الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ﴾ الآيَةَ. لَمّا أكْذَبَهُمُ اللَّهُ في قَوْلِهِ: ﴿لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ﴾ دَلَّ عَلى أنَّهم كانُوا مُسْتَطِيعِينَ، ولَمْ يَخْرُجُوا، وهَذا يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ مَذْهَبِ الجَبْرِ في أنَّ المُكَلَّفِينَ غَيْرُ مُسْتَطِيعِينَ لِما كُلِّفُوا في حالِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ وُقُوعِ الفِعْلِ مِنهم؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أكْذَبَهم في نَفْيِهِمُ الِاسْتِطاعَةَ عَنْ أنْفُسِهِمْ قَبْلَ الخُرُوجِ. وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِأنَّهُ أخْبَرَ أنَّهم سَيَحْلِفُونَ، فَجاءُوا فَحَلَفُوا كَما أخْبَرَ أنَّهُ سَيَكُونُ مِنهم. قَوْلُهُ تَعالى: (p-٣١٧)﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهم حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ العَفْوُ يَنْصَرِفُ عَلى وُجُوهٍ: أحَدِها: التَّسْهِيلُ والتَّوْسِعَةُ، كَقَوْلِهِ ﷺ: «أوَّلُ الوَقْتِ رِضْوانُ اللَّهِ وآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ». والعَفْوُ التَّرْكُ، كَقَوْلِهِ ﷺ: «أحْفُوا الشَّوارِبَ وأعْفُوا اللِّحى» والعَفْوُ الكَثْرَةُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى عَفَوْا﴾ [الأعراف: ٩٥] يَعْنِي: كَثُرُوا، وأعْفَيْتُ فُلانًا مِن كَذا وكَذا إذا سَهَّلْتَ لَهُ تَرْكَهُ، والعَفْوُ الصَّفْحُ عَنِ الذَّنْبِ، وهو إعْفاؤُهُ مِن تَبِعَتِهِ وتَرْكِ العِقابِ عَلَيْهِ، وهو مِثْلُ الغُفْرانِ في هَذا المَوْضِعِ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ أصْلُهُ التَّسْهِيلَ، فَإذا عَفا عَنْ ذَنْبِهِ فَلَمْ يَسْتَقْصِ عَلَيْهِ، وسَهَّلَ عَلَيْهِ الأمْرَ، وكَذَلِكَ سائِرُ الوُجُوهِ الَّتِي تَنْصَرِفُ عَلَيْها هَذِهِ الكَلِمَةُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أصْلُها التَّرْكَ والتَّوْسِعَةَ. ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: إنَّهُ قَدْ كانَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ ذَنْبٌ صَغِيرٌ في إذْنِهِ لَهم، ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ إذْ لا يَجُوزُ أنْ تَقُولَ لِمَ فَعَلْتَ ما جَعَلْتَ لَكَ فِعْلَهُ ؟ كَما لا يَجُوزُ أنْ تَقُولَ لِمَ فَعَلْتَ ما أمَرْتُكَ بِفِعْلِهِ ؟ قالُوا: فَغَيْرُ جائِزٍ إطْلاقُ العَفْوِ عَمّا قَدْ جَعَلَ لَهُ فِعْلَهُ، كَما لا يَجُوزُ أنْ يَعْفُوَ عَنْهُ ما أمَرَهُ بِهِ. وقِيلَ: إنَّهُ جائِزٌ أنْ لا تَكُونَ مِنهُ مَعْصِيَةٌ في الإذْنِ لَهم لا صَغِيرَةٌ ولا كَبِيرَةٌ، وإنَّما عاتَبَهُ بِأنْ قالَ: لِمَ فَعَلْتَ ما جَعَلْتَ لَكَ فِعْلَهُ مِمّا غَيْرُهُ أوْلى مِنهُ ؟ إذْ جائِزٌ أنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ فِعْلَيْنِ، وأحَدُهُما أوْلى مِنَ الآخَرِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وأنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ [النور: ٦٠] فَأباحَ الأمْرَيْنِ وجَعَلَ أحَدَهُما أوْلى، وقَدْ رَوى شُعْبَةُ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ كانَتْ كَما تَسْمَعُونَ ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ في سُورَةِ النُّورِ: ﴿وإذا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ [النور: ٦٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَأْذَنْ لِمَن شِئْتَ مِنهُمْ﴾ [النور: ٦٢] فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى رُخْصَةً في ذَلِكَ. ورَوى عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة: ٤٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: ٤٥] هَذا بِعَيْنِهِ لِلْمُنافِقِينَ حِينَ اسْتَأْذَنُوهُ لِلْقُعُودِ عَنِ الجِهادِ مِن غَيْرِ عُذْرٍ، وعَذَرَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ فَقالَ: ﴿وإذا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ [النور: ٦٢] ورَوى عَطاءٌ الخُراسانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَوْلَهُ: ﴿إنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة: ٤٥] قالَ: { نَسَخَها قَوْلُهُ: ﴿وإذا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ [النور: ٦٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَأْذَنْ لِمَن شِئْتَ مِنهُمْ﴾ [النور: ٦٢] فَجَعَلَ اللَّهُ تَعالى رَسُولَهُ بِأعْلى النَّظَرَيْنِ } . قالَ أبُو بَكْرٍ جائِزٌ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ في قَوْمٍ مِنَ المُنافِقِينَ لَحِقَتْهم تُهْمَةٌ، فَكانَ يُمْكِنُ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ اسْتِبْراءُ أمْرِهِمْ بِتَرْكِ الإذْنِ لَهم، فَيَظْهَرُ نِفاقُهم إذا لَمْ يَخْرُجُوا بَعْدَ الأمْرِ بِالخُرُوجِ، ويَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا ثابِتًا في أُولَئِكَ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ (p-٣١٨)قَوْلُهُ: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الكاذِبِينَ﴾ ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿وإذا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ [النور: ٦٢] وقَوْلُهُ: ﴿فَأْذَنْ لِمَن شِئْتَ مِنهُمْ﴾ [النور: ٦٢] في المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهم لَمْ يَذْهَبُوا، فَلا تَكُونُ إحْدى الآيَتَيْنِ ناسِخَةً لِلْأُخْرى. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ٤٤] إلى قَوْلِهِ: ﴿بِأمْوالِهِمْ﴾ [التوبة: ٤٤] الآيَةَ. يَعْنِي: لا يَسْتَأْذِنُكَ المُؤْمِنُونَ في التَّخَلُّفِ عَنِ الجِهادِ؛ لَأنْ لا يُجاهِدُوا وأضْمَرَ { لا } في قَوْلِهِ: ﴿أنْ يُجاهِدُوا﴾ [التوبة: ٤٤] لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الِاسْتِئْذانَ في التَّخَلُّفِ كانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ، ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ﴾ عَلى أنَّهُ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ، وإنْ كانَ صَغِيرًا، ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ في قَوْلِهِ: ﴿أنْ يُجاهِدُوا﴾ [التوبة: ٤٤] أنَّهُ عَلى تَقْدِيرِ كَراهَةِ أنْ يُجاهِدُوا، وهو يُؤَوَّلُ إلى المَعْنى الأوَّلِ لِأنَّ إضْمارَ { لا } فِيهِ وإضْمارَ الكَراهَةِ سَواءٌ، وهَذِهِ الآيَةُ أيْضًا تَدُلُّ عَلى وُجُوبِ فَرْضِ الجِهادِ بِالمالِ والنَّفْسِ جَمِيعًا؛ لِأنَّهُ قالَ تَعالى: ﴿أنْ يُجاهِدُوا بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ﴾ [التوبة: ٤٤] فَذَمَّهم عَلى الِاسْتِئْذانِ في تَرْكِ الجِهادِ بِهِما. والجِهادُ بِالمالِ يَكُونُ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدِهِما إنْفاقُ المالِ في إعْدادِ الكُراعِ والسِّلاحِ والآلَةِ والرّاحِلَةِ والزّادِ، وما جَرى مَجْراهُ مِمّا يَحْتاجُ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ. والثّانِي إنْفاقُ المالِ عَلى غَيْرِهِ مِمّا يُجاهِدُ، ومَعُونَتُهُ بِالزّادِ والعُدَّةِ ونَحْوِها. والجِهادُ بِالنَّفْسِ عَلى ضُرُوبٍ: مِنها الخُرُوجُ بِنَفْسِهِ، ومُباشَرَةُ القِتالِ، ومِنها بَيانُ ما افْتَرَضَ اللَّهُ مِنَ الجِهادِ، وذِكْرُ الثَّوابِ الجَزِيلِ لِمَن قامَ بِهِ، والعِقابِ لِمَن قَعَدَ عَنْهُ، ومِنها التَّحْرِيضُ والأمْرُ، ومِنها الإخْبارُ بِعَوْراتِ العَدُوِّ، وما يَعْلَمُهُ مِن مَكايِدِ الحَرْبِ وسَدادِ الرَّأْيِ وإرْشادِ المُسْلِمِينَ إلى الأوْلى والأصْلَحِ في أمْرِ الحُرُوبِ، كَما قالَ الخَبّابُ بْنُ المُنْذِرِ حِينَ «نَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ بِبَدْرٍ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أهَذا رَأْيٌ رَأيْتَهُ أمْ وحْيٌ ؟ فَقالَ: بَلْ رَأْيٌ رَأيْتُهُ قالَ: فَإنِّي أرى أنْ تَنْزِلَ عَلى الماءِ، وتَجْعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِكَ، وتُغْوِرَ الآبارَ الَّتِي في ناحِيَةِ العَدُوِّ، فَفَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ»، ونَحْوَ ذَلِكَ مِن كُلِّ قَوْلٍ يُقَوِّي أمْرَ المُسْلِمِينَ، ويُوهِنُ أمْرَ العَدُوِّ. فَإنْ قِيلَ: فَأيُّ الجِهادَيْنِ أفْضَلُ أجِهادُ النَّفْسِ والمالِ أمْ جِهادُ العِلْمِ ؟ قِيلَ لَهُ: الجِهادُ بِالسَّيْفِ مَبْنِيٌّ عَلى جِهادِ العِلْمِ وفُرِّعَ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَعُدُّوا في جِهادِ السَّيْفِ ما يُوجِبُهُ العِلْمُ، فَجِهادُ العِلْمِ أصْلٌ وجِهادُ النَّفْسِ فَرْعٌ، والأصْلُ أوْلى بِالتَّفْضِيلِ مِنَ الفَرْعِ. فَإنْ قِيلَ: تَعَلُّمُ العِلْمِ أفْضَلُ أمْ جِهادُ المُشْرِكِينَ ؟ قِيلَ لَهُ: إذا خِيفَ مَعَرَّةُ العَدُوِّ وإقْدامُهم عَلى المُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ بِإزائِهِ مَن يَدْفَعُهُ فَقَدْ تَعَيَّنَ فَرْضُ الجِهادِ عَلى كُلِّ أحَدٍ، فالِاشْتِغالُ في هَذِهِ الحالِ بِالجِهادِ أفْضَلُ مِن تَعَلُّمِ العِلْمِ؛ لِأنَّ ضَرَرَ العَدُوِّ إذا وقَعَ (p-٣١٩)بِالمُسْلِمِينَ لَمْ يُمْكِنْ تَلافِيهِ، وتَعَلُّمُ العِلْمِ مُمْكِنٌ في سائِرِ الأحْوالِ، ولِأنَّ تَعَلُّمَ العِلْمِ فَرْضٌ عَلى الكِفايَةِ لا عَلى كُلِّ أحَدٍ في خاصَّةِ نَفْسِهِ، ومَتى لَمْ يَكُنْ بِإزاءِ العَدُوِّ مَن يَدْفَعُهُ عَنِ المُسْلِمِينَ فَقَدْ تَعَيَّنَ فَرْضُ الجِهادِ عَلى كُلِّ أحَدٍ، وما كانَ فَرْضًا مُعَيَّنًا عَلى الإنْسانِ غَيْرَ مُوَسَّعٍ عَلَيْهِ في التَّأْخِيرِ فَهو أوْلى مِنَ الفَرْضِ الَّذِي قامَ بِهِ غَيْرُهُ، وسَقَطَ عَنْهُ بِعَيْنِهِ، وذَلِكَ مِثْلُ الِاشْتِغالِ بِصَلاةِ الظُّهْرِ في آخِرِ وقْتِها هو أوْلى مِن تَعَلُّمِ عِلْمِ الدِّينِ في تِلْكَ الحالِ إذْ كانَ الفَرْضُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ في هَذا الوَقْتِ، فَإنْ قامَ بِفَرْضِ الجِهادِ مَن فِيهِ كِفايَةٌ وغِنًى فَقَدْ عادَ فَرْضُ الجِهادِ إلى حُكْمِ الكِفايَةِ كَتَعَلُّمِ العِلْمِ، إلّا أنَّ الِاشْتِغالَ بِالعِلْمِ في هَذِهِ الحالِ أوْلى، وأفْضَلُ مِنَ الجِهادِ لِما قَدَّمْنا مِن عُلُوِّ مَرْتَبَةِ العِلْمِ، عَلى مَرْتَبَةِ الجِهادِ، فَإنَّ ثَباتَ الجِهادِ بِثَباتِ العِلْمِ وإنَّهُ فَرْعٌ لَهُ ومَبْنِيٌّ عَلَيْهِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب