الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿حُرُمٌ﴾ لَمّا قالَ تَعالى في مَواضِعَ أُخَرَ: ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾ [البقرة: ١٩٧] وقالَ: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هي مَواقِيتُ لِلنّاسِ والحَجِّ﴾ [البقرة: ١٨٩] فَعَلَّقَ بِالشُّهُورِ كَثِيرًا مِن مَصالِحِ الدُّنْيا والدِّينِ، وبَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ هَذِهِ الشُّهُورَ، وإنَّما تُجْرى عَلى مِنهاجٍ واحِدٍ لا يُقَدَّمُ المُؤَخَّرُ مِنها، ولا يُؤَخَّرُ المُقَدَّمُ، وقالَ: ﴿إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ﴾ وذَلِكَ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ اللَّهَ وضَعَ هَذِهِ الشُّهُورَ، وسَمّاها بِأسْمائِها عَلى ما رَتَّبَها عَلَيْهِ يَوْمَ خَلْقَ السَّمَواتِ والأرْضَ، وأنْزَلَ ذَلِكَ عَلى أنْبِيائِهِ في كُتُبِهِ المُنَزَّلَةِ، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ﴾ وحُكْمُها باقٍ عَلى ما كانَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُزِلْها عَنْ تَرْتِيبِها تَغْيِيرُ المُشْرِكِينَ لِأسْمائِها وتَقْدِيمُ المُؤَخَّرِ وتَأْخِيرُ المُقَدَّمِ في الأسْماءِ مِنها، وذَكَرَ ذَلِكَ لَنا لِنَتَّبِعَ أمْرَ اللَّهِ فِيها، ونَرْفُضَ ما كانَ عَلَيْهِ أمْرُ الجاهِلِيَّةِ مِن تَأْخِيرِ أسْماءِ الشُّهُورِ وتَقْدِيمِها وتَعْلِيقِ الأحْكامِ عَلى الأسْماءِ الَّتِي رَتَّبُوها عَلَيْها، ولِذَلِكَ قالَ النَّبِيُّ ﷺ (p-٣٠٦)فِي حَجَّةِ الوَداعِ ما رَواهُ ابْنُ عُمَرَ وأبُو بَكْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ في خُطْبَتِهِ بِالعَقَبَةِ: «يا أيُّها النّاسُ إنَّ الزَّمانَ قَدِ اسْتَدارَ قالَ ابْنُ عُمَرَ: فَهو اليَوْمَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ والأرْضَ وقالَ أبُو بَكْرَةَ: قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ والأرْضَ، وإنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثٌ مُتَوالِياتٌ ذُو القِعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمادى وشَعْبانَ، وإنَّ النَّسِيءَ زِيادَةٌ في الكُفْرِ» الآيَةَ. قالَ ابْنُ عُمَرَ: وذَلِكَ أنَّهم كانُوا يَجْعَلُونَ صَفَرَ عامًا حَرامًا وعامًا حَلالًا، ويَجْعَلُونَ المُحَرَّمَ عامًا حَلالًا وعامًا حَرامًا، وكانَ النَّسِيءُ مِنَ الشَّيْطانِ، فَأخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّ الزَّمانَ يَعْنِي زَمانَ الشُّهُورِ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ والأرْضَ، وأنَّ كُلَّ شَهْرٍ قَدْ عادَ إلى المَوْضِعِ الَّذِي وضَعَهُ اللَّهُ بِهِ عَلى تَرْتِيبِهِ ونِظامِهِ. وقَدْ ذَكَرَ لِي بَعْضُ أوْلادِ بَنِي المُنَجِّمِ أنَّ جَدَّهُ وهو أحْسَبُ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسى المُنَجِّمُ الَّذِي يَنْتَمُونَ إلَيْهِ حَسَبَ شُهُورِ الأهِلَّةِ مُنْذُ ابْتِداءِ خَلْقِ اللَّهِ السَّمَواتِ والأرْضَ فَوَجَدَها قَدْ عادَتْ في مَوْقِعِ الشَّمْسِ والقَمَرِ إلى الوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّهُ قَدْ عادَ إلَيْهِ يَوْمَ النَّحْرِ مِن حَجَّةِ الوَداعِ؛ لِأنَّ خُطْبَتَهُ هَذِهِ كانَتْ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ العَقَبَةِ؛ وأنَّهُ حَسَبَ ذَلِكَ في ثَمانِي سِنِينَ فَكانَ ذَلِكَ اليَوْمَ العاشِرَ مِن ذِي الحِجَّةِ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ يَوْمَ ابْتِداءِ الشُّهُورِ، والشَّمْسُ والقَمَرُ في ذَلِكَ اليَوْمِ في المَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّهُ قَدْ عادَ الزَّمانُ إلَيْهِ مَعَ النَّسِيءِ بِاَلَّذِي قَدْ كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يُنْسِئُونَ، وتَغْيِيرُ أسْماءِ الشُّهُورِ، ولِذَلِكَ لَمْ تَكُنِ السَّنَةُ الَّتِي حَجِّ فِيها أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ هي الوَقْتُ الَّذِي وُضِعَ الحَجُّ فِيهِ. وإنَّما قالَ { رَجَبُ مُضَرَ بَيْنَ جُمادى وشَعْبانَ } دُونَ رَمَضانَ الَّذِي يُسَمِّيهِ رَبِيعَةُ رَجَبَ. وأمّا الوَجْهُ الآخِرُ في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا في كِتابِ اللَّهِ﴾ فَهو أنَّ اللَّهَ قَسَمَ الزَّمانَ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا، فَجَعَلَ نُزُولَ الشَّمْسِ في كُلِّ بُرْجٍ مِنَ البُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا مِنها، فَيَكُونُ قَطْعُها لِلْفَلَكِ في ثَلَثِمِائَةٍ وخَمْسَةٍ وسِتِّينَ يَوْمًا ورُبْعِ يَوْمٍ، فَيَجِيءُ نَصِيبُ كُلِّ قِسْمٍ مِنها بِالأيّامِ ثَلاثِينَ يَوْمًا وكَسْرٍ، قَسَّمَ الأزْمِنَةَ أيْضًا عَلى مَسِيرِ القَمَرِ، فَصارَ القَمَرُ يَقْطَعُ الفَلَكَ في تِسْعَةٍ وعِشْرِينَ يَوْمًا ونِصْفِ يَوْمٍ. وجَعَلَ السَّنَةَ القَمَرِيَّةَ ثَلَثَمِائَةٍ وأرْبَعَةً وخَمْسِينَ يَوْمًا ورُبْعَ يَوْمٍ، فَكانَ قَطْعُ الشَّمْسِ لِلْبُرْجِ مُقارِبًا لِقَطْعِ القَمَرِ لِلْفَلَكِ كُلِّهِ، وهَذا مَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الشَّمْسُ والقَمَرُ بِحُسْبانٍ﴾ [الرحمن: ٥] وقالَ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا اللَّيْلَ والنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِن رَبِّكم ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحِسابَ﴾ [الإسراء: ١٢]؛ فَلَمّا (p-٣٠٧)كانَتِ السَّنَةُ مَقْسُومَةً عَلى نُزُولِ الشَّمْسِ في البُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وكانَ شُهُورُها اثْنَيْ عَشَرَ، واخْتَلَفَتِ السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ والقَمَرِيَّةُ في البُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وكانَتْ شُهُورُها اثْنَيْ عَشَرَ، واخْتَلَفَتِ السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ والقَمَرِيَّةُ في الكَسْرِ الَّذِي بَيْنَهُما، وهو أحَدَ عَشَرَ يَوْمًا بِالتَّقْرِيبِ، وكانَتْ شُهُورُ القَمَرِ ثَلاثِينَ وتِسْعَةً وعِشْرِينَ فِيما يَتَعَلَّقُ بِها مِن أحْكامِ الشَّرْعِ، ولَمْ يَكُنْ لِنِصْفِ اليَوْمِ الَّذِي هو زِيادَةٌ عَلى تِسْعَةٍ وعِشْرِينَ يَوْمًا حُكْمٌ، فَكانَ ذَلِكَ هو القِسْمَةُ الَّتِي قَسَمَ اللَّهُ تَعالى السَّنَةَ في ابْتِداءِ وضْعِ الخَلْقِ. ثُمَّ غَيَّرَتِ الأُمَمُ العادِلَةُ عَنْ كَثِيرٍ مِن شَرائِعِ الأنْبِياءِ هَذا التَّرْتِيبَ، فَكانَتْ شُهُورُ الرُّومِ بَعْضُها ثَمانِيَةً وعِشْرِينَ، وبَعْضُها ثَمانِيَةً وعِشْرِينَ ونِصْفًا، وبَعْضُها واحِدًا وثَلاثِينَ. وذَلِكَ عَلى خِلافِ ما أمَرَ اللَّهُ تَعالى مِنَ اعْتِبارِ الشُّهُورِ في الأحْكامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِها. ثُمَّ كانَتِ الفُرْسُ شُهُورُها ثَلاثِينَ إلّا شَهْرًا واحِدًا، وهو { بادَماهُ } فَإنَّهُ خَمْسَةٌ وثَلاثُونَ، ثُمَّ كانَتْ تَكْبِسُ في كُلِّ مِائَةٍ وعِشْرِينَ سَنَةً شَهْرًا كامِلًا فَتَصِيرُ السَّنَةُ ثَلاثَةَ عَشَرَ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّ عِدَّةَ شُهُورِ السَّنَةِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا لا زِيادَةَ فِيها ولا نُقْصانَ، وهي الشُّهُورُ القَمَرِيَّةُ الَّتِي إمّا أنْ تَكُونَ تِسْعَةً وعِشْرِينَ، وإمّا أنْ تَكُونَ ثَلاثِينَ، ولِذَلِكَ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ، والشَّهْرُ ثَلاثُونَ»، وقالَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإنْ غُمَّ عَلَيْكم فَعُدُّوا ثَلاثِينَ»، فَجَعَلَ الشَّهْرَ بِرُؤْيَةِ الهِلالِ، فَإنِ اشْتَبَهَ لِغَمامٍ أوْ قَتَرَةٍ فَثَلاثُونَ؛ فَأعْلَمَنا اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا في كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ يَعْنِي أنَّ عِدَّةَ شُهُورِ السَّنَةِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا لا زِيادَةَ عَلَيْها، وأبْطَلَ بِهِ الكَبِيسَةَ الَّتِي كانَتْ تَكْبِسُها الفُرْسُ فَتَجْعَلُها ثَلاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا في بَعْضِ السَّنَةِ، وأخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّ انْقِضاءَ الشُّهُورِ بِرُؤْيَةِ الهِلالِ، فَتارَةً تِسْعَةٌ وعِشْرُونَ، وتارَةً ثَلاثُونَ؛ فَأعْلَمَنا اللَّهُ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ كَذَلِكَ وضَعَ الشُّهُورِ والسِّنِينَ في ابْتِداءِ الخَلْقِ. أخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَوْدَ الزَّمانِ إلى ما كانَ عَلَيْهِ، وأبْطَلَ ما غَيَّرَهُ المُشْرِكُونَ مِن تَرْتِيبِ الشُّهُورِ ونِظامِها، وما زادَ بِهِ في السِّنِينَ والشُّهُورِ، وأنَّ الأمْرَ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلى ما وضَعَهُ اللَّهُ تَعالى في الأصْلِ لِما عَلِمَ تَبارَكَ وتَعالى مِن تَعَلُّقِ مَصالِحِ النّاسِ في عِباداتِهِمْ وشَرائِعِهِمْ بِكَوْنِ الشَّهْرِ والسِّنِينَ عَلى هَذا الوَجْهِ، فَيَكُونُ الصَّوْمُ تارَةً في الرَّبِيعِ، وتارَةً في الصَّيْفِ، وأُخْرى في الخَرِيفِ وأُخْرى في الشِّتاءِ، وكَذَلِكَ الحَجُّ؛ لِعِلْمِهِ بِالمَصْلَحَةِ في ذَلِكَ. وقَدْ رُوِيَ في الخَبَرِ أنَّ صَوْمَ النَّصارى كانَ كَذَلِكَ، فَلَمّا رَأوْهُ يَدُورُ في بَعْضِ السِّنِينَ إلى الصَّيْفِ اجْتَمَعُوا إلى أنْ نَقَلُوهُ إلى زَمانِ الرَّبِيعِ، وزادُوا في (p-٣٠٨)العَدَدِ وتَرَكُوا ما تَعَبَّدُوا بِهِ مِنَ اعْتِبارِ شُهُورِ القَمَرِ مُطْلَقَةً عَلى ما يَتَّفِقُ مِن وُقُوعِها في الأزْمانِ، وهَذا ونَحْوُهُ مِمّا ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعالى بِهِ، وأخْبَرَ أنَّهُمُ اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ في اتِّباعِهِمْ أوامِرَهم واعْتِقادِهِمْ وُجُوبَها دُونَ أوامِرِ اللَّهِ تَعالى فَضَلُّوا وأضَلُّوا. * * * وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ وهي الَّتِي بَيَّنَها النَّبِيُّ ﷺ بِأنَّها ذُو القِعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ ورَجَبُ،، والعَرَبُ تَقُولُ: ثَلاثَةٌ سَرْدٌ وواحِدٌ فَرْدٌ، وإنَّما سَمّاها حُرُمًا لِمَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: تَحْرِيمُ القِتالِ فِيها، وقَدْ كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ أيْضًا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ القِتالِ فِيها، وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] والثّانِي: تَعْظِيمُ انْتِهاكِ المَحارِمِ فِيها بِأشَدَّ مِن تَعْظِيمِهِ في غَيْرِها، وتَعْظِيمِ الطّاعاتِ فِيها أيْضًا. وإنَّما فَعَلَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ لِما فِيهِ مِنَ المَصْلَحَةِ في تَرْكِ الظُّلْمِ فِيها لِعِظَمِ مَنزِلَتِها في حُكْمِ اللَّهِ والمُبادَرَةِ إلى الطّاعاتِ مِنَ الِاعْتِمادِ والصَّلاةِ والصَّوْمِ وغَيْرِها، كَما فَرَضَ صَلاةَ الجُمُعَةِ في يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، وصَوْمَ رَمَضانَ في وقْتٍ مُعَيَّنٍ، وجَعَلَ بَعْضَ الأماكِنِ في حُكْمِ الطّاعاتِ، ومُواقَعَةُ المَحْظُوراتِ أعْظَمُ مِن حُرْمَةِ غَيْرِهِ نَحْوَ بَيْتِ اللَّهِ الحَرامِ ومَسْجِدِ المَدِينَةِ، فَيَكُونُ تَرْكُ الظُّلْمِ والقَبائِحِ في هَذِهِ الشُّهُورِ والمَواضِعِ داعِيًا إلى تَرْكِها في غَيْرِهِ، ويَصِيرَ فِعْلِ الطّاعاتِ والمُواظَبَةِ عَلَيْها في هَذِهِ الشُّهُورِ وهَذِهِ المَواضِعِ الشَّرِيفَةِ داعِيًا إلى فِعْلِ أمْثالِها في غَيْرِها لِلْمُرُورِ والِاعْتِيادِ، وما يَصْحَبُ اللَّهُ العَبْدَ مِن تَوْفِيقِهِ عِنْدَ إقْبالِهِ إلى طاعَتِهِ، وما يَلْحَقُ العَبْدَ مِنَ الخِذْلانِ عِنْدَ إكْبابِهِ عَلى المَعاصِي واشْتِهارِهِ وأُنْسِهِ بِها، فَكانَ في تَعْظِيمِ بَعْضِ الشُّهُورِ وبَعْضِ الأماكِنِ أعْظَمُ المَصالِحِ في الِاسْتِدْعاءِ إلى الطّاعاتِ وتَرْكِ القَبائِحِ، ولِأنَّ الأشْياءَ تَجُرُّ إلى أشْكالِها، وتُباعِدُ مِن أضْدادِها، فالِاسْتِكْثارُ مِنَ الطّاعَةِ يَدْعُو إلى أمْثالِها، والِاسْتِكْثارُ مِنَ المَعْصِيَةِ يَدْعُو إلى أمْثالِها. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ﴾ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿فِيهِنَّ﴾ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ راجِعٌ إلى الشُّهُورِ. وقالَ قَتادَةُ: هو عائِدٌ إلى الأرْبَعَةِ الحُرُمِ * * * وقَوْلُهُ: ﴿وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: الأمْرُ بِقِتالِ سائِرِ أصْنافِ أهْلِ الشِّرْكِ إلّا مَنِ اعْتَصَمَ مِنهم بِالذِّمَّةِ، وأداءِ الجِزْيَةِ عَلى ما بَيَّنَهُ في غَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ، والآخَرُ: الأمْرُ بِأنْ نُقاتِلَهم مُجْتَمِعِينَ مُتَعاضِدِينَ غَيْرَ مُتَفَرِّقِينَ. ولِما احْتَمَلَ الوَجْهَيْنِ كانَ عَلَيْهِما إذْ لَيْسا مُتَنافِيَيْنِ، فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الأمْرُ بِالقِتالِ لِجَمِيعِ المُشْرِكِينَ، وأنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ مُتَعاضِدِينَ عَلى القِتالِ. وقَوْلُهُ: ﴿كَما يُقاتِلُونَكم كافَّةً﴾ يَعْنِي أنَّ جَماعَتَهم يَرَوْنَ ذَلِكَ فِيكم، ويَعْتَقِدُونَهُ. ويَحْتَمِلُ: كَما يُقاتِلُونَكم مُجْتَمِعِينَ. وهَذِهِ الآيَةُ في (p-٣٠٩)مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] مُتَضَمِّنَةٌ لِرَفْعِ العُهُودِ والذِّمَمِ الَّتِي كانَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وبَيْنَ المُشْرِكِينَ، وفِيها زِيادَةُ مَعْنًى، وهو الأمْرُ بِأنْ نَكُونَ مُجْتَمِعِينَ في حالِ قِتالِنا إيّاهُمْ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب