الباحث القرآني

(p-٢٩١)سُورَةُ الضُّحى قَوْلُهُ تَعالى ﴿والضُّحى﴾ هو قَسَمٌ، وفِيهِ أرْبَعَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّهُ أوَّلُ ساعَةٍ مِنَ النَّهارِ إذا تَرَحَّلَتِ الشَّمْسُ، قالَهُ السُّدِّيُّ. الثّانِي: أنَّهُ صَدْرُ النَّهارِ، قالَهُ قَتادَةُ. الثّالِثُ: هو طُلُوعُ الشَّمْسِ، قالَهُ قُطْرُبٌ. الرّابِعُ: هو ضَوْءُ النَّهارِ في اليَوْمِ كُلِّهِ، مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ ضَحى فُلانٌ الشَّمْسَ، إذا ظَهَرَ لَها، قالَهُ مُجاهِدٌ، والِاشْتِقاقُ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسى. ﴿واللَّيْلِ إذا سَجى﴾ وهو قَسَمٌ ثانٍ، وفِيهِ خَمْسَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: إذا أقْبَلَ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. الثّانِي: إذا أظْلَمَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. الثّالِثُ: إذا اسْتَوى، قالَهُ مُجاهِدٌ. الرّابِعُ: إذا ذَهَبَ، قالَهُ ابْنُ حَنْطَلَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.(p-٢٩٢) الخامِسُ: إذا سَكَنَ الخَلْقُ فِيهِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ وعَطاءٌ وابْنُ زَيْدٍ، مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ سَجى البَحْرُ إذا سَكَنَ، وقالَ الرّاجِزُ ؎ يا حَبَّذا القَمْراءُ واللَّيْلُ السّاجِ وطُرُقٌ مِثْلُ مِلاءِ النَّسّاجِ ﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى﴾ اخْتُلِفَ في سَبَبِ نُزُولِها، فَرَوى الأسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ جُنْدُبٍ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رُمِيَ بِحَجَرٍ في إصْبَعِهِ فَدَمِيَتْ، فَقالَ ؎ هَلْ أنْتِ إلّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ ∗∗∗ وفي سَبِيلِ اللَّهِ ما لَقِيتِ قالَ فَمَكَثَ لَيْلَتَيْنِ أوْ ثَلاثًا لا يَقُومُ، فَقالَتْ لَهُ امْرَأةٌ يا مُحَمَّدُ ما أرى شَيْطانَكَ إلّا قَدْ تَرَكَكَ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ: ﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى﴾» ورَوى هُشامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ قالَ: «أبْطَأ جِبْرِيلُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَجَزِعَ لِذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا، قالَتْ عائِشَةُ: فَقالَ كُفّارُ قُرَيْشٍ: إنّا نَرى رَبَّكَ قَدْ قَلاكَ، مِمّا رَأوْا مِن جَزَعِهِ، فَنَزَلَتْ: ﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى﴾»، ورَوى ابْنُ جُرَيْجٍ أنَّ جِبْرِيلَ لَبِثَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ اثْنَتا عَشْرَةَ لَيْلَةً فَقالَ المُشْرِكُونَ: لَقَدْ ودَّعَ مُحَمَّدًا رَبُّهُ، فَنَزَلَتْ: ﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى﴾ وفي ﴿وَدَّعَكَ﴾ قِراءَتانِ: أحَدُهُما: قِراءَةُ الجُمْهُورِ ودَّعَكَ، بِالتَّشْدِيدِ، ومَعْناها: ما انْقَطَعَ الوَحْيُ عَنْكَ تَوْدِيعًا لَكَ. والثّانِيَةُ: بِالتَّخْفِيفِ، ومَعْناها: ما تَرَكَكَ إعْراضًا عَنْكَ. ﴿وَما قَلى﴾ أيْ ما أبْغَضَكَ، قالَ الأخْطَلُ:(p-٢٩٣) ؎ المَهْدِيّاتُ لِمَن هَوِينَ نَسِيئَةً ∗∗∗ والمُحْسِناتُ لِمَن قَلَيْنَ مَقِيلًا ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى﴾ رَوى ابْنُ عَبّاسٍ قالَ: «عُرِضَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما هو مَفْتُوحٌ عَلى أُمَّتِهِ مِن بَعْدِهِ، فَسُرَّ بِذَلِكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى﴾ الآيَةَ» . وفي قَوْلِهِ ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما: ولَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِمّا أعْجَبَكَ في الدُّنْيا، قالَهُ يَحْيى بْنُ سَلامٍ. الثّانِي: أنَّ مَآلَكَ في مَرْجِعِكَ إلى اللَّهِ تَعالى أعْظَمُ مِمّا أعْطاكَ مِن كَرامَةِ الدُّنْيا، قالَهُ ابْنُ شَجَرَةَ. ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: يُعْطِيكَ مِنَ النَّصْرِ في الدُّنْيا، وما يُرْضِيكَ مِن إظْهارِ الدِّينِ. الثّانِي: يُعْطِيكَ المَنزِلَةَ في الآخِرَةِ، وما يُرْضِيكَ مِنَ الكَرامَةِ. ﴿ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى﴾ واليَتِيمُ بِمَوْتِ الأبِ، وقَدْ كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَدَ أبَوَيْهِ وهو صَغِيرٌ، فَكَفَلَهُ جَدُّهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ، ثُمَّ ماتَ فَكَفَلَهُ عَمُّهُ أبُو طالِبٍ، وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ أرادَ يُتْمَ الأُبُوَّةِ بِمَوْتِ مَن فَقَدَهُ مِن أبَوَيْهِ، فَعَلى هَذا في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَآوى﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما: أيْ جَعَلَ لَكَ مَأْوًى لِتَرْبِيَتِكَ، وقَيِّمًا يَحْنُو عَلَيْكَ ويَكْفُلُكَ وهو أبُو طالِبٍ بَعْدَ مَوْتِ عَبْدِ اللَّهِ وعَبْدِ المُطَّلِبِ، قالَهُ مُقاتِلٌ. الثّانِي: أيْ جَعَلَ لَكَ مَأْوى نَفْسِكَ، وأغْناكَ عَنْ كَفالَةِ أبِي طالِبٍ، قالَهُ الكَلْبِيُّ. والوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ أرادَ بِاليَتِيمِ الَّذِي لا مَثِيلَ لَهُ ولا نَظِيرَ، مِن قَوْلِهِمْ دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ، إذا لَمْ يَكُنْ لَها مَثِيلٌ، فَعَلى هَذا في قَوْلِهِ ﴿فَآوى﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما: فَآواكَ إلى نَفْسِهِ واخْتَصَّكَ بِرِسالَتِهِ.(p-٢٩٤) الثّانِي: أنْ جَعْلَكَ مَأْوى الأيْتامِ بَعْدَ أنْ كُنْتَ يَتِيمًا، وكَفِيلَ الأنامِ بَعْدَ أنْ كُنْتَ مَكْفُولًا، تَذْكِيرًا بِنِعَمِهِ عَلَيْهِ، وهو مُحْتَمَلٌ. ﴿وَوَجَدَكَ ضالا فَهَدى﴾ فِيهِ تِسْعَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: وجَدَكَ لا تَعْرِفُ الحَقَّ فَهَداكَ إلَيْهِ، قالَهُ ابْنُ عِيسى. الثّانِي: ووَجَدَكَ ضالًّا عَنِ النُّبُوَّةِ فَهَداكَ إلَيْها، قالَهُ الطَّبَرِيُّ. الثّالِثُ: ووَجَدَ قَوْمَكَ في ضَلالٍ فَهَداكَ إلى إرْشادِهِمْ، وهَذا مَعْنى قَوْلِ السُّدِّيِّ. الرّابِعُ: ووَجَدَكَ ضالًّا عَنِ الهِجْرَةِ فَهَداكَ إلَيْها. الخامِسُ: ووَجَدَكَ ناسِيًا فَأذْكَرَكَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿أنْ تَضِلَّ إحْداهُما﴾ السّادِسُ: ووَجَدَكَ طالِبًا القِبْلَةَ فَهَداكَ إلَيْها، ويَكُونُ الضَّلالُ بِمَعْنى الطَّلَبِ، لِأنَّ الضّالَّ طالِبٌ. السّابِعُ: ووَجَدَكَ مُتَحَيِّرًا في بَيانِ مَن نَزَلَ عَلَيْكَ فَهَداكَ إلَيْهِ، فَيَكُونُ الضَّلالُ بِمَعْنى التَّحَيُّرِ، لِأنَّ الضّالَّ مُتَحَيِّرٌ. الثّامِنُ: ووَجَدَكَ ضائِعًا في قَوْمِكَ فَهَداكَ إلَيْهِ، ويَكُونُ الضَّلالُ بِمَعْنى الضَّياعِ، لِأنَّ الضّالَّ ضائِعٌ. التّاسِعُ: ووَجَدَكَ مُحِبًّا لِلْهِدايَةِ فَهَداكَ إلَيْها، ويَكُونُ الضَّلالُ بِمَعْنى المَحَبَّةِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا تاللَّهِ إنَّكَ لَفي ضَلالِكَ القَدِيمِ﴾ أيْ في مَحَبَّتِكَ، قالَ الشّاعِرُ ؎ هَذا الضَّلالُ أشابَ مِنِّي المِفْرَقا ∗∗∗ والعارِضَيْنِ ولَمْ أكُنْ مُتَحَقِّقا ∗∗∗ عَجَبًا لِعَزَّةَ في اخْتِيارِ قَطِيعَتِي ∗∗∗ بَعُدَ الضَّلالُ فَحَبْلُها قَدْ أخْلَقا وَقَرَأ الحَسَنُ: ووَجَدَكَ ضالٌّ فَهُدِيَ، أيْ وجَدَكَ الضّالُّ فاهْتَدى بِكَ، ﴿وَوَجَدَكَ عائِلا فَأغْنى﴾ فِيهِ أرْبَعَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: وجَدَكَ ذا عِيالٍ فَكَفاكَ، قالَهُ الأخْفَشُ، ومِنهُ قَوْلُ جَرِيرٍ ؎ اللَّهُ أنْزَلَ في الكِتابِ فَرِيضَةً ∗∗∗ لِابْنِ السَّبِيلِ ولِلْفَقِيرِ العائِلِ الثّانِي: فَقِيرًا فَيَسَّرَ لَكَ، قالَهُ الفَرّاءُ، قالَ الشّاعِرُ:(p-٢٩٥) ؎ وما يَدْرِي الفَقِيرُ مَتى غِناهُ ∗∗∗ وما يَدْرِي الغَنِيُّ مَتّى يَعِيلُ ايْ مَتى يَفْتَقِرُ. الثّالِثُ: أيْ وجَدَكَ فَقِيرًا مِنَ الحُجَجِ والبَراهِينِ، فَأغْناكَ بِها. الرّابِعُ: ووَجَدَكَ العائِلُ الفَقِيرُ فَأغْناهُ اللَّهُ بِكَ، رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ بِصَوْتِهِ الأعْلى ثَلاثَ مَرّاتٍ: (يَمُنُّ رَبِّي عَلَيَّ وهو أهْلُ المَنِّ)» ﴿فَأمّا اليَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾ فِيهِ خَمْسَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: فَلا تُحَقِّرْ، قالَهُ مُجاهِدٌ. الثّانِي: فَلا تَظْلِمْ، رَواهُ سُفْيانُ. الثّالِثُ: فَلا تَسْتَذِلَّ، حَكاهُ ابْنُ سَلامٍ. الرّابِعُ: فَلا تَمْنَعُهُ حَقَّهُ الَّذِي في يَدِكَ، قالَهُ الفَرّاءُ. الخامِسُ: ما قالَهُ قَتادَةُ: كُنْ لِلْيَتِيمِ كالأبِ الرَّحِيمِ، وهي في قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَلا تَكْهَرْ، قالَهُ أبُو الحَجّاجِ: الكَهْرُ الزَّجْرُ. رَوى أبُو عُمْرانَ الجُونِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «أنَّ رَجُلًا شَكا إلى النَّبِيِّ ﷺ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقالَ: (إنْ أرَدْتَ أنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فامْسَحْ رَأْسَ اليَتِيمِ وأطْعِمِ المِسْكِينَ)» ﴿وَأمّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ في رَدِّهِ إنْ مَنَعْتَهُ، ورُدَّهُ بِرَحْمَةٍ ولِينٍ، قالَهُ قَتادَةُ. الثّانِي: السّائِلُ عَنِ الدِّينِ فَلا تَنْهَرْهُ بِالغِلْظَةِ والجَفْوَةِ، وأجِبْهُ بِرِفْقٍ ولِينٍ، قالَهُ سُفْيانُ. ﴿وَأمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ في هَذِهِ النِّعْمَةِ ثَلاثَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: النُّبُوَّةُ، قالَهُ ابْنُ شَجَرَةَ، ويَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ فَحَدِّثْ أيِ ادْعُ قَوْمَكَ. الثّانِي: أنَّهُ القُرْآنُ، قالَهُ مُجاهِدٌ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: فَحَدِّثْ أيْ فَبَلِّغَ أُمَّتَكَ. الثّالِثُ: ما أصابَ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ، قالَهُ الحَسَنُ. (فَحَدِّثْ) فِيهِ عَلى هَذا وجْهانِ: أحَدُهُما: فَحَدِّثْ بِهِ الثِّقَةَ مِن إخْوانِكَ، قالَهُ الحَسَنُ. الثّانِي: فَحَدِّثْ بِهِ نَفْسَكَ، ونَدَبَ إلى ذَلِكَ لِيَكُونَ ذِكْرُها شُكْرًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب