(p-١٣٥)سُورَةُ المُدَّثِّرِ
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها المُدَّثِّرُ﴾ فِيهِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: يا أيُّها المُدَّثِّرُ بِثِيابِهِ، قالَهُ قَتادَةُ.
الثّانِي: بِالنُّبُوَّةِ وأثْقالِها، قالَهُ عِكْرِمَةُ.
﴿قُمْ﴾ مِن نَوْمِكَ ﴿فَأنْذِرْ﴾ قَوْمَكَ عَذابَ رَبِّكَ.
وَيَحْتَمِلُ وجْهًا ثالِثًا: يا أيُّها الكاتِمُ لِنُبُوَّتِهِ اجْهَرْ بِإنْذارِكَ.
وَيَحْتَمِلُ هَذا الإنْذارُ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: إعْلامُهم بِنُبُوَّتِهِ لِأنَّهُ مُقَدِّمَةُ الرِّسالَةِ.
الثّانِي: دُعاؤُهم إلى التَّوْحِيدِ لِأنَّهُ المَقْصُودُ بِها.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وجابِرٌ هي أوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ.
﴿وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ﴾ فِيهِ خَمْسَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّ المُرادَ بِالثِّيابِ العَمَلُ.
الثّانِي: القَلْبُ.(p-١٣٦)
الثّالِثُ: النَّفْسُ.
الرّابِعُ: النِّساءُ والزَّوْجاتُ.
الخامِسُ: الثِّيابُ المَلْبُوساتُ عَلى الظّاهِرِ.
فَمَن ذَهَبَ عَلى أنَّ المُرادَ بِها العَمَلُ قالَ في تَأْوِيلِ الآيَةِ: وعَمَلَكَ فَأصْلِحْ، قالَهُ مُجاهِدٌ، ومِنهُ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « (يُحْشَرُ المَرْءُ في ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ ماتَ فِيها يَعْنِي عَمَلَهُ الصّالِحَ والطّالِحَ)» . ومَن ذَهَبَ إلى أنَّ المُرادَ بِالثِّيابِ القَلْبُ فالشّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ
؎ وإنْ تَكُ قَدْ ساءَتْكَ مِنِّي خَلِيقَةٌ فَسَلِي ثِيابِي مِن ثِيابِكِ تَنْسِلِ
وَلَهم في تَأْوِيلِ الآيَةِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: مَعْناهُ وقَلْبَكَ فَطَهِّرْ مِنَ الإثْمِ والمَعاصِي، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ.
الثّانِي: وقَلْبَكَ فَطَهِّرْ مِنَ الغَدْرِ وهَذا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، واسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشّاعِرِ
؎ فَإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لا ثَوْبَ فاجِرِ ∗∗∗ لَبِسْتُ ولا مِن غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ.
وَمَن ذَهَبَ إلى أنَّ المُرادَ بِالثِّيابِ النَّفْسُ فَلِأنَّها لابِسَةُ الثِّيابِ، فَكَنّى عَنْها بِالثِّيابِ، ولَهم في تَأْوِيلِ الآيَةِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ:
أحَدُها: مَعْناهُ ونَفْسَكَ فَطَهِّرْ مِمّا نَسَبَكَ إلَيْهِ المُشْرِكُونَ مِن شِعْرٍ أوْ سِحْرٍ أوْ كِهانَةٍ أوْ جُنُونٍ، رَواهُ ابْنُ أبِي نَجِيحٍ وأبُو يَحْيى عَنْ مُجاهِدٍ.
الثّانِي: ونَفْسَكَ فَطَهِّرْها مِمّا كُنْتَ تَشْكُو مِنهُ وتَحْذَرُ، مِن قَوْلِ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، قالَهُ عَطاءٌ.
الثّالِثُ: ونَفْسَكَ فَطَهِّرْها مِنَ الخَطايا، قالَهُ عامِرٌ.
وَمَن ذَهَبَ إلى أنَّ المُرادَ النِّساءُ والزَّوْجاتُ فَلِقَوْلِهِ تَعالى:
(p-١٣٧)﴿هُنَّ لِباسٌ لَكم وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ﴾ [اَلْبَقَرَةِ: ١٨٧] ولَهم في تَأْوِيلِ الآيَةِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: مَعْناهُ ونِساءَكَ فَطَهِّرْ بِاخْتِيارِ المُؤْمِناتِ العَفائِفِ.
الثّانِي: الِاسْتِمْتاعُ بِهِنَّ مِنَ القُبُلِ دُونَ الدُّبُرِ، وفي الطُّهْرِ دُونَ الحَيْضِ، حَكاهُما ابْنُ بَحْرٍ.
وَمَن ذَهَبَ إلى أنَّ المُرادَ بِها الثِّيابُ المَلْبُوسَةُ عَلى الظّاهِرِ، فَلَهم في تَأْوِيلِهِ أرْبَعَةُ أوْجُهٍ:
أحَدُها: مَعْناهُ وثِيابَكَ فَأنْقِ، رَواهُ عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ
؎ ثِيابُ بَنِي عَوْفٍ طَهارى نَقِيَّةٌ ∗∗∗ وأوْجُهُهم عِنْدَ المَشاهِدِ غُرّانُ
الثّانِي: وثِيابَكَ فَشَمِّرْ وقَصِّرْ، قالَهُ طاوُوسٌ.
الثّالِثُ: وثِيابَكَ فَطَهِّرْ مِنَ النَّجاساتِ بِالماءِ، قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وابْنُ زَيْدٍ والفُقَهاءُ.
الرّابِعُ: مَعْناهُ لا تَلْبَسْ ثِيابًا إلّا [مِن] كَسْبٍ حَلالٍ مُطَهَّرَةٍ مِنَ الحَرامِ.
﴿والرُّجْزَ فاهْجُرْ﴾ فِيهِ سِتَّةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: يَعْنِي الآثامَ والأصْنامَ، قالَهُ جابِرٌ وابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ.
الثّانِي: والشِّرْكَ فاهْجُرْ، قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ.
الثّالِثُ: والذَّنْبَ فاهْجُرْ، قالَهُ الحَسَنُ.
الرّابِعُ: والإثْمَ فاهْجُرْ، قالَ السُّدِّيُّ.
الخامِسُ: والعَذابَ فاهْجُرْ، حَكاهُ أسْباطٌ.
السّادِسُ: والظُّلْمَ فاهْجُرْ، ومِنهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ العَجّاجِ.
؎ كَمْ رامَنا مِن ذِي عَدِيدٍ مِنهُ ∗∗∗ حَتّى وقَمْنا كَيْدَهُ بِالرَّجَزِ.
قالَهُ السُّدِّيُّ: الرَّجَزُ بِنَصْبِ الرّاءِ: الوَعِيدُ.
﴿وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ فِيهِ أرْبَعَةُ تَأْوِيلاتٍ:(p-١٣٨)
أحَدُها: لا تُعْطِ عَطِيَّةً تَلْتَمِسُ بِها أفْضَلَ مِنها، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ وقَتادَةُ، قالَ الضَّحّاكُ: هَذا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى رَسُولٍ وأباحَهُ لِأُمَّتِهِ.
الثّانِي: مَعْناهُ لا تَمْنُنْ بِعَمَلِكَ تَسْتَكْثِرْ عَلى رَبِّكَ، قالَهُ الحَسَنُ.
الثّالِثُ: مَعْناهُ لا تَمْنُنْ بِالنُّبُوَّةِ عَلى النّاسِ تَأْخُذُ عَلَيْها مِنهم أجْرًا، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.
الرّابِعُ: مَعْناهُ لا تُضْعُفْ عَنِ الخَيْرِ أنْ تَسْتَكْثِرَ مِنهُ، قالَهُ مُجاهِدٌ.
وَيَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا خامِسًا: لا تَفْعَلِ الخَيْرَ لِتُرائِيَ بِهِ النّاسَ.
﴿وَلِرَبِّكَ فاصْبِرْ﴾ أمّا قَوْلُهُ (وَلِرَبِّكَ) فَفِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ:
أحَدُها: لِأمْرِ رَبِّكَ.
الثّانِي: لِوَعْدِ رَبِّكَ.
الثّالِثُ: لِوَجْهِ رَبِّكَ.
وَفي قَوْلِهِ (فاصْبِرْ) سَبْعَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: فاصْبِرْ عَلى ما لاقَيْتَ مِنَ الأذى والمَكْرُوهِ قالَهُ مُجاهِدٌ.
الثّانِي: عَلى مُحارَبَةِ العَرَبِ ثُمَّ العَجَمِ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.
الثّالِثُ: عَلى الحَقِّ فَلا يَكُنْ أحَدٌ أفْضَلَ عِنْدِكَ فِيهِ مِن أحَدٍ، قالَهُ السُّدِّيُّ.
الرّابِعُ: فاصْبِرْ عَلى عَطِيَّتِكَ لِلَّهِ، قالَهُ إبْراهِيمُ.
الخامِسُ: فاصْبِرْ عَلى الوَعْظِ لِوَجْهِ اللَّهِ، قالَهُ عَطاءٌ.
السّادِسُ: عَلى انْتِظامِ ثَوابِ عَمَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وهو مَعْنى قَوْلِ ابْنِ شَجَرَةَ.
السّابِعُ: عَلى ما أمَرَكَ اللَّهُ مِن أداءِ الرِّسالَةِ وتَعْلِيمِ الدِّينِ، حَكاهُ ابْنُ عِيسى.
﴿فَإذا نُقِرَ في النّاقُورِ﴾ فِيهِ تَأْوِيلانِ:
أحَدُهُما: يَعْنِي نَفَخَ في الصُّورِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وهَلِ المُرادُ النَّفْخَةُ الأُولى أوِ الثّانِيَةُ؟ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: الأُولى.
والثّانِي: الثّانِيَةُ.
الثّانِي: أنَّ النّاقُورَ القَلْبُ يَجْزَعُ إذا دُعِيَ الإنْسانُ لِلْحِسابِ، حَكاهُ ابْنُ كامِلٍ.
وَيَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا ثالِثًا: أنَّ النّاقُورَ صُحُفُ الأعْمالِ إذا نُشِرَتْ لِلْعَرْضِ.(p-١٣٩)
{"ayahs_start":1,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ","قُمۡ فَأَنذِرۡ","وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ","وَثِیَابَكَ فَطَهِّرۡ","وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ","وَلَا تَمۡنُن تَسۡتَكۡثِرُ","وَلِرَبِّكَ فَٱصۡبِرۡ","فَإِذَا نُقِرَ فِی ٱلنَّاقُورِ","فَذَ ٰلِكَ یَوۡمَىِٕذࣲ یَوۡمٌ عَسِیرٌ","عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ غَیۡرُ یَسِیرࣲ"],"ayah":"فَإِذَا نُقِرَ فِی ٱلنَّاقُورِ"}