سُورَةُ الحَشْرِ
قَوْلُهُ تَعالى
﴿هُوَ الَّذِي أخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ يَعْنِي يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ.
﴿مِن دِيارِهِمْ﴾ يَعْنِي مِن مَنازِلِهِمْ.
﴿لأوَّلِ الحَشْرِ﴾ أجْلاهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِن أُحُدٍ إلى أذْرُعاتِ الشّامِ، وأعْطى كُلَّ ثَلاثَةٍ بِعِيرًا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ ما اسْتَقَلَّ إلّا السِّلاحَ، وكانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ عاهَدَهم حِينَ هاجَرَ إلى المَدِينَةِ أنْ لا يُقاتِلُوا مَعَهُ ولا عَلَيْهِ، فَكَفُّوا يَوْمَ بَدْرٍ لِظُهُورِ المُسْلِمِينَ، وأعانُوا المُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ رَأوْا ظُهُورَهم عَلى المُسْلِمِينَ، فَقَتَلَ رَئِيسُهم كَعْبَ بْنَ الأشْرَفِ، قَتَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ غِيلَةً.
ثُمَّ سارَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللِّهِ ﷺ فَحاصَرَهم ثَلاثًا وعِشْرِينَ لَيْلَةً مُحارِبًا حَتّى أجْلاهم عَنِ المَدِينَةِ.
فِي قَوْلِهِ
﴿لأوَّلِ الحَشْرِ﴾ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ:
أحَدُها: لِأنَّهم أوَّلُ مَن أجْلاهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ اليَهُودِ، قالَهُ ابْنُ حِبّانَ.
الثّانِي: لِأنَّهُ أوَّلُ حَشْرِهِمْ، لِأنَّهم يُحْشَرُونَ بَعْدَها إلى أرْضِ المَحْشَرِ في القِيامَةِ، قالَهُ الحَسَنُ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
«أنَّهُ لَمّا أجْلى بَنِي النَّضِيرِ قالَ لَهُمُ (امْضُوا فَهَذا أوَّلُ الحَشْرِ وأنا عَلى الأثَرِ).»الثّالِثُ: أنَّهُ أوَّلُ حَشْرِهِمْ لِما ذَكَرَهُ قَتادَةُ أنَّهُ يَأْتِي عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِن مَشْرِقِ الشَّمْسِ نارٌ تَحْشُرُهم إلى مَغْرِبِها تَبِيتُ مَعَهم إذا باتُوا [وَتَقِيلُ مَعَهم حَيْثُ قالُوا] وتَأْكُلُ مِنهم مَن تَخَلَّفَ.
﴿ما ظَنَنْتُمْ أنْ يَخْرُجُوا﴾ يَعْنِي مِن دِيارِهِمْ لِقُوَّتِهِمْ وامْتِناعِهِمْ.
﴿وَظَنُّوا أنَّهم مانِعَتُهم حُصُونُهم مِنَ اللَّهِ﴾ أيْ مِن أمْرِ اللَّهِ.
﴿فَأتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ فِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: لَمْ يَحْتَسِبُوا بِأمْرِ اللَّهِ.
الثّانِي: قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ والسُّدِّيُّ: مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا بِقَتْلِ ابْنِ الأشْرَفِ.
﴿وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ فِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: لِخَوْفِهِمْ مِن رَسُولِ اللَّهِ.
الثّانِي: بِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ.
﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهم بِأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤْمِنِينَ﴾ فِيهِ خَمْسَةُ أوْجُهٍ:
أحَدُها: بِأيْدِيهِمْ بِنَقْضِ المُوادَعَةِ، وأيْدِي المُؤْمِنِينَ بِالمُقاتَلَةِ، قالَهُ الزُّهْرِيُّ.
الثّانِي: بِأيْدِيهِمْ في تَرْكِها، وأيْدِي المُؤْمِنِينَ في إجْلائِهِمْ عَنْها، قالَهُ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ.
الثّالِثُ: بِأيْدِيهِمْ في إخْرابِ دَواخِلِها وما فِيها لِئَلّا يَأْخُذَها المُسْلِمُونَ، وبِأيْدِي المُؤْمِنِينَ في إخْرابِ ظَواهِرِها لِيَصِلُوا بِذَلِكَ إلَيْهِمْ.
قالَ عِكْرِمَةُ: كانَتْ مَنازِلُهم مُزَخْرَفَةً فَحَسَدُوا المُسْلِمِينَ أنْ يَسْكُنُوها فَخَرَّبُوها مِن داخِلٍ، وخَرَّبَها المُسْلِمُونَ مِن خارِجٍ.
الرّابِعُ: مَعْناهُ: أنَّهم كانُوا كُلَّما هَدَمَ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ مِن حُصُونِهِمْ شَيْئًا نَقَضُوا مِن بُيُوتِهِمْ ما يَبْنُونَ بِهِ مِن حُصُونِهِمْ، قالَهُ الضَّحّاكُ.
الخامِسُ: أنَّ تَخْرِيبَهِمْ بُيُوتَهم أنَّهم لَمّا صُولِحُوا عَلى حِمْلٍ ما أقَلَّتْهُ إبِلُهم جَعَلُوا يَنْقُضُونَ ما أعْجَبَهم مِن بُيُوتِهِمْ حَتّى الأوْتارِ لِيَحْمِلُوها عَلى إبِلِهِمْ، قالَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وابْنُ زَيْدٍ.
وَفِي قَوْلِهِ
﴿يُخْرِبُونَ﴾ قِراءَتانِ: بِالتَّخْفِيفِ، وبِالتَّشْدِيدِ، وفِيهِما وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّ مَعْناهُما واحِدٌ ولَيْسَ بَيْنَهُما فَرْقٌ.
الثّانِي: أنَّ مَعْناهُما مُخْتَلِفٌ.
وَفي الفَرْقِ بَيْنَهُما وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّ مَن قَرَأ بِالتَّشْدِيدِ أرادَ إخْرابَها بِأفْعالِهِمْ، ومَن قَرَأ بِالتَّخْفِيفِ أرادَ إخْرابَها بِفِعْلِ غَيْرِهِمْ قالَهُ أبُو عَمْرٍو.
الثّانِي: أنَّ مَن قَرَأ بِالتَّشْدِيدِ أرادَ إخْرابَها بِهَدْمِهِمْ لَها.
وَبِالتَّخْفِيفِ أرادَ فَراغَها بِخُرُوجِهِمْ عَنْها، قالَهُ الفَرّاءُ.
وَلِمَن تَعَمَّقَ بِغَوامِضِ المَعانِي في تَأْوِيلِ ذَلِكَ وجْهانِ:
أحَدُهُما: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهم أيْ يُبْطِلُونَ أعْمالَهم بِأيْدِيهِمْ، يَعْنِي بِاتِّباعِ البِدَعِ، وأيْدِي المُؤْمِنِينَ في مُخالَفَتِهِمْ.
﴿وَلَوْلا أنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاءَ﴾ فِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: يَعْنِي بِالجَلاءِ الفَناءَ
﴿لَعَذَّبَهم في الدُّنْيا﴾ بِالسَّبْيِ.
والثّانِي: يَعْنِي بِالجَلاءِ الإخْراجَ عَنْ مَنازِلِهِمْ
﴿لَعَذَّبَهم في الدُّنْيا﴾ يَعْنِي بِالقَتْلِ، قالَهُ عُرْوَةُ.
والفَرْقُ بَيْنَ الجَلاءِ والإخْراجِ - وإنْ كانَ مَعْناهُما في الإبْعادِ واحِدٌ - مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ الجَلاءَ ما كانَ مَعَ الأهْلِ والوَلَدِ، والإخْراجَ قَدْ يَكُونُ مَعَ بَقاءِ الأهْلِ والوَلَدِ.
الثّانِي: أنَّ الجَلاءَ لا يَكُونُ إلّا لِجَماعَةٍ، والإخْراجَ يَكُونُ لِجَماعَةٍ ولِواحِدٍ.
﴿ما قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإذْنِ اللَّهِ﴾ وذَلِكَ
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا نَزَلَ عَلى حُصُونِ بَنِي النَّضِيرِ وهي البُوَيْرَةُ حِينَ نَقَضُوا العَهْدَ بِمَعُونَةِ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ قَطَعَ المُسْلِمُونَ مِن نَخْلِهِمْ وأحْرَقُوا سِتَّ نَخْلاتٍ»، وحَكى مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ أنَّهم قَطَعُوا نَخْلَةً وأحْرَقُوا نَخْلَةً، وكانَ ذَلِكَ عَنْ إقْرارِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أوْ بِأمْرِهِ، إمّا لِإضْعافِهِمْ بِها أوْ لِسَعَةِ المَكانِ بِقَطْعِها، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقالُوا وهم يَهُودُ أهْلِ كِتابٍ: يا مُحَمَّدُ ألَسْتَ تَزْعُمُ أنَّكَ نَبِيٌّ تُرِيدُ الإصْلاحَ؟ أفَمِنَ الصَّلاحِ حَرْقُ الشَّجَرِ وقَطْعُ النَّخْلِ؟ وقالَ شاعِرُهم سِماكٌ اليَهُودِيُّ
ألَسْنا ورِثْنا كِتابَ الحَكِيمِ عَلى عَهْدِ مُوسى ولَمْ نَصْدِفِ ∗∗∗ وأنْتُمْ رِعاءٌ لِشاءٍ عِجافٍ ∗∗∗ بِسَهْلِ تِهامَةَ والأخْيَفِ ∗∗∗ تَرَوْنَ الرِّعايَةَ مَجْدًا لَكم ∗∗∗ لَدى كُلِّ دَهْرٍ لَكم مُجْحِفٌ ∗∗∗ فَيا أيُّها الشّاهِدُونَ انْتَهُوا ∗∗∗ عَنِ الظُّلْمِ والمَنطِقِ المُؤْنِفِ ∗∗∗ لَعَلَّ اللَّيالِي وصَرْفَ الدُّهُورِ ∗∗∗ يُدَلْنَ عَنِ العادِلِ المُنْصِفِ ∗∗∗ بِقَتْلِ النَّضِيرِ وإجْلائِها ∗∗∗ وعَقْرِ النَّخِيلِ ولَمْ تُقْطَفْ
فَأجابَهُ حَسّانُ بْنُ ثابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
هم أُوتُوُا الكِتابَ فَضَيَّعُوهُ ∗∗∗ وهم عُمْيٌ عَنِ التَّوْراةِ بُورُ ∗∗∗ كَفَرْتُمْ بِالقُرْآنِ وقَدْ أتَيْتُمْ ∗∗∗ بِتَصْدِيقِ الَّذِي قالَ النَّذِيرُ ∗∗∗ وهانَ عَلى سَراةِ بَنِي لُؤَيٍّ ∗∗∗ حَرِيقٌ بِالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
ثُمَّ إنَّ المُسْلِمِينَ جَلَّ في صُدُورِهِمْ ما فَعَلُوهُ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: هَذا فَسادٌ، وقالَ آخَرُونَ مِنهم عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: هَذا مِمّا يَجْزِي اللَّهُ بِهِ أعْداءَهُ ويَنْصُرُ أوْلِياءَهُ فَقالُوا يا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَنا فِيما قَطَعْنا مِن أجْرٍ؟ وهَلْ عَلَيْنا فِيما تَرَكْنا مِن وِزْرٍ؟ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ حَتّى أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى:
﴿ما قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ﴾ الآيَةَ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ.
وَفِي اللِّينَةِ خَمْسَةُ أقاوِيلَ:
أحَدُها: النَّخْلَةُ مِن أيِّ الأصْنافِ كانَتْ، قالَهُ ابْنُ حِبّانَ.
الثّانِي: أنَّها كِرامُ النَّخْلِ، قالَهُ سُفْيانُ.
الثّالِثُ: أنَّها العَجْوَةُ خاصَّةً، قالَهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وذَكَرَ أنَّ العَتِيقَ والعَجْوَةَ كانا مَعَ نُوحٍ في السَّفِينَةِ، والعَتِيقُ الفَحْلُ، وكانَتِ العَجْوَةُ أصْلَ الإناثِ كُلِّها ولِذَلِكَ شَقَّ عَلى اليَهُودِ قَطْعُها.
الرّابِعُ: أنَّ اللِّينَةَ الفَسِيلَةُ لِأنَّها ألْيَنُ مِنَ النَّخْلَةِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ
غَرَسُوا لِينَها بِمَجْرى مَعِينٍ ∗∗∗ ثُمَّ حَفُّوا النَّخِيلَ بِالآجامِ
الخامِسُ: أنَّ اللِّينَةَ جَمِيعُ الأشْجارِ لِلِينِها بِالحَياةِ، ومِنهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ
طِراقُ الخَوافِي واقِعٌ فَوْقَ لِينَةٍ ∗∗∗ نَدى لَيْلَةٍ في رِيشِهِ يَتَرَقْرَقُ
قالَ الأخْفَشُ: سُمِّيَتْ لِينَةً اشْتِقاقًا مِنَ اللَّوْنِ لا مِنَ اللِّينِ.