِهِ، وأنْ يَكُونَ بِاسْمِ رَبِّكَ مَفْعُولَ اقْرَأِ الَّذِي بَعْدَهُ. واسْمُ اللهِ يَتَعَلَّقُ بِالقِراءَةِ تَعَلُّقَ الدُهْنِ بِالإنْباتِ في قَوْلِهِ: ﴿تَنْبُتُ بِالدُهْنِ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٢٠] عَلى مَعْنى: مُتَبَرِّكًا باسِمِ اللهِ اقْرَأْ، فَفِيهِ تَعْلِيمُ عِبادِهِ كَيْفَ يَتَبَرَّكُونَ بِاسْمِهِ تَعالى، وكَيْفَ يُعَظِّمُونَهُ، وبُنِيَتِ الباءُ عَلى الكَسْرِ، لِأنَّها تُلازِمُ الحَرْفِيَّةَ والجَرَّ، فَكُسِرَتْ لِتُشابِهَ حَرَكَتُها عَمَلَها. والِاسْمُ مِنَ الأسْماءِ الَّتِي بَنَوْا أوائِلَها عَلى السُكُونِ كالِابْنِ والِابْنَةِ وغَيْرِهِما، فَإذا نَطَقُوا بِها مُبْتَدِئِينَ زادُوا هَمْزَةً تَفادِيًا عَنِ الِابْتِداءِ بِالساكِنِ تَعَذُّرًا، وإذا وقَعَتْ في الدَرْجِ لَمْ يَفْتَقِرْ إلى زِيادَةِ شَيْءٍ، ومِنهم مَن لَمْ يَزِدْها، واسْتَغْنى عَنْها بِتَحْرِيكِ الساكِنِ، فَقالَ: سَمْ وسُمْ. وهو مِنَ الأسْماءِ المَحْذُوفَةِ الأعْجازِ، كَيَدٍ، ودَمٍ، وأصْلُهُ: سُمُوٌّ بِدَلِيلِ تَصْرِيفِهِ كَأسْماءٍ، وسُمِّيَ، وسُمِّيَتْ، واشْتِقاقُهُ مِنَ السُمُوِّ، وهُوَ: الرِفْعَةُ، لِأنَّ التَسْمِيَةَ تَنْوِيهٌ بِالمُسَمّى، وإشادَةٌ بِذِكْرِهِ. وحُذِفَتِ الألِفُ في الخَطِّ هُنا، وأُثْبِتَتْ في قَوْلِهِ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العَلَقُ: ١]، لِأنَّهُ اجْتَمَعَ فِيها مَعَ أنَّها تَسْقُطُ في اللَفْظِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، وطُوِّلَتِ الباءُ عِوَضًا مِن حَذْفِها. وقالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ لِكاتِبِهِ: طَوِّلِ الباءَ وأظْهِرِ السِيناتِ، ودَوِّرِ المِيمَ. واللهُ: أصْلُهُ الإلَهُ، ونَظِيرُهُ الناسُ، أصْلُهُ: الأُناسُ، حُذِفَتِ الهَمْزَةُ، وعُوِّضَ مِنها حَرْفُ التَعْرِيفِ، والإلَهُ مِن أسْماءِ الأجْناسِ، يَقَعُ عَلى كُلِّ مَعْبُودٍ (p-٢٨)بِحَقٍّ أوْ باطِلٍ، ثُمَّ غَلَبَ عَلى المَعْبُودِ بِالحَقِّ، كَما أنَّ النَجْمَ اسْمٌ لِكُلِّ كَوْكَبٍ، ثُمَّ غَلَبَ عَلى الثُرَيّا. وأمّا اللهُ بِحَذْفِ الهَمْزَةِ فَمُخْتَصٌّ بِالحَقِّ، لَمْ يُطْلَقْ عَلى غَيْرِهِ، وهو اسْمٌ غَيْرُ صِفَةٍ، لِأنَّكَ تَصِفُهُ، ولا تَصِفُ بِهِ، لا تَقُولُ: شَيْءٌ إلَهٌ، كَما لا تَقُولُ: شَيْءُ رَجُلٌ، وتَقُولُ: إلَهٌ واحِدٌ صَمَدٌ، ولِأنَّ صِفاتِهِ تَعالى لا بُدَّ لَها مِن مَوْصُوفٍ تَجْرِي عَلَيْهِ، فَلَوْ جَعَلْتَها كُلَّها صِفاتٍ لَبَقِيَتْ صِفاتٍ غَيْرَ جارِيَةٍ عَلى اسْمٍ مَوْصُوفٍ بِها، وذا لا يَجُوزُ، ولا اشْتِقاقَ لِهَذا الِاسْمِ عِنْدَ الخَلِيلِ والزَجّاجِ ومُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ والحُسَيْنِ بْنِ الفَضْلِ. وقِيلَ: مَعْنى الِاشْتِقاقِ: أنْ يَنْتَظِمَ الصِيغَتَيْنِ فَصاعِدًا مَعْنًى واحِدٌ. وصِيغَةُ هَذا الِاسْمِ وصِيغَةُ قَوْلِهِمْ ألِهَ: إذا تَحَيَّرَ، يَنْتَظِمُهُما مَعْنى التَحَيُّرِ والدَهْشَةِ، وذَلِكَ أنَّ الأوْهامَ تَتَحَيَّرُ في مَعْرِفَةِ المَعْبُودِ، وتُدْهِشُ الفَطِنَ، ولِذا كَثُرَ الضَلالُ، وفَشا الباطِلُ، وقَلَّ النَظَرُ الصَحِيحُ. وقِيلَ: هو مِن قَوْلِهِمْ: ألَهَ يَأْلَهُ إلَهًا إذا عُبِدَ، فَهو مَصْدَرٌ بِمَعْنى: مَأْلُوهٍ، أيْ: مَعْبُودٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿هَذا خَلْقُ اللهِ﴾ [لُقْمانُ: ١١] أيْ: مَخْلُوقُهُ. وتُفَخِّمُ لامُهُ إذا كانَ قَبْلَها فَتْحَةٌ أوْ ضَمَّةٌ، وتُرَقَّقُ إذا كانَ قَبْلَها كَسْرَةٌ، ومِنهم مَن يُرَقِّقُها بِكُلِّ حالٍ، ومِنهم مَن يُفَخِّمُ بِكُلِّ حالٍ، والجُمْهُورُ عَلى الأوَّلِ. وَ"الرَحْمَنُ": فَعْلانٌ مِن رَحِمَ، وهو الَّذِي وسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، كَغَضْبانَ مِن غَضِبَ، وهو المُمْتَلِئُ غَضَبًا. وكَذا "الرَحِيمُ": فَعِيلٌ مِنهُ، كَمَرِيضٍ مِن مَرِضَ، وفي "الرَحْمَنِ" مِنَ المُبالَغَةِ ما لَيْسَ في "الرَحِيمِ"، لِأنَّ في "الرَحِيمِ" زِيادَةً واحِدَةً، وفي "الرَحْمَنِ" زِيادَتَيْنِ، وزِيادَةُ اللَفْظِ تَدُلُّ عَلى زِيادَةِ المَعْنى، ولِذا جاءَ في الدُعاءِ: "يارَحْمَنَ الدُنْيا"، لِأنَّهُ يَعُمُّ المُؤْمِنَ والكافِرَ "وَرَحِيمَ الآخِرَةِ"، لِأنَّهُ يَخُصُّ المُؤْمِنَ. وقالُوا: "الرَحْمَنُ" خاصٌّ تَسْمِيَةً، لِأنَّهُ لا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ، وعامٌّ مَعْنًى لِما بَيَّنّا، و"الرَحِيمُ" بِعَكْسِهِ، لِأنَّهُ يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ، ويَخُصُّ المُؤْمِنِينَ، ولِذا قَدَّمَ "الرَحْمَنَ" -وَإنْ كانَ أبْلَغَ- والقِياسُ التَرَقِّي مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى، يُقالُ: فُلانٌ عالِمٌ نِحْرِيرٌ، لِأنَّهُ كالعَلَمِ لِما لَمْ يُوصَفْ بِهِ غَيْرُ اللهِ. ورَحْمَةُ اللهِ: إنْعامُهُ عَلى عِبادِهِ، وأصْلُها: العَطْفُ. وأمّا قَوْلُ الشاعِرِ في مُسَيْلِمَةَ:(p-٢٩) ؎ وأنْتَ غَيْثُ الوَرى لا زِلْتَ رَحْمانا فَبابٌ مِن تَعَنُّتِهِمْ في كُفْرِهِمْ. وَرَحْمَنُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عِنْدَ مَن زَعَمَ أنَّ الشَرْطَ انْتِفاءُ فَعْلانَةٍ، إذْ لَيْسَ لَهُ فَعْلانَةٌ، ومَن زَعَمَ أنَّ الشَرْطَ وُجُودُ فَعْلى صَرَفَهُ إذْ لَيْسَ لَهُ فَعْلى، والأوَّلُ الوَجْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب