الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن أجْلِ ذَلِكَ﴾ يَعْنِي مِن أجْلِ أنَّ ابْنَ آدَمَ قَتَلَ أخاهُ ظُلْمًا. ﴿كَتَبْنا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ في الأرْضِ﴾ يَعْنِي مَن قَتَلَ نَفْسًا ظُلْمًا بِغَيْرِ نَفْسٍ قُتِلَتْ، فَيُقْتَلُ قِصاصًا، أوْ فَسادٍ في الأرْضِ اسْتَحَقَّتْ بِهِ القَتْلَ، الفَسادُ في الأرْضِ يَكُونُ بِالحَرْبِ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ وإخافَةِ السَّبِيلِ. (p-٣٢)﴿فَكَأنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا ومَن أحْياها فَكَأنَّما أحْيا النّاسَ جَمِيعًا﴾ فِيهِ سِتَّةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: يَعْنِي مَن قَتَلَ نَبِيًّا أوْ إمامَ عَدْلٍ، فَكَأنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا، ومَن شَدَّ عَلى يَدِ نَبِيٍّ أوْ إمامِ عَدْلٍ، فَكَأنَّما أحْيا النّاسَ جَمِيعًا، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: مَعْناهُ فَكَأنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا عِنْدَ المَقْتُولِ، ومَن أحْياها فاسْتَنْقَذَها مِن هَلَكَةٍ، فَكَأنَّما أحْيا النّاسَ جَمِيعًا عِنْدَ المُسْتَنْقِذِ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ. والثّالِثُ: مَعْناهُ أنَّ قاتِلَ النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ القَوَدِ والقَصاصِ مِثْلُ ما يَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا، ومَن أحْياها بِالعَفْوِ عَنِ القاتِلِ، أعْطاهُ اللَّهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلَ ما لَوْ أحْيا النّاسَ جَمِيعًا، وهَذا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ وأبِيهِ. والرّابِعُ: مَعْناهُ أنَّ قاتِلَ النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ يَصْلى النّارَ كَما يَصْلاها لَوْ قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا، ومَن أحْياها، يَعْنِي سَلِمَ مِن قَتْلِها، [فَكَأنَّما] سَلِمَ مِن قَتْلِ النّاسِ جَمِيعًا، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ. والخامِسُ: أنَّ عَلى جَمِيعِ النّاسِ (جِنايَةُ القَتْلِ كَما لَوْ قَتَلَهم جَمِيعًا، ومَن أحْياها بِإنْجائِها مِن غَرَقٍ أوْ حَرَقٍ أوْ هَلَكَةٍ، فَعَلَيْهِمْ شُكْرُهُ كَما لَوْ أحْياهم جَمِيعًا. والسّادِسُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى عَظَّمَ أجْرَها ووِزْرَها فَإحْياؤُها [يَكُونُ] بِمالِكَ أوْ عَفْوِكَ، وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ، وقَتادَةَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا﴾ اخْتُلِفَ فِيمَن نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الآيَةُ عَلى ثَلاثَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّها نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِن أهْلِ الكِتابِ كانَ بَيْنَهم وبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ عَهْدٌ ومِيثاقٌ فَنَقَضُوا العَهْدَ وأفْسَدُوا في الأرْضِ، فَعَرَّفَ اللَّهُ نَبِيَّهُ الحُكْمَ فِيهِمْ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ. الثّانِي: أنَّها نَزَلَتْ في العُرَنِيِّينَ ارْتَدُّوا عَنِ الإسْلامِ وقَتَلُوا راعِيَ النَّبِيِّ ﷺ واسْتاقُوا إبِلَهُ، وهَذا قَوْلُ أنَسِ بْنِ مالِكٍ، وقَتادَةَ. والثّالِثُ: أنَّها نَزَلَتْ إخْبارًا مِنَ اللَّهِ تَعالى بِحُكْمِ مَن حارَبَ اللَّهَ ورَسُولَهُ، وسَعى في الأرْضِ فَسادًا. (p-٣٣)واخْتُلِفَ في المُسْتَحِقِّ اسْمَ المُحارِبِ لِلَّهِ ورَسُولِهِ الَّذِي يَلْزَمُهُ حُكْمُ هَذِهِ الآيَةِ عَلى ثَلاثَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّهُ الزِّنى والقَتْلُ والسَّرِقَةُ، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ. والثّانِي: أنَّهُ المُجاهِرُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ والمُكابِرُ بِاللُّصُوصِيَّةِ في المِصْرِ وغَيْرِهِ، وهَذا قَوْلُ الشّافِعِيِّ، ومالِكٍ، والأوْزاعِيِّ. والثّالِثُ: أنَّهُ المُجاهِرُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ دُونَ المُكابِرِ في المِصْرِ، وهَذا قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ، وعَطاءٍ الخُراسانِيِّ. ﴿أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم مِن خِلافٍ أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ﴾ جَعَلَ اللَّهُ هَذا حُكْمَ المُحارِبِ، وفِيهِ قَوْلانِ أحَدُهُما: أنَّها عَلى التَّخْيِيرِ وأنَّ الإمامَ فِيهِمْ بِالخِيارِ بَيْنَ أنْ يَقْتُلَ أوْ يَصْلِبَ أوْ يَقْطَعَ أوْ يَنْفِيَ، وهَذا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، ومُجاهِدٍ، وعَطاءٍ، وإبْراهِيمَ. والثّانِي: أنَّها مَرْتَبَةٌ تَخْتَلِفُ عَلى قَدْرِ اخْتِلافِ الأفْعالِ: أنْ يُقْتَلُوا إذا قَتَلُوا، أوْ يُصْلَبُوا إذا قَتَلُوا وأخَذُوا المالَ، أوْ تُقْطَعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم مِن خِلافٍ إذا أخَذُوا المالَ ولَمْ يَقْتُلُوا، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، والحَسَنِ، وقَتادَةَ، والسُّدِّيِّ. وَرَوى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي حَبِيبٍ «أنَّ عَبْدَ المَلِكِ بْنَ مَرْوانَ كَتَبَ إلى أنَسِ بْنِ مالِكٍ يَسْألُهُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَكَتَبَ إلَيْهِ أنْسٌ يُخْبِرُهُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في أُولَئِكَ العُرَنِيِّينَ وهم مِن بَجِيلَةَ، فَسَألَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جِبْرِيلَ عَنِ القِصاصِ فِيمَن حارَبَ، فَقالَ: مَن سَرَقَ وأخافَ السَّبِيلَ فاقْطَعْ يَدَهُ لِسَرِقَتِهِ ورِجْلَهُ لِإخافَتِهِ، ومَن قَتَلَ فاقْتُلْهُ، ومَن قَتَلَ وأخافَ السَّبِيلَ واسْتَحَلَّ الفَرْجَ فاصْلُبْهُ. » أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ﴾ فَقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ عَلى أرْبَعَةِ أوْجُهٍ: (p-٣٤)أحَدُها: أنَّهُ نَفْيُهم وإبْعادُهم مِن بِلادِ الإسْلامِ إلى بِلادِ الشِّرْكِ، وهو قَوْلُ أنَسٍ: والحَسَنِ، وقَتادَةَ، والسُّدِّيِّ، والزُّهْرِيِّ، والضِّحّاكِ، والرَّبِيعِ. والثّانِي: أنَّهُ إخْراجُهم مِن مَدِينَةٍ إلى أُخْرى، وهو قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. والثّالِثُ: أنَّهُ الحَبْسُ، وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ. والرّابِعُ: هو أنْ يَطْلُبُوا لِتُقامَ الحُدُودُ عَلَيْهِمْ فَيُبْعَدُوا، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، والشّافِعِيِّ، واللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ فِيهِ سِتَّةُ أقاوِيلَ، أحَدُها: إلّا الَّذِينَ تابُوا مِن شِرْكِهِمْ وسَعْيِهِمْ في الأرْضِ فَسادًا بِإسْلامِهِمْ، فَأمّا المُسْلِمُونَ فَلا تَسْقُطُ التَّوْبَةُ عَنْهم حَدًّا وجَبَ عَلَيْهِمْ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، والحَسَنِ، ومُجاهِدٍ، وقَتادَةَ. الثّانِي: إلّا الَّذِينَ تابُوا مِنَ المُسْلِمِينَ المُحارِبِينَ بِأمانٍ مِنَ الإمامِ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، فَأمّا التّائِبُ بِغَيْرِ أمانٍ فَلا، وهَذا قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، والشَّعْبِيِّ، ورَوى الشَّعْبِيُّ أنَّ خارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ خَرَجَ مُحارِبًا فَأخافَ السَّبِيلَ، وسَفَكَ الدِّماءَ، وأخَذَ الأمْوالَ، وجاءَ تائِبًا مِن قَبْلِ القُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَقَبِلَ عَلِيٌّ تَوْبَتَهُ وجَعَلَ لَهُ أمانًا مَنشُورًا عَلى ما كانَ أصابَ مِن دَمٍ ومالٍ. والثّالِثُ: إلّا الَّذِينَ تابُوا بَعْدَ أنْ لَحِقُوا بِدارِ الحَرْبِ وإنْ كانَ مُسْلِمًا ثُمَّ جاءَ تائِبًا قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ، وهَذا قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. والرّابِعُ: إنْ كانَ في دارِ الإسْلامِ في مَنَعَةٍ ولَهُ فِئَةٌ يَلْجَأُ إلَيْها وتابَ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَمْتَنِعُ بِها [وَتابَ] لَمْ [تُسْقِطْ] عَنْهُ تَوْبَتُهُ شَيْئًا مِن عُقُوبَتِهِ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، ورَبِيعَةَ، والحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ. والخامِسُ: أنَّ تَوْبَتَهُ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ تَضَعُ عَنْهُ حُدُودَ اللَّهِ تَعالى دُونَ حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ، وهَذا قَوْلُ الشّافِعِيِّ. والسّادِسُ: أنَّ تَوْبَتَهُ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ تَضَعُ عَنْهُ سائِرَ الحُقُوقِ والحُدُودِ إلّا الدِّماءَ، وهَذا مَذْهَبُ مالِكٍ.(p-٣٥)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب