الباحث القرآني

(p-١٣)سُورَةُ المُنافِقُونَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا جاءَكَ المُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ سُئِلَ حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ عَنِ المُنافِقِ فَقالَ: الَّذِي يَصِفُ الإسْلامَ ولا يَعْمَلُ بِهِ، وهُمُ اليَوْمَ شَرٌّ مِنهم عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لِأنَّهم كانُوا يَكْتُمُونَهُ وهُمُ اليَوْمَ يُظْهِرُونَهُ. ﴿قالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ يَعْنِي نَحْلِفُ، فَعَبَّرَ عَنِ الحَلِفِ بِالشَّهادَةِ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الحِلْفِ والشَّهادَةِ إثْباتٌ لِأمْرِ مُغَيَّبٍ، ومِنهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ ذُرَيْحٍ ؎ وأشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ أنِّي أُحِبُّها فَهَذا لَها عِنْدِي فَما عِنْدَها لِيا وَيَحْتَمِلُ ثانِيًا: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلى ظاهِرِهِ أنَّهم يَشْهَدُونَ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ اعْتِرافًا بِالإيمانِ ونَفْيًا لِلنِّفاقِ عَنْ أنْفُسِهِمْ، وهو الأشْبَهُ.(p-١٤) وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ ما رَوى أسْباطٌ عَنِ السُّدِّيِّ «أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ كانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في غَزاةٍ وفِيها أعْرابٌ يَتَّبِعُونَ النّاسَ، وكانَ ابْنُ أُبَيٍّ يَصْنَعُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ في كُلِّ يَوْمٍ طَعامًا، فاسْتَقى أعْرابِيٌّ ماءً في حَوْضٍ عَمِلَهُ مِن أحْجارٍ، فَجاءَ رَجُلٌ مِن أصْحابِ ابْنِ أُبَيٍّ بِناقَةٍ لِيَسْقِيَها مِن ذَلِكَ الماءِ فَمَنَعَهُ الأعْرابِيُّ واقْتَتَلا فَشَجَّهُ الأعْرابِيُّ، فَأتى الرَّجُلُ إلى عَبْدِ اللَّهِ [بْنِ أُبَيٍّ] ودَمُهُ يَسِيلُ عَلى وجْهِهِ، فَحَزَنَهُ، فَنافَقَ عَبْدُ اللَّهِ وقالَ: ما لَهم رَدَّ اللَّهُ أمْرَهم إلى تَبالِ، وقالَ لِأصْحابِهِ: لا تَأْتُوا مُحَمَّدًا بِالطَّعامِ حَتّى يَتَفَرَّقَ عَنْهُ الأعْرابُ، فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ وكانَ حَدَثًا، فَأخْبَرَ عَمَّهُ، فَأتى عَمُّهُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَحَدَّثَهُ، فَبَعَثَ إلى ابْنِ أُبَيٍّ وكانَ مِن أوَسَمِ النّاسِ وأحْسَنِهِمْ مَنطِقًا، فَأتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَحَلَفَ: واَلَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ما قُلْتُ مِن هَذا شَيْئًا، فَصَدَّقَهُ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ» . ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ أيْ إنْ نافَقَ مَن نافَقَكَ مَن عَلِمَ اللَّهُ بِأنَّكَ رَسُولُهُ فَلا يَضُرُّكَ. ثُمَّ قالَ: ﴿واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: واَللَّهُ يُقْسِمُ إنَّ المُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ في أيْمانِهِمْ. الثّانِي: مَعْناهُ واَللَّهُ يَعْلَمُ أنَّ المُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ فِيها. ﴿اتَّخَذُوا أيْمانَهم جُنَّةً﴾ والجُنَّةُ: الغِطاءُ المانِعُ مِنَ الأذى، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى مَيْمُونُ. ( ؎ إذا أنْتَ لَمْ تَجْعَلْ لِعِرْضِكَ جُنَّةً ∗∗∗ مِنَ المالِ سارَ الذَّمُّ كُلَّ مَسِيرٍ وَفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: مِنَ السَّبْيِ والقَتْلِ لِيَعْصِمُوا بِها دِماءَهم وأمْوالَهم، قالَهُ قَتادَةُ. الثّانِي: مِنَ المَوْتِ ألّا يُصَلّى عَلَيْهِمْ، فَيَظْهَرُ عَلى جَمِيعِ المُسْلِمِينَ نِفاقُهم، وهَذا مَعْنى قَوْلِ السُّدِّيِّ. وَيُحْتَمَلُ ثالِثًا: جُنَّةٌ تَدْفَعُ عَنْهم فَضِيحَةَ النِّفاقِ.(p-١٥) ﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: عَنِ الإسْلامِ بِتَنْفِيرِ المُسْلِمِينَ عَنْهُ. الثّانِي: عَنِ الجِهادِ بِتَثْبِيطِهِمُ المُسْلِمِينَ وإرْجافِهِمْ بِهِ وتَمَيُّزِهِمْ عَنْهم، قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: ما أخافُ عَلَيْكم رَجُلَيْنِ: مُؤْمِنًا قَدِ اسْتَبانَ إيمانُهُ وكافِرًا قَدِ اسْتَبانَ كُفْرُهُ، ولَكِنْ أخافُ عَلَيْكم مُنافِقًا يَتَعَوَّذُ بِالإيمانِ ويَعْمَلُ بِغَيْرِهِ. ﴿وَإذا رَأيْتَهم تُعْجِبُكَ أجْسامُهُمْ﴾ يَعْنِي حُسْنَ مَنظَرِهِمْ وتَمامَ خَلْقِهِمْ. ﴿وَإنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ يَعْنِي لِحُسْنِ مَنطِقِهِمْ وفَصاحَةِ كَلامِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ ثانِيًا: لِإظْهارِ الإسْلامِ وذِكْرِ مُوافَقَتِهِمْ. ﴿كَأنَّهم خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّهُ شَبَهُهم بِالنَّخْلِ القِيامِ لِحُسْنِ مَنظَرِهِمْ. الثّانِي: [شَبَّهَهُمْ] بِالخُشُبِ النَّخِرَةِ لِسُوءِ مَخْبَرِهِمْ. الثّالِثُ: أنَّهُ شَبَهُهم بِالخُشُبِ المُسَنَّدَةِ لِأنَّهم لا يَسْمَعُونَ الهُدى ولا يَقْبَلُونَهُ، كَما لا تَسْمَعُهُ الخُشُبُ المُسَنَّدَةُ، قالَهُ الكَلْبِيُّ، وقَوْلُهُ: ﴿مُسَنَّدَةٌ﴾ لِأنَّهم يَسْتَنِدُونَ إلى الإيمانِ لِحَقْنِ دِمائِهِمْ. ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّهم لِوَجَلِهِمْ وخُبْثِهِمْ يَحْسُبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ يَسْمَعُونَها - حَتّى لَوْ دَعا رَجُلٌ صاحِبَهِ أوْ صاحَ بِناقَتِهِ - أنَّ العَدُوَّ قَدِ اصْطَلَمَ وأنَّ القَتْلَ قَدْ حَلَّ بِهِمْ، قالَهُ السُّدِّيُّ. الثّانِي: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ كَلامٌ ضَمِيرُهُ فِيهِ ولا يَفْتَقِرُ إلى ما بَعْدَهُ، وتَقْدِيرُهُ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أنَّهم قَدْ فُطِنَ بِهِمْ وعُلِمَ فَقالَ: ﴿هُمُ العَدُوُّ فاحْذَرْهُمْ﴾ وهَذا مَعْنى قَوْلِ الضَّحّاكِ. الثّالِثُ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ يَسْمَعُونَها في المَسْجِدِ أنَّها عَلَيْهِمْ، وأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أمَرَ فِيها بِقَتْلِهِمْ، فَهم أبَدًا وجِلُونَ ثُمَّ وصَفَهُمُ اللَّهُ بِأنْ قالَ: ﴿هُمُ العَدُوُّ فاحْذَرْهُمْ﴾ حَكاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي حاتِمٍ. وَفي قَوْلِهِ: ﴿فاحْذَرْهُمْ﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما: فاحْذَرْ أنْ تَثِقَ بِقَوْلِهِمْ وتَمِيلَ إلى كَلامِهِمْ. الثّانِي: فاحْذَرْ مُمايَلَتَهم لِأعْدائِكَ وتَخْذِيلِهَمْ لِأصْحابِكَ.(p-١٦) ﴿قاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: مَعْناهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو مالِكٍ. والثّانِي: أيْ أحَلَّهُمُ اللَّهُ مَحَلَّ مَن قاتَلَهُ عَدُوٌّ قاهِرٌ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قاهِرٌ لِكُلِّ مُعانِدٍ، حَكاهُ ابْنُ عِيسى. وَفي قَوْلِهِ: ﴿أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ أرْبَعَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: مَعْناهُ يَكْذِبُونَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. الثّانِي: مَعْناهُ يَعْدِلُونَ عَنِ الحَقِّ، قالَهُ قَتادَةُ. الثّالِثُ: مَعْناهُ يُصْرَفُونَ عَنِ الرُّشْدِ، قالَهُ الحَسَنُ. الرّابِعُ: مَعْناهُ كَيْفَ يَضِلُّ عُقُولُهم عَنْ هَذا، قالَهُ السُّدِّيُّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب