الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكم وعَلِمَ أنَّ فِيكم ضَعْفًا﴾ لَمْ يُرِدْ بِهِ ضَعْفَ القُوى والأبْدانِ وإنَّما المُرادُ ضَعْفُ النِّيَّةِ لِمُحارَبَةِ المُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ فَرْضَ الجَمِيعِ فَرْضَ ضُعَفائِهِمْ. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: ما ظَنَنْتُ أنَّ أحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ يُرِيدُ بِقِتالِهِ غَيْرَ اللَّهِ حَتّى أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿مِنكم مَن يُرِيدُ الدُّنْيا ومِنكم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ [آل عمران: ١٥٢] فَكانَ الأوَّلُونَ عَلى مِثْلِ هَذِهِ النِّيّاتِ فَلَمّا خالَطَهم مَن يُرِيدُ الدُّنْيا بِقِتالِهِ سَوّى بَيْنَ الجَمِيعِ في الفَرْضِ وفي هَذِهِ الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى بُطْلانِ مَن أبى وُجُودَ النَّسْخِ في شَرِيعَةِ النَّبِيِّ ﷺ وإنْ لَمْ يَكُنْ قائِلُهُ مُعْتَدًّا بِقَوْلِهِ لِأنَّهُ قالَ تَعالى ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكم وعَلِمَ أنَّ فِيكم ضَعْفًا فَإنْ يَكُنْ مِنكم مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ والتَّخْفِيفُ لا يَكُونُ إلّا بِزَوالِ بَعْضِ الفَرْضِ الأوَّلِ أوِ النَّقْلِ عَنْهُ إلى ما هو أخَفُّ مِنهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ الآيَةَ الثّانِيَةَ ناسِخَةٌ لِلْفَرْضِ الأوَّلِ وزَعَمَ القائِلُ بِما ذَكَرْنا مِن إنْكارِ النَّسْخِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ في الآيَةِ أمْرٌ وإنَّما فِيهِ الوَعْدُ بِشَرِيطَةٍ فَمَتى وفّى بِالشَّرْطِ أنْجَزَ الوَعْدَ وإنَّما كَلَّفَ كُلَّ قَوْمٍ مِنَ الصَّبْرِ عَلى قَدْرِ اسْتِطاعَتِهِمْ فَكانَ عَلى الأوَّلِينَ ما ذَكَرَ مِن مُقاوَمَةِ العِشْرِينَ لِلْمِائَتَيْنِ والآخَرُونَ لَمْ يَكُنْ لَهم مِن نَفاذِ البَصِيرَةِ مِثْلُ ما لِلْأوَّلِينَ فَكُلِّفُوا مُقاوَمَةَ الواحِدِ لِلِاثْنَيْنِ (p-٢٥٧)والمِائَةِ لِلْمِائَتَيْنِ قالَ ومُقاوَمَةُ العِشْرِينَ لِلْمِائَتَيْنِ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ وكَذَلِكَ المِائَةُ لِلْمِائَتَيْنِ وإنَّما الصَّبْرُ مَفْرُوضٌ عَلى قَدْرِ الإمْكانِ والنّاسُ مُخْتَلِفُونَ في ذَلِكَ عَلى مَقادِيرِ اسْتِطاعاتِهِمْ فَلَيْسَ في الآيَةِ نَسْخٌ كَما زُعِمَ. قالَ أبُو بَكْرٍ هَذا كَلامٌ شَدِيدُ الِاخْتِلالِ والتَّناقُضِ خارِجٌ عَنْ قَوْلِ الأُمَّةِ سَلَفِها وخَلَفِها؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لا يَخْتَلِفُ أهْلُ النَّقْلِ والمُفَسِّرُونَ في أنَّ الفَرْضَ كانَ في أوَّلِ الإسْلامِ مُقاوَمَةُ الواحِدِ لِلْعَشَرَةِ ومَعْلُومٌ أيْضًا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٥] وإنْ كانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الخَبَرِ فَمَعْناهُ الأمْرُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٣] وقَوْلُهُ تَعالى ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] ولَيْسَ هو إخْبارًا بِوُقُوعِ ذَلِكَ وإنَّما هو أمْرٌ بِأنْ لا يَفِرَّ الواحِدُ مِنَ العَشَرَةِ ولَوْ كانَ هَذا خَبَرًا لَما كانَ لِقَوْلِهِ ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ مَعْنًى لِأنَّ التَّخْفِيفَ إنَّما يَكُونُ في المَأْمُورِ بِهِ لا في المُخْبَرِ عَنْهُ ومَعْلُومٌ أيْضًا أنَّ القَوْمَ الَّذِينَ كانُوا مَأْمُورِينَ بِأنْ يُقاوِمَ الواحِدُ مِنهُمُ العَشَرَةَ مِنَ المُشْرِكِينَ داخِلُونَ في قَوْلِهِ ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكم وعَلِمَ أنَّ فِيكم ضَعْفًا﴾ فَلا مَحالَةَ قَدْ وقَعَ النَّسْخُ عَنْهم فِيما كانُوا تَعَبَّدُوا بِهِ مِن ذَلِكَ ولَمْ يَكُنْ أُولَئِكَ القَوْمُ قَدْ نَقَصَتْ بَصائِرُهم ولَقَلَّ صَبْرُهم وإنَّما خالَطَهم قَوْمٌ لَمْ يَكُنْ لَهم مِثْلُ بَصائِرِهِمْ ونِيّاتِهِمْ وهُمُ المَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وعَلِمَ أنَّ فِيكم ضَعْفًا﴾ فَبَطَلَ بِذَلِكَ قَوْلُ هَذا القائِلِ بِما وصَفْنا وقَدْ أقَرَّ هَذا القائِلُ أنَّ بَعْضَ التَّكْلِيفِ قَدْ زالَ مِنهم بِالآيَةِ الثّانِيَةِ وهَذا هو مَعْنى النَّسْخِ واَللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب