سُورَةُ قُرَيْشٍ
مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ الأكْثَرِينَ، ومَدِنِيَّةٌ في قَوْلِ الضَّحّاكِ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعالى
﴿لإيلافِ قُرَيْشٍ﴾ الإيلافُ مَأْخُوذٌ مِن ألِفَ يَأْلَفُ، وهي العادَةُ المَأْلُوفَةُ، ومِنهُ قَوْلُهُمُ ائْتَلَفَ القَوْمُ.
وَفي قَوْلِهِ
﴿لإيلافِ قُرَيْشٍ﴾ أرْبَعَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: نِعْمَتِي عَلى قُرَيْشٍ، لِأنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أنْ ألَّفَهُ لَهم، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ.
الثّانِي: لِإيلافِ اللَّهِ لَهم لِأنَّهُ آلَفُهم إيلافًا، قالَهُ الخَلِيلُ بْنُ أحْمَدَ.
الثّالِثُ: لِإيلافِ قُرَيْشٍ حَرَمِي وقِيامِهِمْ بِبَيْتِي، وهَذا مَعْنى قَوْلِ الحَسَنِ.
الرّابِعُ: لِإيلافِ ما ذَكَرَهُ مِن رِحْلَةِ الشِّتاءِ والصَّيْفِ في مَعايِشِهِمْ، قالَهُ مَكْحُولٌ.
وَفي اللّامِ الَّتِي في
﴿لإيلافِ قُرَيْشٍ﴾ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ صِلَةٌ يَرْجِعُ إلى السُّورَةِ المُتَقَدِّمَةِ مِن قَوْلِهِمْ
﴿ألَمْ تَرَ كَيْفَ﴾ إلى أنْ قالَ:
﴿فَجَعَلَهم كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ ﴿لإيلافِ قُرَيْشٍ﴾، فَصارَ مَعْناهُ أنَّ ما فَعَلَهُ بِأصْحابِ الفِيلِ لِأجْلِ إيلافِ قُرَيْشٍ، قالَهُ ثَعْلَبٌ، وكانَ عُمَرُ وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ لا يَفْصِلانِ بَيْنَ
السُّورَتَيْنِ ويَقْرَآنِهِما كالسُّورَةِ الواحِدَةِ، ويَرَيانِ أنَّهُما سُورَةٌ واحِدَةٌ، أيْ: ألَمْ تَرَ لِإيلافِ قُرَيْشٍ.
الثّانِي: أنَّ اللّامَ صِلَةٌ تَرْجِعُ إلى ما بَعْدَها مِن قَوْلِهِ
﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ﴾ ويَكُونُ مَعْناهُ لِنِعْمَتِي عَلى قُرَيْشٍ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ، قالَهُ أهْلُ البَصْرَةِ، وقَرَأ عِكْرِمَةُ، لِيَأْلَفَ قُرَيْشٌ، وكانَ يَعِيبُ عَلى مَن يَقْرَأُ
﴿لإيلافِ قُرَيْشٍ﴾ . وقَرَأ بَعْضُ أهْلِ مَكَّةَ: إلافُ قُرَيْشٍ، واسْتُشْهِدَ بِقَوْلِ أبِي طالِبٍ يُوصِي أخاهُ أبا لَهَبٍ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ
فَلا تَتْرُكَنَّهُ ما حَيِيتَ لِمُعَظَّمِ وكُنْ رَجُلًا ذا نَجْدَةٍ وعَفافِ ∗∗∗ تَذُودُ العِدا عَنْ عُصْبَةٍ هاشِمِيَّةٍ ∗∗∗ ألّا فُهُمُ في النّاسِ خَيْرُ إلافِ
وَأمّا قُرَيْشٌ تَلِدُهُ فَهم بَنُو النَّضِيرِ بْنِ كِنانَةَ، وقِيلَ بَنُو فِهْرِ بْنِ مالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنانَةَ، ومَن لَمْ تَلِدْهُ فِهْرٌ فَلَيْسَ مِن قُرَيْشٍ، وعَلى المَشْهُورِ أنَّ بَنِي النَّضْرِ بْنِ كِنانَةَ ومَن تَلِدُهُ: مِن قُرَيْشٍ، وإنْ لَمْ يَكُونُوا مِن بَنِي فِهْرٍ، وقَدْ كانُوا مُتَفَرِّقِينَ في غَيْرِ الحَرَمِ فَجَمَعَهم قُصَيُّ بْنُ كِلابٍ في الحَرَمِ حَتّى اتَّخَذُوهُ مَسْكَنًا، قالَ الشّاعِرُ
أبُونا قُصَيٌّ كانَ يُدْعى مُجَمِّعًا ∗∗∗ بِهِ جَمَعَ اللَّهُ القَبائِلَ مِن فِهْرِ
واخْتَلَفُوا في تَسْمِيَتِهِمْ قُرَيْشًا عَلى أرْبَعَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: لِتَجَمُّعِهِمْ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، والتَّقْرِيشُ التَّجْمِيعُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ
إخْوَةٌ قَرَّشُوا الذُّنُوبَ عَلَيْنا ∗∗∗ في حَدِيثٍ مِن دَهْرِهِمْ وقَدِيمِ
الثّانِي: لِأنَّهم كانُوا تُجّارًا يَأْكُلُونَ مِن مَكاسِبِهِمْ، والتَّقْرِيشُ التَّكَسُّبُ.
الثّالِثُ: أنَّهم كانُوا يُفَتِّشُونَ الحاجَّ عَنْ ذِي الخَلَّةِ فَيَسُدُّونَ خَلَّتْهُ، والقِرْشِ: التَّفْتِيشُ، قالَ الشّاعِرُ
أيُّها الشّامِتُ المُقَرِّشُ عَنّا ∗∗∗ عِنْدَ عَمْرٍو فَهَلْ لَهُ إبْقاءُ
الرّابِعُ: أنْ قُرَيْشًا اسْمُ دابَّةٍ في البَحْرِ، مِن أقْوى دَوابِّهِ، سُمِّيَتْ قُرَيْشًا لِقُوَّتِها وأنَّها تَأْكُلُ ولا تُؤْكَلُ، وتَعْلُو ولا تُعْلى، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ واسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشّاعِرِ:
هَكَذا في العِبادِ حَيُّ قُرَيْشٍ ؎ يَأْكُلُونَ البِلادَ أكْلًا كَشِيشًا ∗∗∗ ولَهم آخِرُ الزَّمانِ نَبِيٌّ ∗∗∗ يَكْثُرُ القَتْلُ فِيهِمُ والخَمُوشا ∗∗∗ يَمْلَأُ الأرْضَ خَيَلَةً ورِجالًا ∗∗∗ يَحْشُرُونَ المَطِيَّ حَشْرًا كَمِيشا ∗∗∗ تَأْكُلُ الغَثَّ والسَّمِينَ ولا تَتْ ∗∗∗ رُكُ يَوْمًا في جَناحَيْنِ رِيشا.
∗∗∗ وقُرَيْشٌ هي الَّتِي تَسْكُنُ البَحْ ∗∗∗ رَ بِها سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قَرِيشا.
∗∗∗ سَلَّطَتْ بِالعُلُوِّ في لُجُجِ البَحْرِ ∗∗∗ عَلى سائِرِ البُحُورِ جُيُوشا.
﴿إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ والصَّيْفِ﴾ كانَتْ لِقُرَيْشٍ في كُلِّ عامٍ رِحْلَتانِ والرِّحْلَةُ السَّفْرَةُ، لِما يُعانى فِيها مِنَ الرَّحِيلِ والنُّزُولِ، رِحْلَةٌ في الصَّيْفِ ورِحْلَةٌ في الشِّتاءِ طَلَبًا لِلتِّجارَةِ والكَسْبِ.
واخْتُلِفَ في رِحْلَتَيِ الشِّتاءِ والصَّيْفِ عَلى قَوْلَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ كِلْتا الرِّحْلَتَيْنِ إلى فِلَسْطِينَ، لَكِنَّ رِحْلَةَ الشِّتاءِ في البَحْرِ، طَلَبًا لِلدِّفْءِ، ورِحْلَةَ الصَّيْفِ عَلى بُصْرى وأذْرِعاتٍ، طَلَبًا لِلْهَواءِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ.
الثّانِي: أنَّ رِحْلَةَ الشِّتاءِ إلى اليَمَنِ لِأنَّها بِلادٌ حامِيَةٌ، ورِحْلَةَ الصَّيْفِ إلى الشّامِ لِأنَّها بِلادٌ بارِدَةٌ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.
فَإنْ قِيلَ فَما المَعْنى في تَذْكِيرِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ والصَّيْفِ؟ فَفِيهِ جَوابانِ:
أحَدُهُما: أنَّهم كانُوا في سَفَرِهِمْ آمَنِينَ مِنَ العَرَبِ لِأنَّهم أهْلُ الحَرَمِ، فَذَكَّرَهم ذَلِكَ لِيَعْلَمُوا نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ في أمْنِهِمْ مَعَ خَوْفِ غَيْرِهِمْ.
الثّانِي: لِأنَّهم كانُوا يَكْسِبُونَ فَيَتَوَسَّعُونَ ويُطْعِمُونَ ويَصِلُونَ، كَما قالَ الشّاعِرُ فِيهِمْ
يا أيُّها الرَّجُلُ المُحَوِّلُ رَحْلَهُ ∗∗∗ هَلّا نَزَلْتَ بِآلِ عَبْدِ مَنافِ.
∗∗∗ الآخِذُونَ العَهْدَ مِن آفاقِها ∗∗∗ والرّاحِلُونَ لِرِحْلَةِ الإيلافِ.
∗∗∗ والرّائِشُونَ ولَيْسَ يُوجَدُ رائِشٌ ∗∗∗ والقائِلُونَ هَلُمَّ لِلْأضْيافِ.
∗∗∗ والخالِطُونَ غَنِيَّهم بِفَقِيرِهِمْ ∗∗∗ حَتّى يَصِيرَ فَقِيرُهم كالكافِي.
∗∗∗ عَمْرُو العُلا هَشَّمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ∗∗∗ ورِجالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجافِ.
فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ النِّعْمَةَ.
وَلِابْنِ عَبّاسٍ في رِحْلَةِ الشِّتاءِ والصَّيْفِ قَوْلٌ ثالِثٌ: أنَّهم كانُوا يُشَتُّونَ بِمَكَّةَ لِدِفْئِها، ويُصَيِّفُونَ بِالطّائِفِ لِهَوائِها، كَما قالَ الشّاعِرُ
تَشْتِي بِمَكَّةَ نِعْمَةً ∗∗∗ ومَصِيفُها بِالطّائِفِ
وَهَذِهِ مِن جَلائِلِ النِّعَمِ أنْ يَكُونَ لِلْقَوْمِ ناحِيَةُ حَرٍّ تَدْفَعُ عَنْهم بَرْدَ الشِّتاءِ وناحِيَةُ بَرْدٍ تَدْفَعُ عَنْهم حَرَّ الصَّيْفِ، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ النِّعْمَةَ.
﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ﴾ أمَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِعِبادَتِهِ، وفي تَعْرِيفِ نَفْسِهِ لَهم بِأنَّهُ رَبُّ هَذا البَيْتِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: لِأنَّهُ كانَتْ لَهم أوْثانٌ، فَمَيَّزَ نَفْسَهُ عَنْها.
الثّانِي: أنَّهم بِالبَيْتِ شُرِّفُوا عَلى سائِرِ العَرَبِ، فَذَكَرَ لَهم ذَلِكَ تَذْكِيرًا بِنِعْمَتِهِ.
وَفي مَعْنى هَذا الأمْرِ والضَّمِيرِ في دُخُولِ الفاءِ عَلى قَوْلِهِ
﴿فَلْيَعْبُدُوا﴾ أرْبَعَةُ أوْجُهٍ:
أحَدُها: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ بِأنَّهُ أنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِرِحْلَةِ الشِّتاءِ والصَّيْفِ.
الثّانِي: فَلْيَأْلَفُوا عِبادَةَ رَبِّ هَذا البَيْتِ كَما ألِفُوا رِحْلَةَ الشِّتاءِ والصَّيْفِ.
الثّالِثُ: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ لِأنَّهُ أطْعَمَهم مِن جُوعٍ وآمَنُهم مِن خَوْفٍ.
الرّابِعُ: فَلْيَتْرُكُوا رِحْلَةَ الشِّتاءِ والصَّيْفِ بِعِبادَةِ رَبِّ هَذا البَيْتِ، فَإنَّهُ يُطْعِمُهم مِن جُوعٍ ويُؤَمِّنُهم مِن خَوْفٍ لِيَتَوَفَّرُوا بِالمَقامِ عَلى نُصْرَةِ رَسُولِهِ والذَّبِّ عَنْ دِينِهِ.
﴿الَّذِي أطْعَمَهم مِن جُوعٍ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: أطْعَمَهم مِن جُوعٍ بِما أعْطاهم مِنَ الأمْوالِ وساقَ إلَيْهِمْ مِنَ الأرْزاقِ، قالَهُ ابْنُ عِيسى.
الثّانِي: أطْعَمَهم مِن جُوعٍ بِما اسْتَجابَ فِيهِمْ دَعْوَةَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ.
حِينَ قالَ:
﴿وارْزُقْهم مِنَ الثَّمَراتِ﴾ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ.
الثّالِثُ: أنَّ جُوعًا أصابَهم في الجاهِلِيَّةِ، فَألْقى اللَّهُ في قُلُوبِ الحَبَشَةِ أنْ يَحْمِلُوا إلَيْهِمْ طَعامًا، فَحَمَلُوهُ، فَخافَتْ قُرَيْشٌ مِنهم وظَنُّوا أنَّهم قَدِمُوا لِحَرْبِهِمْ، فَخَرَجُوا إلَيْهِمْ مُتَحَرِّزِينَ، فَإذا هم قَدْ جَلَبُوا إلَيْهِمُ الطَّعامَ وأعانُوهم بِالأقْواتِ، فَهو مَعْنى قَوْلِهِ
﴿الَّذِي أطْعَمَهم مِن جُوعٍ﴾﴿وَآمَنَهم مِن خَوْفٍ﴾ فِيهِ أرْبَعَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: آمَنَهم مِن خَوْفِ العَرَبِ أنْ يَسْبُوهم أوْ يُقاتِلُوهم تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الحَرَمِ، لِما سَبَقَتْ لَهم مِن دَعْوَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَيْثُ قالَ:
﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذا بَلَدًا آمِنًا﴾، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ.
الثّانِي: مِن خَوْفِ الحَبَشَةِ مَعَ الفِيلِ، قالَهُ الأعْمَشُ.
الثّالِثُ: آمَنَهم مِن خَوْفِ الجُذامِ، قالَهُ الضَّحّاكُ والسُّدِّيُّ وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ.
الرّابِعُ: يَعْنِي آمَنَ قُرَيْشًا ألّا تَكُونَ الخِلافَةُ إلّا فِيهِمْ، قالَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.