الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَيا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ﴾ يَعْنِي حَوّاءَ، وفي الجَنَّةِ الَّتِي أُمِرَ بِسُكْناها قَوْلانِ: (p-٢٠٩)أحَدُهُما: في جَنَّةِ الخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ، وجازَ الخُرُوجُ مِنها لِأنَّها لَمْ تُجْعَلْ ثَوابًا فَيَخْلُدُ فِيها ولا يَخْرُجُ مِنها. والثّانِي: أنَّها جَنَّةٌ مِن جَنّاتِ الدُّنْيا لا تَكْلِيفَ فِيها وقَدْ كانَ مُكَلَّفًا. ﴿فَكُلا مِن حَيْثُ شِئْتُما﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: مِن حَيْثُ شِئْتُما مِنَ الجَنَّةِ كُلِّها. والثّانِي: ما شِئْتُما مِنَ الثِّمارِ كُلِّها لِأنَّ المُسْتَثْنى بِالنَّهْيِ لَمّا كانَ ثَمَرًا كانَ المَأْمُورُ بِهِ ثَمَرًا. ﴿وَلا تَقْرَبا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ قَدْ ذَكَرْنا اخْتِلافَ النّاسِ فِيها عَلى سِتَّةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّهُ البُرُّ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والثّانِي: الكَرْمُ، قالَهُ السُّدِّيُّ. والثّالِثُ: التِّينُ، قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. والرّابِعُ: شَجَرَةُ الكافُورِ، قالَهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ. والخامِسُ: شَجَرَةُ العِلْمِ، قالَهُ الكَلْبِيُّ. والسّادِسُ: أنَّها شَجَرَةُ الخُلْدِ الَّتِي كانَتْ تَأْكُلُ مِنها المَلائِكَةُ، قالَهُ ابْنُ جُدْعانَ، وحَكى مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ عَنْ أهْلِ الكِتابَيْنِ أنَّها شَجَرَةُ الحَنْظَلِ ولا أعْرِفُ لِهَذا وجْهًا. فَإذا قِيلَ: فَما وجْهُ نَهْيِهِما عَنْ ذَلِكَ مَعَ كَمالِ مَعْرِفَتِهِما؟ قِيلَ: المَصْلَحَةُ في اسْتِدامَةِ المَعْرِفَةِ، والِابْتِلاءُ بِما يَجِبُ فِيهِ الجَزاءُ. قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُما الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما﴾ أمّا الوَسْوَسَةُ فَهي إخْفاءُ الصَّوْتِ بِالدُّعاءِ، يُقالُ وسْوَسَ لَهُ إذا أوْهَمَهُ النَّصِيحَةَ، ووَسْوَسَ إلَيْهِ إذا ألْقى إلَيْهِ المَعْنى، وفي ذَلِكَ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ العَجّاجِ: ؎ وسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الفَلَقِ سِرًّا وقَدْ أوَّنَ تَأْوِينَ العَقَقِ (p-٢١٠)فَإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ وسْوَسَ لَهُما وهُما في الجَنَّةِ وهو خارِجٌ عَنْها؟ فَعَنْهُ ثَلاثَةُ أجْوِبَةٍ هي أقاوِيلُ اخْتَلَفَ فِيها أهْلُ التَّأْوِيلِ: أحَدُها: أنَّهُ وسْوَسَ إلَيْهِما وهُما في الجَنَّةِ في السَّماءِ، وهو في الأرْضِ، فَوَصَلَتْ وسْوَسَتُهُ بِالقُوَّةِ الَّتِي خَلَقَها اللَّهُ لَهُ إلى السَّماءِ ثُمَّ الجَنَّةِ، قالَهُ الحَسَنُ. والثّانِي: أنَّهُ كانَ في السَّماءِ وكانا يَخْرُجانِ إلَيْهِ فَيَلْقاهُما هُناكَ. والثّالِثُ: أنَّهُ خاطَبَهُما مِن بابِ الجَنَّةِ وهُما فِيها. ﴿وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلا أنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونا مِنَ الخالِدِينَ﴾ وهَذا هو الَّذِي ألْقى بِهِ مِنَ الوَسْوَسَةِ إلَيْهِما اسْتِغْواءً لَهُما بِالتَّرْغِيبِ في فَضْلِ المَنزِلَةِ ونَعِيمِ الخُلُودِ. فَإنْ قِيلَ: هَلْ تَصَوَّرا ذَلِكَ مَعَ كَمالِ مَعْرِفَتِهِما؟ قِيلَ: إنَّما كَمُلَتْ مَعْرِفَتُهُما بِاللَّهِ تَعالى لا بِأحْكامِهِ. وَفي قَوْلِ إبْلِيسَ ذَلِكَ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ أوْهَمَهُما أنَّ ذَلِكَ في حُكْمِ اللَّهِ جائِزٌ أنْ يَقْلِبَ صُورَتَهُما إلى صُوَرِ المَلائِكَةِ وأنْ يُخَلِّدَهُما في الجَنَّةِ. والثّانِي: أنَّهُ أوْهَمَهُما أنَّهُما يَصِيرانِ بِمَنزِلَةِ المَلائِكَةِ في عُلُوِّ المَنزِلَةِ مَعَ عِلْمِهِما بِأنَّ قَلْبَ الصُّوَرِ لا يَجُوزُ. قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَقاسَمَهُما إنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ﴾ أيْ حَلَفَ لَهُما عَلى صِدْقِهِ في خَبَرِهِ ونُصْحِهِ في مَشُورَتِهِ، فَقَبِلا قَوْلَهُ وتَصَوَّرا صِدْقَهُ لِأنَّهُما لَمْ يَعْلَما أنَّ أحَدًا يَجْتَرِئُ عَلى الحَلِفِ بِاللَّهِ كاذِبًا. وَيَحْتَمِلُ وجْهًا آخَرَ: أنْ يَكُونَ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وَقاسَمَهُما﴾ أيْ قالَ لَهُما: إنْ كانَ ما قُلْتُهُ خَيْرًا فَهو لَكُما دُونِي وإنْ كانَ شَرًّا فَهو عَلَيَّ دُونَكُما ومَن فَعَلَ ذَلِكَ مَعَكُما فَهو مِنَ النّاصِحِينَ لَكُما، فَكانَتْ هَذِهِ مُقاسَمَتَهُما أنَّ قَسَمَ الخَيْرِ لَهُما والشَّرِّ لَهُ عَلى وجْهِ الغُرُورِ لِتَنْتَفِيَ عَنْهُ التُّهْمَةُ ويُسْرِعُ إلَيْهِ القَبُولَ.(p-٢١١)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب