الباحث القرآني

(p-٣١٨)سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ مَدَنِيَّةٌ في قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ وجابِرٍ. قَوْلُهُ تَعالى ﴿إذا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزالَها﴾ أيْ حَرَّكَتِ الأرْضُ حَرَكَتُها، والزَّلْزَلَةُ شِدَّةُ الحَرَكَةِ، فَيَكُونُ مِن زَلَّ يَزِلُّ. وَفي قَوْلِهِ ﴿زِلْزالَها﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما: لِأنَّها غايَةُ زَلازِلِها المُتَوَقَّعَةِ. الثّانِي: لِأنَّها عامَّةٌ في جَمِيعِ الأرْضِ، بِخِلافِ الزَّلازِلِ المَعْهُودَةِ في بَعْضِ الأرْضِ. وَهَذا الخِطابُ لِمَن لا يُؤْمِنُ بِالبَعْثِ وعِيدًا وتَهْدِيدًا، ولِمَن يُؤْمِنُ بِهِ إنْذارًا وتَحْذِيرًا، واخْتُلِفَ في هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّها في الدُّنْيا مِن أشْراطِ السّاعَةِ، وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ.(p-٣١٩) الثّانِي: أنَّها الزَّلْزَلَةُ يَوْمَ القِيامَةِ، قالَهُ خارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ وطائِفَةٌ. ﴿وَأخْرَجَتِ الأرْضُ أثْقالَها﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: الثّانِي: ما عَلَيْها مِن جَمِيعِ الأثْقالِ، وهَذا قَوْلُ عِكْرِمَةَ. وَيُحْتَمَلُ قَوْلُ الفَرِيقَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ رابِعًا: أخْرَجَتْ أسْرارَها الَّتِي اسْتُودَعَتْها، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: إذا كانَ الثِّقَلُ في بَطْنِ الأرْضِ فَهو ثِقَلٌ لَها، وإذا كانَ فَوْقَها فَهو ثِقَلٌ عَلَيْها. ﴿وَقالَ الإنْسانُ ما لَها﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: ما لَها زُلْزِلَتْ زِلْزالَها. الثّانِي: ما لَها أخْرَجَتْ أثْقالَها. وَفي المُرادِ بِهَذا (اَلْإنْسانِ) قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّ المُرادَ جَمِيعُ النّاسِ مِن مُؤْمِنٍ وكافِرٍ، وهَذا قَوْلُ مَن جَعَلَهُ في الدُّنْيا مِن أشْراطِ السّاعَةِ لِأنَّهم لا يَعْلَمُونَ جَمِيعًا أنَّها مِن أشْراطِ السّاعَةِ في ابْتِداءِ أمْرِها حَتّى يَتَحَقَّقُوا عُمُومَها، فَلِذَلِكَ سَألَ بَعْضُهم بَعْضًا عَنْها. الثّانِي: أنَّهُمُ الكُفّارُ خاصَّةً، وهَذا قَوْلُ مَن جَعَلَها زَلْزَلَةَ القِيامَةِ، لِأنَّ المُؤْمِنَ يَعْتَرِفُ بِها فَهو لا يَسْألُ عَنْها، والكافِرُ جاحِدٌ لَها فَلِذَلِكَ يَسْألُ عَنْها. ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أخْبارَها﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: تُحَدِّثُ أخْبارَها بِأعْمالِ العِبادِ عَلى ظَهْرِها، قالَهُ أبُو هُرَيْرَةَ ورَواهُ مَرْفُوعًا، وهَذا قَوْلُ مَن زَعَمَ أنَّها زَلْزَلَةُ القِيامَةِ. الثّالِثُ: تُحَدِّثُ بِقِيامِ السّاعَةِ إذا قالَ الإنْسانُ ما لَها، قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَتُخْبِرُ بِأنَّ أمْرَ الدُّنْيا قَدِ انْقَضى، وأنَّ أمْرَ الآخِرَةِ قَدْ أتى، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنها جَوابًا عِنْدَ سُؤالِهِمْ، وعِيدًا لِلْكافِرِ وإنْذارًا لِلْمُؤْمِنِ. وَفي حَدِيثِها بِأخْبارِها ثَلاثَةُ أقاوِيلَ:(p-٣٢٠) أحَدُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى يَقْلِبُها حَيَوانًا ناطِقًا فَتَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ. الثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى يُحْدِثُ الكَلامَ فِيها. الثّالِثُ: يَكُونُ الكَلامُ مِنها بَيانًا يَقُومُ مَقامَ الكَلامِ. ﴿بِأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: مَعْناهُ أوْحى إلَيْها بِأنْ ألْهَمَها فَأطاعَتْ، كَما قالَ العَجاجُ ؎ أوْحى لَها القَرارَ فاسْتَقَرَّتِ وشَدَّها بِالرّاسِياتِ الثُّبَّتِ الثّانِي: يَعْنِي قالَ لَها، قالَهُ السُّدِّيُّ. الثّالِثُ: أمَرَها، قالَهُ مُجاهِدٌ. وَفِيما أوْحى لَها وجْهانِ: أحَدُهُما: أوْحى لَها بِأنْ تُحَدِّثَ أخْبارَها. الثّانِي: بِأنْ تُخْرِجَ أثْقالَها. وَيَحْتَمِلُ ثالِثًا: أوْحى لَها بِأنْ تُزَلْزِلَ زِلْزالَها. ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أشْتاتًا﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ يَوْمُ القِيامَةِ يَصْدُرُونَ مِن بَيْنِ يَدَيِ اللَّهِ تَعالى فِرَقًا فِرَقًا مُخْتَلِفِينَ في قَدْرِهِمْ وأعْمالِهِمْ، فَبَعْضُهم إلى الجَنَّةِ وهم أصْحابُ الحَسَناتِ، وبَعْضُهم إلى النّارِ وهم أصْحابُ السَّيِّئاتِ، قالَهُ يَحْيى بْنُ سَلامٍ. الثّانِي: أنَّهم في الدُّنْيا عِنْدَ غَلَبَةِ الأهْواءِ يَصْدُرُونَ فِرَقًا، فَبَعْضُهم مُؤْمِنٌ، وبَعْضُهم كافِرٌ، وبَعْضُهم مُحْسِنٌ، وبَعْضُهم مُسِيءٌ، وبَعْضُهم مُحِقٌّ، وبَعْضُهم مُبْطِلٌ. ﴿لِيُرَوْا أعْمالَهُمْ﴾ يَعْنِي ثَوابَ أعْمالِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ. وَيَحْتَمِلُ ثالِثًا: أنَّهم عِنْدَ النُّشُورِ يَصْدُرُونَ أشْتاتًا مِنَ القُبُورِ عَلى اخْتِلافِهِمْ في الأُمَمِ والمُعْتَقَدِ بِحَسْبِ ما كانُوا عَلَيْهِ في الدُّنْيا مِنَ اتِّفاقٍ أوِ اخْتِلافٍ لِيُرَوْا أعْمالَهم في (p-٣٢١) مَوْقِفِ العَرْضِ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ فَيُجازَوْنَ عَلَيْها بِثَوابٍ أوْ عِقابٍ، والشَّتاتُ: التَّفَرُّقُ والِاخْتِلافُ، قالَ لَبِيدٌ ؎ إنْ كُنْتِ تَهْوِينَ الفِراقَ فَفارِقِي ∗∗∗ لا خَيْرَ في أمْرِ الشَّتاتِ ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ في هَذِهِ الآيَةِ ثَلاثَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّ مَعْنى يَرَهُ أيْ يَعْرِفْهُ. الثّانِي: أنَّهُ يَرى صَحِيفَةَ عَمَلِهِ. الثّالِثُ: أنْ يَرى خَيْرَ عَمَلِهِ ويَلْقاهُ. وَفي ذَلِكَ قَوْلانِ: أحَدُهُما: يَلْقى ذَلِكَ في الآخِرَةِ، مُؤْمِنًا كانَ أوْ كافِرًا، لِأنَّ الآخِرَةَ هي دارُ الجَزاءِ. الثّانِي: أنَّهُ إنْ كانَ مُؤْمِنًا رَأى جَزاءَ سَيِّئاتِهِ في الدُّنْيا، وجَزاءَ حَسَناتِهِ في الآخِرَةِ حَتّى يَصِيرَ إلَيْها ولَيْسَ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ. وَإنْ كانَ كافِرًا رَأى جَزاءَ حَسَناتِهِ في الدُّنْيا، وجَزاءَ سَيِّئاتِهِ في الآخِرَةِ حَتّى يَصِيرَ إلَيْها ولَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ، قالَهُ طاوُوسٌ. وَيَحْتَمِلُ ثالِثًا: أنَّهُ جَزاءُ ما يَسْتَحِقُّهُ مِن ثَوابٍ وعِقابٍ عِنْدَ المُعايَنَةِ في الدُّنْيا لِيُوَفّاهُ في الآخِرَةِ. وَيَحْتَمِلُ المُرادُ بِهَذِهِ الآيَةِ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: إعْلامُهم أنَّهُ لا يَخْفى عَلَيْهِ صَغِيرٌ ولا كَبِيرٌ. الثّانِي: إعْلامُهم أنَّهُ يُجازِي بِكُلِّ قَلِيلٍ وكَثِيرٍ. وَحَكى مُقاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ أنَّها نَزَلَتْ في ناسٍ بِالمَدِينَةِ كانُوا لا يَتَوَرَّعُونَ مِنَ الذَّنَبِ الصَّغِيرِ مِن نَظْرَةٍ أوْ غَمْزَةٍ أوْ غَيْبَةٍ أوْ لَمْسَةٍ، ويَقُولُونَ إنَّما وعَدَ اللَّهُ عَلى الكَبائِرِ، وفي ناسٍ يَسْتَقِلُّونَ الكِسْرَةَ والجَوْزَةَ والثَّمَرَةَ ولا يُعْطُونَها، ويَقُولُونَ إنَّما نُجْزى عَلى ما تُعْطِيهِ ونَحْنُ نُحِبُّهُ، فَنَزَلَ هَذا فِيهِمْ. وَرُوِيَ «أنَّ صَعْصَعَةَ بْنَ ناجِيَةَ جَدَّ الفَرَزْدَقِ أتى النَّبِيَّ ﷺ يَسْتَقْرِئُهُ، فَقَرَأ (p-٣٢٢)عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ، فَقالَ صَعْصَعَةُ: حَسْبِي حَسْبِي إنْ عَمِلْتُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا رَأيْتُهُ، وإنْ عَمِلْتُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا رَأيْتُهُ» . ورَوى أبُو أيُّوبَ الأنْصارِيُّ: قالَ «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَغَذَّيانِ إذا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، فَقاما وأمْسَكا» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب