الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ﴾ فِيهِ سِتَّةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قامَ يَوْمًا يُصَلِّي فَخَطَرَ خَطْرَةً فَقالَ المُنافِقُونَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ إنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ قَلْبًا مَعَكم وقَلْبًا مَعَهم فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ تَكْذِيبًا لَهُمْ;» قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ويَكُونُ مَعْناهُ ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن جَسَدَيْنِ. الثّانِي: أنَّ رَجُلًا مِن مُشْرِكِي قُرَيْشٍ مِن بَنِي فِهْرٍ قالَ: إنَّ في جَوْفِي قَلْبَيْنِ أعْقِلُ بِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما أفْضَلَ مِن عَقْلِ مُحَمَّدٍ وكَذَبَ فَنَزَلَتْ فِيهِ، قالَهُ مُجاهِدٌ. وَيَكُونُ مَعْناهُ: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن عَقْلَيْنِ. الثّالِثُ: أنَّ جَمِيلَ بْنَ مَعْمَرٍ ويُكَنّى أبا مَعْمَرٍ مِن بَنِي جُمَحٍ كانَ أحْفَظَ النّاسِ لِما يَسْمَعُ وكانَ ذا فَهْمٍ ودَهاءٍ فَقالَتْ قُرَيْشٌ ما يَحْفَظُ جَمِيلٌ ما يَحْفَظُ بِقَلْبٍ واحِدٍ إنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ فَلَمّا كانَ يَوْمُ بَدْرٍ وهُزِمُوا أفْلَتَ وفي يَدَيْهِ إحْدى نَعْلَيْهِ والأُخْرى في رِجْلَيْهِ فَلَقِيَهُ أبُو سُفْيانَ بِشاطِئِ البَحْرِ فاسْتَخْبَرَهُ فَأخْبَرَهُ أنَّ قُرَيْشًا قُتِلُوا وسَمّى مَن قُتِلَ مِن (p-٣٧١)أشْرافِهِمْ، قالَ لَهُ: إنَّهُ قَدْ ذَهَبَ عَقْلُكَ فَما بالُ نَعْلَيْكَ إحْداهُما في يَدِكَ والأُخْرى في رَجُلِكَ؟ قالَ: ما كُنْتُ أظُنُّها إلّا في رِجْلَيَّ فَظَهَرَ لَهم حالَهُ فَنَزَلَتْ فِيهِ الآيَةُ، قالَهُ السُّدِّيُّ ويَكُونُ مَعْناهُ: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن فَهْمَيْنِ. الرّابِعُ: أنَّ رَجُلًا كانَ يَقُولُ إنَّ لِي نَفْسَيْنِ نَفْسًا تَأْمُرُنِي ونَفْسًا تَنْهانِي فَنَزَلَ ذَلِكَ فِيهِ، قالَهُ الحَسَنُ ويَكُونُ مَعْناهُ: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن نَفْسَيْنِ. الخامِسُ: أنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِزَيْدِ بْنِ حارِثَةَ حِينَ تَبَنّاهُ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ أنْ أعْتَقَهُ فَلَمّا نَزَلَ تَحْرِيمُ التَّبَنِّي مُنِعَ مِنِ ادِّعائِهِ ولَدًا ونَزَلَ فِيهِ ﴿ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ﴾ يَقُولُ: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن أبَوَيْنِ، كَذَلِكَ لا يَكُونُ لِزَيْدٍ أبَوانِ حارِثَةُ ومُحَمَّدٌ ﷺ، قالَهُ مُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ. وَفِيهِ إثْباتٌ لِمَذْهَبِ الشّافِعِيِّ في نَفْيِ الوَلَدِ عَنْ أبَوَيْنِ ويَكُونُ مَعْناهُ: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن أبَوَيْنِ. السّادِسُ: مَعْناهُ: أنَّهُ لا يَكُونُ لِرَجُلٍ قَلْبٌ مُؤْمِنٌ مَعَنا وقَلْبٌ كافِرٌ عَلَيْنا لِأنَّهُ لا يَجْتَمِعُ الإيمانُ والكُفْرُ في قَلْبٍ واحِدٍ ويَكُونُ مَعْناهُ: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن دِينَيْنِ، حَكاهُ النَّقّاشُ. ﴿وَما جَعَلَ أزْواجَكُمُ اللائِي تُظاهِرُونَ مِنهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ﴾ وهو أنْ يَقُولَ لِزَوْجَتِهِ أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهَذا ظِهارٌ كانُوا في الجاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ بِهِ الزَّوْجاتِ ويَجْعَلُونَهُنَّ في التَّحْرِيمِ كالأُمَّهاتِ، فَأبْطَلَ اللَّهُ بِذَلِكَ أنْ تَصِيرَ مُحَرَّمَةً كالأُمِّ لِأنَّها لَيْسَتْ بِأُمٍّ وأوْجَبَ عَلَيْهِ بِالظِّهارِ مِنها إذا صارَ فِيهِ عامِدًا كَفّارَةً ذَكَرَها في سُورَةِ المُجادِلَةِ ومَنَعَهُ مِن إصابَتِها حَتّى يُكَفِّرَ وسَنَذْكُرُ ذَلِكَ في مَوْضِعِهِ مِن هَذا الكِتابِ. ﴿وَما جَعَلَ أدْعِياءَكم أبْناءَكُمْ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ أدْعِياءَ النَّبِيِّ. قالَ مُجاهِدٌ كانَ الرَّجُلُ في الجاهِلِيَّةِ يَكُونُ ذَلِيلًا فَيَأْتِي ذا القُوَّةِ والشَّرَفِ فَيَقُولُ: أنا ابْنُكَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَإذا قَبِلَهُ واتَّخَذَهُ ابْنًا أصْبَحَ أعَزَّ أهْلِهِ وكانَ زَيْدُ بْنُ حارِثَةَ مِنهم قَدْ تَبَنّاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى ما كانَ يَصْنَعُ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ فَلَمّا جاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ أمَرَهُمُ اللَّهُ أنْ يُلْحِقُوهم بِآبائِهِمْ فَقالَ: ﴿وَما جَعَلَ أدْعِياءَكم أبْناءَكُمْ﴾ في الإسْلامِ. (p-٣٧٢)﴿ذَلِكم قَوْلُكم بِأفْواهِكُمْ﴾ أنَّ امْرَأتَهُ بِالظِّهارِ أُمُّهُ وأنَّ دَعِيَّهُ بِالتَّبَنِّي ابْنُهُ ﴿واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ﴾ في أنَّ الزَّوْجَةَ لا تَصِيرُ في الظِّهارِ أُمًّا والدَّعِيَّ لا يَصِيرُ بِالتَّبَنِّي ابْنًا. ﴿وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ يَعْنِي في إلْحاقِ النَّسَبِ بِالأبِ، وفي الزَّوْجَةِ أنَّها لا تَصِيرُ كالأُمِّ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ادْعُوهم لآبائِهِمْ﴾ يَعْنِي التَّبَنِّيَ: قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ما كُنّا نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حارِثَةَ إلّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ إلى أنْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ادْعُوهم لآبائِهِمْ﴾ قالَ السُّدِّيُّ فَدَعاهُ النَّبِيُّ ﷺ إلى حارِثَةَ وعَرِفَ كُلٌّ نَسَبَهُ فَأقَرُّوا بِهِ وأثْبَتُوا نَسَبَهُ. ﴿هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أيْ أعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ قَوْلًا وحُكْمًا. ﴿فَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهم فَإخْوانُكم في الدِّينِ ومَوالِيكُمْ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: فانْسُبُوهم إلى أسْماءِ إخْوانِكم ومُوالِيكم مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ وعُبَيْدِ اللَّهِ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ وعَبْدِ الرَّحِيمِ وعَبْدِ العَزِيزِ، قالَهُ مُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ. الثّانِي: قُولُوا أخُونا فُلانٌ ووَلِيُّنا فُلانٌ، قالَهُ يَحْيى بْنُ سَلّامٍ. وَرَوى مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ قالَ: جَلَسَ نَفَرٌ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ مِنهم جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأنْصارِيُّ فَتَفاخَرُوا بِالآباءِ فَجَعَلَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم يَقُولُ أنا فُلانُ بْنُ فُلانٍ حَتّى انْتَهَوْا إلى سَلْمانَ فَقالَ أنا سَلْمانُ ابْنُ الإسْلامِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ فَقالَ: صَدَقَ سَلْمانُ وأنا عُمَرُ بْنُ الإسْلامِ وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَإخْوانُكم في الدِّينِ﴾ . الثّالِثُ: إنَّهُ إنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهم أبٌ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ كانُوا إخْوانًا إنْ كانُوا أحْرارًا، ومَوالِيَ إنْ كانُوا عُتَقاءَ كَما فَعَلَ المُسْلِمُونَ فِيمَن عَرَفُوا نَسَبَهُ وفِيمَن لَمْ يَعْرِفُوهُ فَإنَّ المِقْدادَ بْنَ عَمْرٍو كانَ يُقالُ لَهُ المِقْدادُ بْنُ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ، فَرَجَعَ إلى أبِيهِ وسُفْيانُ بْنُ مَعْمَرٍ كانَتْ أُمُّهُ امْرَأةَ مَعْمَرٍ في الجاهِلِيَّةِ فادَّعاهُ ابْنًا ثُمَّ أسْلَمَ سُفْيانُ وشَهِدَ بَدْرًا فَنُسِبَ إلى أبِيهِ ونَسَبِهِ في بَنِي زُرَيْقٍ مِنَ الأنْصارِ. وَمِمَّنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ أبٌ سالِمٌ، مَوْلى أبِي حُذَيْفَةَ ونُسِبَ إلى ولاءِ أبِي حُذَيْفَةَ. ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ فِيما أخْطَأْتُمْ بِهِ ولَكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: ما أخْطَأْتُمْ قَبْلَ النَّهْيِ وما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكم بَعْدَ النَّهْيِ في هَذا وغَيْرِهِ، قالَهُ مُجاهِدٌ. (p-٣٧٣)الثّانِي: ما أخْطَأْتُمْ بِهِ ما سَهَوْتُمْ عَنْهُ، وما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكم ما قَصَدْتُمُوهُ عَنْ عَمْدٍ، قالَهُ حَبِيبُ بْنُ أبِي ثابِتٍ. الثّالِثُ: ما أخْطَأْتُمْ بِهِ أنْ تَدْعُوهُ إلى غَيْرِ أبِيهِ، قالَهُ قَتادَةُ. ﴿وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أيْ غَفُورًا عَمّا كانَ في الشِّرْكِ، رَحِيمًا بِقَبُولِ التَّوْبَةِ في الإسْلامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب