الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبارِ والرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ﴾ أكْلُ المالِ بِالباطِلِ هو تَمَلُّكُهُ مِنَ الجِهَةِ المَحْظُورَةِ؛ ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهم كانُوا يَأْخُذُونَ الرِّشى في الحُكْمِ وذَكَرَ الأكْلَ، والمُرادُ وُجُوهُ المَنافِعِ والتَّصَرُّفِ، إذْ كانَ أعْظَمُ مَنافِعِهِ الأكْلَ والشُّرْبَ، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ [النساء: ٢٩] والمُرادُ سائِرُ وُجُوهِ المَنافِعِ، وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَهُمْ﴾ [النساء: ٢] و﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى﴾ [النساء: ١٠] * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآيَةَ؛ يَقْتَضِي ظاهِرُهُ إيجابُ إنْفاقِ جَمِيعِ المالِ؛ لِأنَّ الوَعِيدَ لاحِقٌ بِتارِكِ إنْفاقِ الجَمِيعِ لِقَوْلِهِ: ﴿ولا يُنْفِقُونَها﴾ ولَمْ يَقُلْ ولا يُنْفِقُونَ مِنها. فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ المُرادُ الجَمِيعَ لَقالَ: ولا يُنْفِقُونَهُما قِيلَ لَهُ: لِأنَّ الكَلامَ رَجَعَ إلى مَدْلُولٍ عَلَيْهِ، كَأنَّهُ قالَ: ولا يُنْفِقُونَ الكُنُوزَ، والآخَرُ أنْ يُكْتَفى بِأحَدِهِما عَنِ الآخَرِ لِلْإيجازِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا رَأوْا تِجارَةً أوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْها﴾ [الجمعة: ١١] قالَ الشّاعِرُ: ؎نَحْنُ بِما عِنْدَنا وأنْتَ بِما عِنْدَكَ راضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ والمَعْنى: راضُونَ. والدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ راجِعٌ إلَيْهِما جَمِيعًا أنَّهُ لَوْ رَجَعَ إلى أحَدِهِما دُونَ الآخَرِ لَبَقِيَ أحَدُهُما عارِيًا مِن خَبَرِهِ فَيَكُونُ كَلامًا مُنْقَطِعًا لا مَعْنى لَهُ؛ إذْ كانَ قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ﴾ مُفْتَقِرًا إلى خَبَرٍ، ألا تَرى أنَّهُ لا يَجُوزُ الِاقْتِصارُ عَلَيْهِ ؟ وقَدْ رُوِيَ في مَعْنى (p-٣٠١)ظاهِرِ الآيَةِ أخْبارٌ؛ رَوى مُوسى بْنُ عُبَيْدَةَ قالَ: حَدَّثَنِي عِمْرانُ بْنُ أبِي أنَسٍ عَنْ مالِكِ بْنِ أوْسِ بْنِ الحِدْثانِ عَنْ أبِي ذَرٍّ قالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «فِي الإبِلِ صَدَقَتُها، مَن جَمَعَ دِينارًا أوْ دِرْهَمًا أوْ تِبْرًا أوْ فِضَّةً لا يُعِدُّهُ لِغَرِيمٍ، ولا يُنْفِقُهُ في سَبِيلِ اللَّهِ فَهي كَيٌّ يُكْوى بِها يَوْمَ القِيامَةِ قالَ: قُلْتُ: انْظُرْ ما يَجِيءُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَإنَّ هَذِهِ الأمْوالَ قَدْ فَشَتْ في النّاسِ فَقالَ: أما تَقْرَأُ القُرْآنَ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ﴾» الآيَةَ. فاقْتَضى ظاهِرُهُ أنَّ في الإبِلِ صَدَقَتُها لا جَمِيعُها، وهي الصَّدَقَةُ المَفْرُوضَةُ، وفي الذَّهَبِ والفِضَّةِ إخْراجُ جَمِيعِهِما؛ وكَذَلِكَ كانَ مَذْهَبُ أبِي ذَرٍّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أنَّهُ لا يَجُوزُ ادِّخارُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ. ورَوى مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ أبِي سَلَمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «ما أُحِبُّ أنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا يَمُرُّ عَلَيَّ ثَلاثَةٌ وعِنْدِي مِنهُ شَيْءٌ إلّا أنْ لا أجِدَ أحَدًا يَقْبَلُهُ مِنِّي صَدَقَةً إلّا أنْ أرْصُدَهُ لِدَيْنٍ عَلَيَّ». فَذَكَرَ في هَذا الحَدِيثَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، واخْتارَ إنْفاقَهُ، ولَمْ يَذْكُرْ وعِيدَ تارِكِ إنْفاقِهِ، ورَوى قَتادَةُ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أبِي أُمامَةَ قالَ: «تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِن أهْلِ الصُّفَّةِ فَوُجِدَ مَعَهُ دِينارٌ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: كَيَّةٌ»، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلِمَ أنَّهُ أخَذَ الدِّينارَ مِن غَيْرِ حِلِّهِ أوْ مَنَعَهُ مِن حَقِّهِ أوْ سَألَهُ غَيْرَهُ بِإظْهارِ الفاقَةِ مَعَ غِناهُ عَنْهُ، كَما رُوِيَ عَنْهُ ﷺ: «مَن سَألَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإنَّما يَسْتَكْثِرُ مِن جَمْرِ جَهَنَّمَ فَقُلْنا: وما غِناهُ يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: أنْ يَكُونَ عِنْدَ أهْلِهِ ما يُغَدِّيهِمْ ويُعَشِّيهِمْ» وكانَ ذَلِكَ في وقْتِ شِدَّةِ الحاجَةِ وضِيقِ العَيْشِ ووُجُوبِ المُواساةِ مِن بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ أنَّها مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ [التوبة: ١٠٣] قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِالنَّقْلِ المُسْتَفِيضِ إيجابُهُ في مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَراهِمَ، وفي عِشْرِينَ دِينارًا نِصْفُ دِينارٍ، كَما أوْجَبَ فَرائِضَ المَواشِي، ولَمْ يُوجِبِ الكُلَّ، فَلَوْ كانَ إخْراجُ الكُلِّ واجِبًا مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ لَما كانَ لِلتَّقْدِيرِ وجْهٌ. وأيْضًا فَقَدْ كانَ في الصَّحابَةِ قَوْمٌ ذَوُو يَسارٍ ظاهِرٍ وأمْوالٍ جَمَّةٍ مِثْلُ عُثْمانُ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وعَلِمَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ مِنهم فَلَمْ يَأْمُرْهم بِإخْراجِ الجَمِيعِ، فَثَبَتَ أنَّ إخْراجَ جَمِيعِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ غَيْرُ واجِبٍ، وأنَّ المَفْرُوضَ إخْراجُهُ هو الزَّكاةُ إلّا أنْ تَحْدُثَ أُمُورٌ تُوجِبُ المُواساةَ والإعْطاءَ نَحْوُ الجائِعِ المُضْطَرِّ والعارِي المُضْطَرِّ أوْ مَيِّتٍ لَيْسَ لَهُ مَن يُكَفِّنُهُ أوْ يُوارِيهِ. وقَدْ رَوى شَرِيكٌ عَنْ أبِي حَمْزَةَ عَنْ عامِرٍ عَنْ فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «فِي المالِ حَقٌّ سِوى الزَّكاةِ، وتَلا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ البِرَّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَ (p-٣٠٢)المَشْرِقِ والمَغْرِبِ﴾ [البقرة: ١٧٧] الآيَةَ» . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ: ولا يُنْفِقُونَ مِنها، فَحَذَفَ ( مِن ) وهو يُرِيدُها، وقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: ١٠٣] فَأمَرَ بِأخْذِ بَعْضِ المالِ لا جَمِيعِهِ، ولَيْسَ في ذَلِكَ ما يُوجِبُ نَسْخَ الأوَّلِ إذْ جائِزٌ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ: ولا يُنْفِقُونَ مِنها. وأمّا الكَنْزُ فَهو في اللُّغَةِ كَبْسُ الشَّيْءِ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ، قالَ الهُذَلِيُّ: ؎لا دَرَّ دَرِّي إنْ أطْعَمْتُ نازِلَكم ∗∗∗ قَرْفَ الحَتِيِّ وعِنْدِي البُرُّ مَكْنُوزُ ويُقالُ: كَنَزْتُ التَّمْرَ إذا كَبَسْتَهُ في القَوْصَرَةِ، وهو في الشَّرْعِ لِما لَمْ يُؤَدَّ زَكاتُهُ. ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ وابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ والحَسَنِ وعامِرٍ والسُّدِّيِّ قالُوا: ما لَمْ يُؤَدَّ زَكاتُهُ فَهو كَنْزٌ فَمِنهم مَن قالَ: وإنْ كانَ ظاهِرًا وما أُدِّيَ زَكاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، وإنْ كانَ مَدْفُونًا، ومَعْلُومٌ أنَّ أسْماءَ الشَّرْعِ لا تُؤْخَذُ إلّا تَوْقِيفًا، فَثَبَتَ أنَّ الكَنْزَ اسْمٌ لِما لَمْ يُؤَدَّ زَكاتُهُ المَفْرُوضَةُ وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ تَقْدِيرُ قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ﴾ الَّذِينَ لا يُؤَدُّونَ زَكاةَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ ﴿ولا يُنْفِقُونَها﴾ يَعْنِي الزَّكاةَ في سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَمْ تَقْتَضِ الآيَةُ إلّا وُجُوبَ الزَّكاةِ فَحَسْبُ. وقَدْ حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَعْلى المُحارِبِيُّ: حَدَّثَنا أبِي: حَدَّثَنا غَيْلانُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إياسٍ عَنْ مُجاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ﴾ كَبُرَ ذَلِكَ عَلى المُسْلِمِينَ فَقالَ عُمَرُ: أنا أُفَرِّجُ عَنْكم، فانْطَلَقَ فَقالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّهُ كَبُرَ عَلى أصْحابِكَ هَذِهِ الآيَةُ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكاةَ إلّا لِيُطَيِّبَ ما بَقِيَ مِن أمْوالِكم إنَّما فَرَضَ المَوارِيثَ لِتَكُونَ لِمَن بَعْدَكم، قالَ: فَكَبَّرَ عُمَرُ، ثُمَّ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ألا أُخْبِرُكم بِخَيْرِ ما يَكْنِزُ المَرْءُ ؟ المَرْأةُ الصّالِحَةُ إذا نَظَرَ إلَيْها سَرَّتْهُ، وإذا أمَرَها أطاعَتْهُ، وإذا غابَ عَنْها حَفِظَتْهُ» فَأخْبَرَ في هَذا الحَدِيثِ أنَّ المُرادَ إنْفاقُ بَعْضِ المالِ لا جَمِيعِهِ، وأنَّ قَوْلَهُ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ﴾ المُرادُ بِهِ مَنعُ الزَّكاةِ، ورَوى ابْنُ لَهِيعَةَ قالَ: حَدَّثَنا دَرّاجٌ عَنْ أبِي الهَيْثَمِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا أدَّيْتُ زَكاةَ مالِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ الحَقَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْكَ». فَأخْبَرَ في هَذا الحَدِيثِ أيْضًا أنَّ الحَقَّ الواجِبَ في المالِ هو الزَّكاةُ، ورَوى سُهَيْلُ بْنُ أبِي صالِحٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما مِن صاحِبِ كَنْزٍ لا يُؤَدِّي زَكاةَ كَنْزِهِ إلّا جِيءَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ وبِكَنْزِهِ فَيُحْمى بِها جَنْبُهُ وجَبِينُهُ حَتّى يَحْكُمَ اللَّهِ بَيْنَ عِبادِهِ»، فَأخْبَرَ في هَذا الحَدِيثِ أنَّ الحَقَّ الواجِبَ في الكَنْزِ هو الزَّكاةُ دُونَ غَيْرِهِ، وأنَّهُ لا يَجِبُ جَمِيعُهُ. وقَوْلُهُ: «فَيُحْمى بِها جَنْبُهُ وجَبْهَتُهُ» يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أرادَ مَعْنى قَوْلِهِ: (p-٣٠٣)﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿فَتُكْوى بِها جِباهُهم وجُنُوبُهم وظُهُورُهم هَذا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ﴾ يَعْنِي: لَمْ تُؤَدُّوا زَكاتَهُ وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صالِحٍ: حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أبِي سَلَمَةَ الماجِشُونُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ الَّذِي لا يُؤَدِّي زَكاتَهُ يُمَثَّلُ لَهُ شُجاعٌ أقْرَعُ لَهُ زَبِيبَتانِ يَلْزَمُهُ أوْ يُطَوِّقُهُ فَيَقُولُ أنا كَنْزُكَ أنا كَنْزُكَ» فَأخْبَرَ أنَّ المالَ الَّذِي لا تُؤَدّى زَكاتُهُ هو الكَنْزُ. ولَمّا ثَبَتَ بِما وصَفْنا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ مُرادُهُ مَنعُ الزَّكاةِ، أوْجَبَ عُمُومَهُ إيجابَ الزَّكاةِ في سائِرِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، إذْ كانَ اللَّهُ إنَّما عَلَّقَ الحُكْمَ فِيهِما بِالِاسْمِ فاقْتَضى إيجابَ الزَّكاةِ فِيهِما بِوُجُودِ الِاسْمِ دُونَ الصَّنْعَةِ، فَمَن كانَ عِنْدَهُ ذَهَبٌ مَصُوغٌ أوْ مَضْرُوبٌ أوْ تِبْرٌ أوْ فِضَّةٌ كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ زَكاتُهُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، ويَدُلُّ أيْضًا عَلى وُجُوبِ ضَمِّ الذَّهَبِ إلى الفِضَّةِ لِإيجابِهِ الحَقَّ فِيهِما مَجْمُوعَيْنِ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فِي زَكاةِ الحُلِيِّ. وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في زَكاةِ الحُلِيِّ، فَأوْجَبَ أصْحابُنا فِيهِ الزَّكاةَ، ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وابْنِ مَسْعُودٍ رَواهُ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَمّادٍ عَنْ إبْراهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. ورُوِيَ عَنْ جابِرٍ وابْنِ عُمَرَ وعائِشَةَ: لا زَكاةَ في الحُلِيِّ، وهو قَوْلُ مالِكٍ والشّافِعِيِّ. ورُوِيَ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ: أنَّ الحُلِيَّ تُزَكّى مَرَّةً واحِدَةً ولا تُزَكّى بَعْدَ ذَلِكَ.، وقَدْ ذَكَرْنا وجْهَ دَلالَةِ الآيَةِ عَلى وُجُوبِها في الحُلِيِّ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ، وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ آثارٌ في إيجابِ زَكاةِ الحُلِيِّ، مِنها حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأى امْرَأتَيْنِ في أيْدِيهِما سِوارانِ مِن ذَهَبٍ فَقالَ: «أتُعْطِينَ زَكاةَ هَذا ؟ قالَتْ: لا، قالَ: أيَسُرُّكَ أنْ يُسَوِّرَكَ اللَّهُ بِهِما يَوْمَ القِيامَةِ سِوارَيْنِ مِن نارٍ ؟» فَأوْجَبَ الزَّكاةَ في السِّوارِ، وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسى قالَ: حَدَّثَنا عَتّابُ بْنُ ثابِتِ بْنِ عَجْلانَ عَنْ عَطاءٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قالَتْ: كُنْتُ ألْبِسُ أوْضاحًا مِن ذَهَبٍ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ أكَنْزٌ هو ؟ فَقالَ: «ما بَلَغَ أنْ تُؤَدِّيَ زَكاتَهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» . وقَدْ حَوى هَذا الخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: وُجُوبُ زَكاةِ الحُلِيِّ، والآخَرُ: أنَّ الكَنْزَ ما لَمْ تُؤَدَّ زَكاتُهُ. وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الرّازِيِّ: حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طارِقٍ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ أيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي جَعْفَرٍ أنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَطاءٍ أخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدّادِ بْنِ الهادِ أنَّهُ قالَ: «دَخَلْنا عَلى عائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ فَقالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ (p-٣٠٤)ﷺ فَرَأى في يَدَيَّ فَتَحاتٍ مِن ورِقٍ، فَقالَ: ما هَذا يا عائِشَةُ ؟ فَقُلْتُ: صَنَعْتُهُنَّ أتَزَّيَّنُ لَكَ يا رَسُولَ اللَّهِ قالَ: أتُؤَدِّينَ زَكاتَهُنَّ ؟ قُلْتُ: لا، أوْ ما شاءَ اللَّهُ، قالَ: هو حَسْبُكَ مِنَ النّارِ». فانْتَظَمَ هَذا الخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: وُجُوبُ زَكاةِ الحُلِيِّ، والآخَرُ: أنَّ المَصُوغَ يُسَمّى ورِقًا لِأنَّها قالَتْ: { فَتَحاتٍ مِن ورَقٍ } فاقْتَضى ظاهِرُ قَوْلِهِ: «فِي الرِّقَةِ رُبْعُ العُشْرِ» إيجابُ الزَّكاةِ في الحُلِيِّ؛ لِأنَّ الرِّقَةَ والوَرِقَ واحِدٌ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ النَّظَرِ أنَّ الذَّهَبَ والفِضَّةَ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الزَّكاةِ فِيهِما بِأعْيانِهِما في مِلْكِ مَن كانَ مِن أهْلِ الزَّكاةِ لا بِمَعْنى يَنْضَمُّ إلَيْهِما، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ النُّقَرَ والسَّبائِكَ تَجِبُ فِيهِما الزَّكاةُ، وإنْ لَمْ تَكُنْ مُرْصَدَةً لِلنَّماءِ، وفارَقا بِهَذا غَيْرَهُما مِنَ الأمْوالِ؛ لِأنَّ غَيْرَهُما لا تَجِبُ الزَّكاةُ فِيهِما بِوُجُودِ المِلْكِ إلّا أنْ تَكُونَ مُرْصَدَةً لِلنَّماءِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَخْتَلِفَ حُكْمُ المَصُوغِ والمَضْرُوبِ. وأيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أنَّ الحُلِيَّ إذا كانَ في مِلْكِ الرَّجُلِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ فَكَذَلِكَ إذا كانَ في مِلْكِ المَرْأةِ كالدَّراهِمِ والدَّنانِيرِ. وأيْضًا لا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الرَّجُلِ والمَرْأةِ فِيما يَلْزَمُهُما مِنَ الزَّكاةِ فَوَجَبَ أنْ لا يَخْتَلِفا في الحُلِيِّ. فَإنْ قِيلَ: الحُلِيُّ كالنُّقُرِ العَوامِلِ وثِيابِ البِذْلَةِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنّا أنَّ ما عَداهُما يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الزَّكاةِ فِيهِما بِأنْ يَكُونَ مُرْصَدًا لِلنَّماءِ، فَما لَمْ يُوجَدْ هَذا المَعْنى لَمْ تَجِبْ، والذَّهَبُ والفِضَّةُ لِأعْيانِهِما بِدَلالَةِ الدَّراهِمِ والدَّنانِيرِ، والنُّقَرُ والسَّبائِكُ إذا أرادَ بِهِما القُنْيَةَ والتَّبْقِيَةَ لا طَلَبَ النَّماءِ. وأيْضًا لَمّا لَمْ يَكُنْ لِلصَّنْعَةِ تَأْثِيرٌ فِيهِما، ولَمْ يُغَيِّرْ حُكْمَهُما في حالٍ وجَبَ أنْ لا يَخْتَلِفَ الحُكْمُ بِوُجُودِ الصَّنْعَةِ وعَدَمِها. فَإنْ قِيلَ زَكاةُ الحُلِيِّ عارِيَّتُهُ. قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ؛ لِأنَّ العارِيَّةَ غَيْرُ واجِبَةٍ، والزَّكاةُ واجِبَةٌ، فَبَطَلِ أنْ تَكُونَ العارِيَّةُ زَكاةً. وأمّا قَوْلُ أنَسِ بْنِ مالِكٍ: إنَّ الزَّكاةَ تَجِبُ في الحُلِيِّ مَرَّةً واحِدَةً فَلا وجْهَ لَهُ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ مِن جِنْسِ ما تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ وجَبَتْ في كُلِّ حَوَلٍ. * * * * فَصْلٌ وقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى وُجُوبِ الزَّكاةِ في الذَّهَبِ والفِضَّةِ بِمَجْمُوعِهِما، فاقْتَضى ذَلِكَ وُجُوبَ ضَمِّ بَعْضِها إلى بَعْضٍ. وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في ذَلِكَ، فَقالَ أصْحابُنا: { يُضَمُّ أحَدُهُما إلى الآخَرِ فَإذا كَمُلَ النِّصابُ بِها زُكِّيَ } . واخْتَلَفَ أصْحابُنا في كَيْفِيَّتِهِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: { يُضَمُّ بِالقِيمَةِ كالعُرُوضِ } . وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: { يُضَمُّ بِالأجْزاءِ } . وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى والشّافِعِيُّ: { لا يُضَمّانِ } . ورُوِيَ الضَّمُّ عَنِ الحَسَنِ وبُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأشَجِّ وقَتادَةَ، والدَّلِيلُ عَلى وُجُوبِ الزَّكاةِ فِيهِما مَجْمُوعِينَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فَأوْجَبَ اللَّهُ تَعالى فِيهِما الزَّكاةَ مَجْمُوعِينَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا يُنْفِقُونَها﴾ قَدْ (p-٣٠٥)أرادَ بِهِ إنْفاقَهُما جَمِيعًا. ويَدُلُّ عَلى وُجُوبِ الضَّمِّ أنَّهُما مُتَّفِقانِ في وُجُوبِ الحَقِّ فِيهِما، وهو رُبْعُ العُشْرِ، فَكانا بِمَنزِلَةِ العُرُوضِ المُخْتَلِفَةِ إذا كانَتْ لِلتِّجارَةِ لَمّا كانَ الواجِبُ فِيها رُبْعَ العُشْرِ ضُمَّ بَعْضُها إلى بَعْضٍ مَعَ اخْتِلافِ أجْناسِها. وقَدْ قالَ الشّافِعِيُّ فِيمَن لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وعَرْضٌ لِلتِّجارَةِ يُساوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ: { إنَّ الزَّكاةَ واجِبَةٌ عَلَيْهِ } فَضَمَّ العَرْضَ إلى المِائَةِ مَعَ اخْتِلافِ الجِنْسَيْنِ لِاتِّفاقِهِما في وُجُوبِ رُبْعِ العُشْرِ. ولَيْسَ الذَّهَبُ والفِضَّةُ كالجِنْسَيْنِ مِنَ الإبِلِ والغَنَمِ لِأنَّ زَكاتَهُما مُخْتَلِفَةٌ. فَإنْ قِيلَ: زَكاةُ خَمْسٍ مِنَ الإبِلِ مِثْلُ زَكاةِ أرْبَعِينَ شاةً، ولَمْ يَكُنِ اتِّفاقُهُما في الحَقِّ الواجِبِ مُوجِبًا لِضَمِّ أحَدِهِما إلى الآخَرِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نَقُلْ إنَّ اتِّفاقَهُما في المِقْدارِ الواجِبِ يُوجِبُ ضَمَّ أحَدِهِما إلى الآخَرِ، وإنَّما قُلْنا إنَّ اتِّفاقَهُما في وُجُوبِ رُبْعِ العُشْرِ فِيهِما هو المَعْنى المُوجِبُ لِلضَّمِّ، كَعُرُوضِ التِّجارَةِ عِنْدَ اتِّفاقِها في وُجُوبِ رُبْعِ العُشْرِ وقْتَ الضَّمِّ، والإبِلُ والغَنَمُ لَيْسَ الواجِبُ فِيهِما رُبْعَ العُشْرِ لِأنَّ الشّاةَ لَيْسَتْ رُبْعَ العُشْرِ مِن خَمْسٍ مِنَ الإبِلِ، ولا رُبْعَ العُشْرِ مِن أرْبَعِينَ شاةً أيْضًا؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ الغَنَمُ خِيارًا ويَكُونَ الواجِبُ فِيها شاةً وسَطًا فَيَكُونَ أقَلَّ مِن رُبْعِ عُشُرِها، فَهَذا إلْزامٌ ساقِطٌ. فَإنِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ ﷺ: «لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسِ أواقٍ صَدَقَةٌ»، وذَلِكَ يُوجِبُ الزَّكاةَ فِيها. سَواءٌ كانَ مَعَها ذَهَبٌ أوْ لَمْ يَكُنْ. قِيلَ لَهُ: كَما لَمْ يَمْنَعْ قَوْلُهُ: «لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسِ أواقٍ صَدَقَةٌ» وُجُوبُ ضَمِّ المِائَةِ إلى العُرُوضِ، وكانَ مَعْناهُ عِنْدَكَ: إذا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنَ العُرُوضِ، كَذَلِكَ نَقُولُ نَحْنُ في ضَمِّهِ إلى الذَّهَبِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب