الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فانْطَلَقا حَتّى إذا رَكِبا في السَّفِينَةِ خَرَقَها﴾ لِأنَّهُ أرادَ أنْ يَعْبُرَ في البَحْرِ إلى أرْضٍ أُخْرى فَرَكِبَ في السَّفِينَةِ وفِيها رُكّابٌ، فَأخَذَ الخَضِرُ فَأْسًا ومِنقارًا فَخَرَقَ السَّفِينَةَ حَتّى دَخَلَها الماءُ وقِيلَ إنَّهُ قَلَعَ مِنها لَوْحَيْنِ فَضَجَّ رُكّابُها مِنَ الغَرَقِ. فَـ قالَ لَهُ مُوسى ﴿أخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أهْلَها﴾ وإنْ كانَ في غَرَقِها غَرَقُ جَمِيعِهِمْ لَكِنَّهُ أشْفَقَ عَلى القَوْمِ أكْثَرَ مِن إشْفاقِهِ عَلى نَفْسِهِ لِأنَّها عادَةُ الأنْبِياءِ. ثُمَّ قالَ بَعْدَ تَعَجُّبِهِ وإكْبارِهِ ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا﴾ فَأكْبَرَ ثُمَّ أنْكَرَ، وفي الإمْرِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: يَعْنِي مُنْكَرًا، قالَهُ مُجاهِدٌ. الثّانِي: عَجَبًا، قالَهُ مُقاتِلٌ. الثّالِثُ: أنَّ الإمْرَ الدّاهِيَةُ العَظِيمَةُ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ وأنْشَدَ: ؎ قَدْ لَقِيَ الأقْرانُ مِنِّي نُكْرًا داهِيَةً دَهْياءَ إدًّا إمْرا وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الإمْرِ وهو الفاسِدُ الَّذِي يَحْتاجُ إلى الصَّلاحِ، ومِنهُ رَجُلٌ إمْرٌ إذا كانَ ضَعِيفَ الرَّأْيِ لِأنَّهُ يَحْتاجُ أنْ يُؤْمَرَ حَتّى يَقْوى رَأْيُهُ، ومِنهُ أمِرَ القَوْمُ إذا أكْثَرُوا لِأنَّهم يَحْتاجُونَ إلى مَن يَأْمُرُهم ويَنْهاهم. قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: بِما نَسِيتُهُ وغَفَلْتُ عَنْهُ فَلَمْ أذْكُرْهُ، وقَدْ رَفَعَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. الثّانِي: بِما كَأنِّي نَسِيتُهُ، ولَمْ أنْسَهُ في الحَقِيقَةِ. حَكى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: لَمْ يَنْسَ ولَكِنَّها مَعارِيضُ الكَلامِ. الثّالِثُ: بِما تَرَكْتُهُ مِن عَهْدِكَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، مَأْخُوذٌ مِنَ النِّسْيانِ الَّذِي هو التَّرْكُ لا مِنَ النِّسْيانِ الَّذِي هو مِنَ السَّهْوِ. ﴿وَلا تُرْهِقْنِي مِن أمْرِي عُسْرًا﴾ فِيهِ أرْبَعَةُ أوْجُهٍ: (p-٣٢٨)أحَدُها: لا تُعَنِّفْنِي عَلى ما تَرَكْتُ مِن وصِيَّتِكَ، قالَهُ الضَّحّاكُ. الثّانِي: لا يَغْشَنِي مِنكَ العُسْرُ، مِن قَوْلِهِمْ غُلامٌ مُراهِقٌ إذا قارَبَ أنْ يَغْشاهُ البُلُوغُ، ومِنهُ حَدِيثُ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: (ارْهَقُوا القِبْلَةَ) أيِ اغْشَوْها واقْرَبُوا مِنها. » الثّالِثُ: لا تُكَلِّفْنِي ما لا أقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ التَّحَفُّظِ عَنِ السَّهْوِ والنِّسْيانِ، وهو مَعْنى قَوْلِ مُقاتِلٍ: الرّابِعُ: لا يَلْحَقْنِي مِنكَ طَرْدِي عَنْكَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فانْطَلَقا حَتّى إذا لَقِيا غُلامًا فَقَتَلَهُ﴾ يَعْنِي انْطَلَقَ مُوسى والخَضِرُ فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ يُوشِعُ تَأخَّرَ عَنْهُما؛ لِأنَّ المَذْكُورَ انْطِلاقُ اثْنَيْنِ وهو الأظْهَرُ لِاخْتِصاصِ مُوسى بِالنُّبُوَّةِ واجْتِماعِهِ مَعَ الخَضِرِ عَنْ وحْيٍ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مَعَهُما ولَمْ يُذْكَرْ لِأنَّهُ تابِعٌ لِمُوسى، فاقْتَصَرَ عَلى ذِكْرِ المَتْبُوعِ دُونَ التّابِعِ لِقَوْلِ مُوسى: ﴿ذَلِكَ ما كُنّا نَبْغِ﴾ فَكانَ ذَلِكَ مِنهُ إشارَةً إلى فَتاهُ يُوشَعَ. واخْتُلِفَ في الغُلامِ المَقْتُولِ هَلْ كانَ بالِغًا، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ رَجُلًا شابًّا قَدْ قَبَضَ عَلى لِحْيَتِهِ لِأنَّ غَيْرَ البالِغِ لا يَجْرِي عَلَيْهِ القَلَمُ بِما يَسْتَحِقُّ بِهِ القَتْلَ، وقَدْ يُسَمّى الرَّجُلُ غُلامًا، قالَتْ لَيْلى الأخْيَلِيَّةُ في الحَجّاجِ: ؎ شَفاها مِنَ الدّاءِ العُضالِ الَّذِي بِها ∗∗∗ غُلامٌ إذا هَزَّ القَناةَ سَقاها وَقالَ الأكْثَرُونَ: كانَ صَغِيرًا غَيْرَ بالِغٍ وكانَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيانِ، حَتّى مَرَّ بِهِ الخَضِرُ فَقَتَلَهُ. وَفي سَبَبِ قَتْلِهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: لِأنَّهُ طُبِعَ عَلى الكُفْرِ. (p-٣٢٩)الثّانِي: لِأنَّهُ أصْلَحَ بِقَتْلِهِ حالَ أبَوَيْهِ. وَفي صِفَةِ قَتْلِهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ أخَذَهُ مِن بَيْنِ الصِّبْيانِ فَأضْجَعَهُ وذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. الثّانِي: أنَّهُ أخَذَ حَجَرًا فَقَتَلَ بِهِ الغُلامَ، قالَهُ مُقاتِلٌ فاسْتَعْظَمَ مُوسى ما فَعَلَهُ الخَضِرُ مِن قَتْلِ الغُلامِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ فَـ قالَ أقَتَّلَتْ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ فاخْتُلِفَ؛ هَلْ قالَهُ اسْتِخْبارًا أوْ إنْكارًا؟ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ قالَ ذَلِكَ اسْتِخْبارًا عَنْهُ لِعِلْمِهِ بِأنَّهُ لا يَتَعَدّى في حُقُوقِ اللَّهِ تَعالى. الثّانِي: أنَّهُ قالَهُ إنْكارًا عَلَيْهِ لِأنَّهُ قالَ ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ قَرَأ أبُو عَمْرٍو ونافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ زاكِيَةً وقَرَأ حَمْزَةُ وابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ والكِسائِيُّ ﴿زَكِيَّةً﴾ بِغَيْرِ ألِفٍ. واخْتُلِفَ في زاكِيَةٍ - وزَكِيَّةٍ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ أنَّ مَعْناهُما واحِدٌ، فَعَلى هَذا اخْتُلِفَ في تَأْوِيلِ ذَلِكَ عَلى سِتَّةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّ الزّاكِيَةَ التّائِبَةُ، قالَهُ قَتادَةُ. الثّانِي: أنَّها الطّاهِرَةُ، حَكاهُ ابْنُ عِيسى. الثّالِثُ: أنَّها النّامِيَةُ الزّائِدَةُ، قالَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، قالَ نابِغَةُ بَنِي ذُبْيانَ: ؎ وما أخَّرْتَ مِن دُنْياكَ نَقْصٌ ∗∗∗ وإنْ قَدَّمْتَ عادَ لَكَ الزَّكاءُ يَعْنِي الزِّيادَةَ. الرّابِعُ: الزّاكِيَةُ المُسْلِمَةُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ لِأنَّ عِنْدَهُ أنَّ الغُلامَ المَقْتُولَ رَجُلٌ. الخامِسُ: أنَّ الزّاكِيَةَ الَّتِي لَمْ يَحِلَّ دَمُها، قالَهُ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ. السّادِسُ: أنَّها الَّتِي لَمْ تَعْمَلِ الخَطايا، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ بَيْنَ الزّاكِيَةِ والزَّكِيَّةِ فَرْقًا، وفِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّ الزّاكِيَةَ في البَدَنِ، والزَّكِيَّةَ في الدِّينِ، وهَذا قَوْلُ أبِي عُبَيْدَةَ. (p-٣٣٠)الثّانِي: أنَّ الزَّكِيَّةَ أشَدُّ مُبالَغَةً مِنَ الزّاكِيَةِ، قالَهُ ثَعْلَبٌ. الثّالِثُ: أنَّ الزّاكِيَةَ الَّتِي لَمْ تُذْنِبْ، والزَّكِيَّةَ الَّتِي أذْنَبَتْ ثُمَّ تابَتْ فَغُفِرَ لَها، قالَهُ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ. ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ فِيهِ أرْبَعَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: شَيْئًا مُنْكَرًا، قالَهُ الكَلْبِيُّ. الثّانِي: أمْرًا فَظِيعًا قَبِيحًا، وهَذا مَعْنى قَوْلِ مُقاتِلٍ. الثّالِثُ: أنَّهُ الَّذِي يَجِبُ أنْ يُنْكَرَ ولا يُفْعَلَ. الرّابِعُ: أنَّهُ أشَدُّ مِنَ الإمْرِ، قالَهُ قَتادَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب