الباحث القرآني

* فَصْلٌ وأمّا الماءُ الَّذِي خالَطَتْهُ نَجاسَةٌ فَإنَّ مَذْهَبَ أصْحابِنا فِيهِ أنَّ كُلَّ ما تَيَقَّنّا فِيهِ جُزْءًا مِنَ النَّجاسَةِ أوْ غَلَبَ في الظَّنِّ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمالُهُ، ولا يَخْتَلِفُ عَلى هَذا الحَدِّ ماءُ البَحْرِ وماءُ البِئْرِ والغَدِيرِ والماءُ الرّاكِدُ والجارِي؛ لِأنَّ ماءَ البَحْرِ لَوْ وقَعَتْ فِيهِ نَجاسَةٌ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمالُ الماءِ الَّذِي فِيهِ النَّجاسَةُ، وكَذَلِكَ الماءُ الجارِي. وأمّا اعْتِبارُ أصْحابِنا لِلْغَدِيرِ الَّذِي إذا حُرِّكَ أحَدُ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّكِ الطَّرَفُ الآخَرُ، فَإنَّما هو كَلامٌ في جِهَةِ تَغْلِيبِ الظَّنِّ في بُلُوغِ النَّجاسَةِ الواقِعَةِ في أحَدِ طَرَفَيْهِ إلى الطَّرَفِ الآخَرِ، ولَيْسَ هَذا كَلامًا في أنَّ بَعْضَ المِياهِ الَّذِي فِيهِ النَّجاسَةُ قَدْ يَجُوزُ اسْتِعْمالُهُ وبَعْضَها لا يَجُوزُ اسْتِعْمالُهُ؛ ولِذَلِكَ قالُوا: لا يَجُوزُ اسْتِعْمالُ الماءِ الَّذِي في النّاحِيَةِ الَّتِي فِيها النَّجاسَةُ. وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وفُقَهاءُ الأمْصارِ في الماءِ الَّذِي حَلَّتْهُ نَجاسَةٌ، فَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ غَدِيرٍ يُطْرَحُ فِيهِ المَيْتَةُ والحَيْضُ فَقالَ: ( تَوَضَّئُوا فَإنَّ الماءَ لا يَخْبُثُ ) . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ في الجُنُبِ يَدْخُلُ الحَمّامَ: ( إنَّ الماءَ لا يُجْنِبُ ) . وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ رِوايَةً في الماءِ تَرِدُهُ السِّباعُ والكِلابُ فَقالَ: ( الماءُ لا يَتَنَجَّسُ ) . وقالَ ابْنُ المُسَيِّبِ: ( أنْزَلَ اللَّهُ الماءَ طَهُورًا لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ ) . وقالَ الحَسَنُ والزُّهْرِيُّ في البَوْلِ في الماءِ: ( لا يُنَجَّسُ ما لَمْ يُغَيِّرْهُ بِرِيحٍ أوْ لَوْنٍ أوْ طَعْمٍ ) . وقالَ عَطاءٌ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وابْنُ أبِي لَيْلى: ( الماءُ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ )، وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ القاسِمِ وسالِمٍ وأبِي العالِيَةِ، وهو قَوْلُ رَبِيعَةَ. وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ رِوايَةً: ( لا يُخْبِثُ (p-٢٠٥)أرْبَعِينَ دَلْوًا شَيْءٌ )، وهو قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ في رِوايَةٍ. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: ( إذا كانَ الماءُ أرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ ) . ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: ( الحَوْضُ لا يَغْتَسِلُ فِيهِ جُنُبٌ إلّا أنْ يَكُونَ فِيهِ أرْبَعُونَ غَرْبًا )، وهو قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ. وقالَ مَسْرُوقٌ والنَّخَعِيُّ وابْنُ سِيرِينَ: ( إذا كانَ الماءُ كَرًّا لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ ) . وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ( الماءُ الرّاكِدُ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إذا كانَ قَدْرَ ثَلاثِ قِلالٍ ) . وقالَ مُجاهِدٌ: ( إذا كانَ الماءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ ) . وقالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: ( لَوْ أنَّ قَطْرَةً مِن مُسْكِرٍ قُطِرَتْ في قِرْبَةٍ مِنَ الماءِ لَحُرِّمَ ذَلِكَ الماءُ عَلى أهْلِهِ ) . وقالَ مالِكٌ والأوْزاعِيِّ: ( لا يَفْسُدُ الماءُ بِالنَّجاسَةِ إلّا أنْ يَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ أوْ رِيحُهُ ) وقَدْ ذُكِرَ عَنْ مالِكٍ مَسائِلُ في مَوْتِ الدَّجاجَةِ في البِئْرِ: ( أنَّها تُنْزَفُ إلّا أنْ تَغْلِبَهم، ويُعِيدُ الصَّلاةَ مَن تَوَضَّأ بِهِ ما دامَ في الوَقْتِ ) وهَذا عِنْدَهُ اسْتِحْبابٌ، وكَذَلِكَ يَقُولُ أصْحابُهُ: إنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ مالِكٌ: إنَّهُ يُعِيدُ في الوَقْتِ هو اسْتِحْبابٌ لَيْسَ بِإيجابٍ. وقالَ في الحَوْضِ إذا اغْتَسَلَ فِيهِ جُنُبٌ: ( أفْسَدَهُ )، وهَذا أيْضًا عِنْدَهُ اسْتِحْبابٌ لِتَرْكِ اسْتِعْمالِهِ، وإنْ تَوَضَّأ بِهِ أجْزَأهُ. وكَرِهَ اللَّيْثُ لِلْجُنُبِ أنْ يَغْتَسِلَ في البِئْرِ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: ( لا بَأْسَ أنْ يَغْتَسِلَ الجُنُبُ في الماءِ الرّاكِدِ الكَثِيرِ القائِمِ في النَّهْرِ والسَّبْخَةِ ) وكَرِهَ الوُضُوءَ بِالماءِ بِالفَلاةِ إذا كانَ أقَلَّ مِن قَدْرِ الكُرِّ؛ ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلْقَمَةَ وابْنِ سِيرِينَ؛ والكُرُّ عِنْدَهم ثَلاثَةُ آلافِ رِطْلٍ ومِائَتا رِطْلٍ. وقالَ الشّافِعِيُّ: ( إذا كانَ الماءُ قُلَّتَيْنِ بِقِلالِ هَجَرَ لَمْ يُنَجِّسْهُ إلّا ما غَيَّرَ طَعْمَهُ أوْ لَوْنَهُ، وإنْ كانَ أقَلَّ يَتَنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجاسَةِ اليَسِيرَةِ ) . واَلَّذِي يُحْتَجُّ بِهِ لِقَوْلِ أصْحابِنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ والنَّجاساتُ لا مَحالَةَ مِنَ الخَبائِثِ، وقالَ: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ﴾ [البقرة: ١٧٣] وقالَ في الخَمْرِ ﴿رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: ٩٠] «ومَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِقَبْرَيْنِ فَقالَ: إنَّهُما لَيُعَذَّبانِ وما يُعَذَّبانِ في كَبِيرٍ، أمّا أحَدُهُما كانَ لا يَسْتَبْرِئُ مِنَ البَوْلِ والآخَرُ كانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ»، فَحَرَّمَ اللَّهُ هَذِهِ الأشْياءَ تَحْرِيمًا مُبْهَمًا ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حالِ انْفِرادِها واخْتِلاطِها بِالماءِ، فَوَجَبَ تَحْرِيمُ اسْتِعْمالِ كُلِّ ما تَيَقَّنّا فِيهِ جُزْءًا مِنَ النَّجاسَةِ، ويَكُونُ جِهَةَ الحَظْرِ مِن طَرِيقِ النَّجاسَةِ أوْلى مِن جِهَةِ الإباحَةِ مِن طَرِيقِ الماءِ المُباحِ في الأصْلِ؛ لِأنَّهُ مَتى اجْتَمَعَ في شَيْءٍ جِهَةُ الحَظْرِ وجِهَةُ الإباحَةِ فَجِهَةُ الحَظْرِ أوْلى، ألا تَرى أنَّ الجارِيَةَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَوْ كانَ لِأحَدِهِما فِيها مِائَةُ جُزْءٍ ولِلْآخَرِ جُزْءٌ واحِدٌ أنَّ جِهَةَ الحَظْرِ فِيها أوْلى مِن جِهَةِ الإباحَةِ وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ لِواحِدٍ مِنهُما وطْؤُها ؟ فَإنْ قِيلَ: لِمَ غُلِّبَتْ جِهَةُ الحَظْرِ في النَّجاسَةِ عَلى جِهَةِ الإيجابِ في اسْتِعْمالِ الماءِ الَّذِي قَدْ حَلَّتْهُ نَجاسَةٌ إذا لَمْ تَجِدْ (p-٢٠٦)ماءً غَيْرَهُ ؟ ومَعْلُومٌ أنَّ اسْتِعْمالَهُ في هَذِهِ الحالِ واجِبٌ إذا لَزِمَهُ فَرْضُ أداءِ الصَّلاةِ، وإنَّما اجْتَمَعَ هَهُنا جِهَةُ الحَظْرِ وجِهَةُ الإيجابِ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُكَ: إنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ جِهَةُ الحَظْرِ وجِهَةُ الإيجابِ خَطَأٌ؛ لِأنَّهُ إنَّما يَجِبُ اسْتِعْمالُ الماءِ الَّذِي لا نَجاسَةَ فِيهِ، فَأمّا ما فِيهِ نَجاسَةٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمالُهُ. فَإنْ قِيلَ: إنَّما يَلْزَمُهُ اجْتِنابُ النَّجاسَةِ إذا كانَتْ مُتَجَرِّدَةً بِنَفْسِها، فَأمّا إذا كانَتْ مُخالِطَةً لِلْماءِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ اجْتِنابُها. قِيلَ لَهُ: عُمُومُ ما ذَكَرْنا مِنَ الآيِ والسُّنَنِ قاضٍ بِلُزُومِ اجْتِنابِها في حالَةِ الِانْفِرادِ والِاخْتِلاطِ، ومَنِ ادَّعى تَخْصِيصَ شَيْءٍ مِنهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ إلّا بِدَلالَةٍ. وأيْضًا فَإذا كانَ واجِدًا لِماءٍ غَيْرِهِ لَمْ تُخالِطْهُ نَجاسَةٌ فَلَيْسَ بِواجِبٍ عَلَيْهِ اسْتِعْمالُ الماءِ الَّذِي فِيهِ النَّجاسَةُ، وأكْثَرُ ما فِيهِ عِنْدَ مُخالِفِنا جَوازُ اسْتِعْمالِهِ عَلى وجْهِ الإباحَةِ، وما ذَكَرْناهُ مِن لُزُومِ اجْتِنابِ النَّجاسَةِ يُوجِبُ الحَظْرَ، والإباحَةُ والحَظْرُ مَتى اجْتَمَعا فالحُكْمُ لِلْحَظْرِ عَلى ما بَيَّنّا، وإذا صَحَّ ذَلِكَ وكانَ واجِدًا لِماءٍ غَيْرِهِ وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُهُ إذا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: لُزُومُ اسْتِعْمالِ الآيِ الحاظِرَةِ لِاسْتِعْمالِ النَّجاساتِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ الحَظْرَ قَدْ تَناوَلَها في حالِ اخْتِلاطِها بِهِ كَهو في حالِ انْفِرادِها. والثّانِي: أنَّ أحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حالِ وُجُودِ ماءٍ غَيْرِهِ وبَيْنَهُ إذا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ، فَإذا صَحَّ لَها ذَلِكَ في حالِ وُجُودِ ماءٍ غَيْرِهِ كانَتِ الحالُ الأُخْرى مِثْلَهُ لِاتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى امْتِناعِ الفَصْلِ بَيْنَهُما ووَجْهٌ آخَرُ يُوجِبُ أنْ يَكُونَ لُزُومُ اجْتِنابِ النَّجاسَةِ أوْلى مِن وُجُوبِ اسْتِعْمالِ الماءِ الَّذِي هي فِيهِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿فاغْسِلُوا﴾ [المائدة: ٦] إذا لَمْ يَجِدْ ماءً غَيْرَهُ؛ وهو أنَّ تَحْرِيمَ اسْتِعْمالِ النَّجاسَةِ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِها، ألا تَرى أنَّهُ ما مِن نَجاسَةٍ إلّا وعَلَيْنا اجْتِنابُها وتَرْكُ اسْتِعْمالِها إذا كانَتْ مُنْفَرِدَةً، والماءُ الَّذِي لا نَجِدُ غَيْرَهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ لُزُومُ الِاسْتِعْمالِ ؟ ألا تَرى أنَّهُ لَوْ أعْطاهُ إنْسانٌ ماءً غَيْرَهُ أوْ غَصَبَهُ فَتَوَضَّأ بِهِ كانَتْ طَهارَتُهُ صَحِيحَةً ؟ فَلَمّا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَرْضُ طَهارَتِهِ بِذَلِكَ وتَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَظْرُ اسْتِعْمالِ النَّجاسَةِ صارَ لِلُزُومِ اجْتِنابِ النَّجاسَةِ مَزِيَّةٌ عَلى وُجُوبِ اسْتِعْمالِ الماءِ الَّذِي لا يَجِدُ غَيْرَهُ إذا كانَتْ فِيهِ نَجاسَةٌ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ العُمُومُ المُوجِبُ لاجْتِنابِها أوْلى. وأيْضًا لا نَعْلَمُ خِلافًا بَيْنَ الفُقَهاءِ في سائِرِ المائِعاتِ إذا خالَطَهُ اليَسِيرُ مِنَ النَّجاسَةِ، كاللَّبَنِ والأدْهانِ والخَلِّ ونَحْوِهِ، وإنَّ حُكْمَ اليَسِيرِ في ذَلِكَ كَحُكْمِ الكَثِيرِ وأنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ أكْلُ ذَلِكَ وشُرْبُهُ، والدَّلالَةُ مِن هَذا الأصْلِ عَلى ما ذَكَرْناهُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: لُزُومُ اجْتِنابِ النَّجاساتِ بِالعُمُومِ الَّذِي قَدَّمْنا في حالِيِّ المُخالَطَةِ والِانْفِرادِ. والآخَرُ: أنَّ حُكْمَ الحَظْرِ وهو النَّجاسَةُ كانَ أغْلَبَ في حُكْمِ الإباحَةِ وهو الَّذِي خالَطَهُ مِنَ الأشْياءِ (p-٢٠٧)الطّاهِرَةِ، ولا فَرْقَ في ذَلِكَ بَيْنَ أنْ يَكُونَ الَّذِي خالَطَهُ مِن ذَلِكَ ماءٌ أوْ غَيْرُهُ،؛ إذْ كانَ عُمُومُ الآيِ والسُّنَنِ شامِلَةً لَهُ، وإذا كانَ المَعْنى وُجُودَ النَّجاسَةِ فِيهِ حُظِرَ اسْتِعْمالُهُ. ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا مِن جِهَةِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ ﷺ «لا يَبُولَنَّ أحَدُكم في الماءِ الدّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ مِن جَنابَةٍ وفي لَفْظٍ آخَرَ: ولا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِن جَنابَةٍ» ومَعْلُومٌ أنَّ البَوْلَ القَلِيلَ في الماءِ الكَثِيرِ لا يُغَيِّرُ طَعْمَهُ ولا لَوْنَهُ ولا رائِحَتَهُ، ومَنَعَ النَّبِيُّ ﷺ مِنهُ. فَإنْ قِيلَ: إنَّما مَنَعَ البَوْلَ القَلِيلَ؛ لِأنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لِكُلِّ أحَدٍ لَكَثُرَ حَتّى يَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ أوْ لَوْنُهُ أوْ رائِحَتُهُ فَيَفْسُدُ. قِيلَ لَهُ: ظاهِرُ نَهْيِهِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ القَلِيلُ مَنهِيًّا عَنْهُ لِنَفْسِهِ لا لِغَيْرِهِ، وفي حَمْلِهِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ بِمَنهِيٍّ عَنْهُ لِنَفْسِهِ وأنَّهُ إنَّما مُنِعَ لِئَلّا يُفْسِدَ لِغَيْرِهِ إثْباتُ مَعْنًى غَيْرِ مَذْكُورٍ في اللَّفْظِ ولا دَلالَةَ عَلَيْهِ وإسْقاطُ حُكْمِ المَذْكُورِ في نَفْسِهِ. وعَلى أنَّهُ مَتى حُمِلَ عَلى ذَلِكَ زالَتْ فائِدَتُهُ وسَقَطَ حُكْمُهُ لَعَلِمْنا بِأنَّ ما غَيَّرَ مِنَ النَّجاساتِ طَعْمَ الماءِ أوْ لَوْنَهُ أوْ رائِحَتَهُ مَحْظُورٌ اسْتِعْمالُهُ بِغَيْرِ هَذا الخَبَرِ مِنَ النُّصُوصِ والإجْماعِ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلى إسْقاطِ حُكْمِهِ رَأْسًا؛ وقَدْ قالَ ﷺ: «لا يَبُولَنَّ أحَدُكم في الماءِ الدّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلْ فِيهِ مِن جَنابَةٍ» فَمُنِعَ البائِلُ الِاغْتِسالَ فِيهِ بَعْدَ البَوْلِ قَبْلَ أنْ يَصِيرَ إلى حالِ التَّغَيُّرِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ «إذا اسْتَيْقَظَ أحَدُكم مِن مَنامِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ ثَلاثًا قَبْلَ أنْ يُدْخِلَها الإناءَ فَإنَّهُ لا يَدْرِي أيْنَ باتَتْ يَدُهُ» فَأمَرَ بِغَسْلِ اليَدِ احْتِياطًا مِن نَجاسَةٍ أصابَتْهُ مِن مَوْضِعِ الِاسْتِنْجاءِ، ومَعْلُومٌ أنَّ مِثْلَها إذا حَلَّتِ الماءَ لَمْ يُغَيِّرْهُ، ولَوْلا أنَّها تُفْسِدُهُ لَما كانَ لِلْأمْرِ بِالِاحْتِياطِ مِنها مَعْنًى، وحَكَمَ النَّبِيُّ ﷺ بِنَجاسَةِ وُلُوغِ الكَلْبِ بِقَوْلِهِ «طَهُورُ إناءِ أحَدِكم إذا ولَغَ فِيهِ الكَلْبُ أنْ يَغْسِلَ سَبْعًا» وهو لا يُغَيِّرُهُ. فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً﴾ [المائدة: ٦] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا جُنُبًا إلا عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النساء: ٤٣] يَدُلُّ مِن وجْهَيْنِ عَلى جَوازِ اسْتِعْمالِهِ وإنْ كانَتْ فِيهِ نَجاسَةٌ: أحَدُهُما: عُمُومُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النساء: ٤٣] أنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي جَوازَهُ بِماءٍ حَلَّتْهُ النَّجاسَةُ وبِما لَمْ تَحِلَّهُ والوَجْهُ الآخَرُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً﴾ [المائدة: ٦] ولا يَمْتَنِعُ أحَدٌ مِن إطْلاقِ القَوْلِ بِأنَّ هَذا ماءٌ إذا كانَتْ فِيهِ نَجاسَةٌ يَسِيرَةٌ لَمْ تُغَيِّرْهُ؛ وهَذا يُعارِضُ ما اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ مِن عُمُومِ الآيِ والأخْبارِ في حَظْرِ اسْتِعْمالِهِ ماءً خالَطَتْهُ نَجاسَةٌ قِيلَ لَهُ: لَوْ تَعارَضَ العُمُومانِ لَكانَ ما ذَكَرْنا أوْلى مِن تَضَمُّنِهِ مِنَ الحَظْرِ، والإباحَةُ والحَظْرُ مَتى اجْتَمَعا كانَ الحُكْمُ لِلْحَظْرِ. وعَلى أنَّ ما ذَكَرْنا مِن حَظْرِ اسْتِعْمالِ النَّجاسَةِ قاضٍ عَلى ما ذَكَرْتَ مِنَ العُمُومِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الغُسْلُ مَأْمُورًا بِماءٍ لا نَجاسَةَ فِيهِ. ألا تَرى أنَّهُ إذا غَيَّرَتْهُ كانَ مَحْظُورًا وعُمُومُ إيجابِ الحَظْرِ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ (p-٢٠٨)دُونَ عُمُومِ الأمْرِ بِالغُسْلِ ؟ وكَما قَضى حَظْرَهُ لِاسْتِعْمالِ النَّجاساتِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿لَبَنًا خالِصًا سائِغًا لِلشّارِبِينَ﴾ [النحل: ٦٦] فَإنْ كانَ ما حَلَّهُ مِنها يَسِيرًا كَذَلِكَ واجِبٌ أنْ يُقْضى عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاغْسِلُوا﴾ [المائدة: ٦] وقَوْلِهِ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً﴾ [المائدة: ٦] واحْتَجَّ مَن أباحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: ٤٨] وقَوْلِهِ: ﴿ويُنَزِّلُ عَلَيْكم مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكم بِهِ﴾ [الأنفال: ١١] وقَوْلِهِ ﷺ: «هُوَ الطَّهُورُ ماؤُهُ والحِلُّ مَيْتَتُهُ» وصْفُهُ إيّاهُ بِالتَّطْهِيرِ يَقْتَضِي تَطْهِيرَ ما لاقاهُ. فَيُقالُ لَهُ: مَعْنى قَوْلِهِ: " طَهُورًا " يَعْتَوِرُهُ مَعْنَيانِ: أحَدُهُما: رَفْعُ الحَدَثِ وإباحَةُ الصَّلاةِ بِهِ. والآخَرُ إزالَةُ الإنْجاسِ. فَأمّا نَجاسَةٌ مَوْجُودَةٌ فِيهِ لَمْ تُزِلْها عَنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُطَهِّرًا لَها وعَلى هَذا القَوْلِ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مَعْنى قَوْلِهِ: ( طَهُورًا ) أنَّهُ يَجْعَلُ النَّجاسَةَ غَيْرَ نَجاسَةٍ، وهَذا مُحالٌ؛ لِأنَّ ما حَلَّهُ مِن أجْزاءِ الدَّمِ والخَمْرِ وسائِرِ الخَبائِثِ لا يَخْرُجُ مِن أنْ يَكُونَ إنْجاسًا، كَما أنَّها إذا ظَهَرَتْ فِيهِ لَمْ يَخْرُجْ مِن أنْ يَكُونَ أعْيانُها نَجِسَةً ولَمْ يَكُنْ لِمُجاوَرَةِ الماءِ إيّاها حُكْمٌ في تَطْهِيرِها. فَإنْ قِيلَ: إذا كانَ الماءُ غالِبًا فَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ فالحُكْمُ لِلْماءِ، كَما لَوْ وقَعَتْ فِيهِ قَطْرَةٌ مِن لَبَنٍ أوْ غَيْرِهِ مِنَ المائِعاتِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ حُكْمُ الماءِ لِوُجُودِ الغَلَبَةِ، ولِأنَّ تِلْكَ الأجْزاءَ مَغْمُورَةٌ مُسْتَهْلَكَةٌ، فَحُكْمُ النَّجاسَةِ إذا حَلَّتِ الماءَ حُكْمُ سائِرِ المائِعاتِ إذا خالَطَتْهُ. قِيلَ لَهُ: هَذا خَطَأٌ؛ لِأنَّ المائِعاتِ كُلَّها لا يَخْتَلِفُ حُكْمُها فِيما تُخالِطُها مِنَ الأشْياءِ الطّاهِرَةِ وأنَّ الحُكْمَ لِلْغالِبِ مِنها دُونَ المُسْتَهْلَكاتِ المَغْمُورَةِ مِمّا خالَطَها، وقَدِ اتَّفَقْنا عَلى أنَّ مُخالَطَةَ النَّجاسَةِ اليَسِيرَةِ لِسائِرِ المائِعاتِ غَيْرِ الماءِ تُفْسِدُها ولَمْ يَكُنْ لِلْغَلَبَةِ مَعَها حُكْمٌ بَلْ كانَ الحُكْمُ لَها دُونَ الغالِبِ عَلَيْها مِن غَيْرِها، فَكَذَلِكَ الماءُ، فَإنْ كانَ الماءُ إنَّما يَكُونُ مُطَهِّرًا لِلنَّجاسَةِ لِمُجاوَرَتِهِ لَها فَواجِبٌ أنْ يُطَهِّرَها بِالمُجاوَرَةِ وإنْ لَمْ يَكُنْ غامِرًا لَها، وإنْ كانَ إنَّما يَصِيرُ مُطَهِّرًا لَها مِن أجْلِ غُمُورِهِ لَها وغَلَبَتِهِ عَلَيْها فَقَدْ يَكُونُ سائِرُ المائِعاتِ إذا خالَطَتْها نَجاسَةٌ غامِرَةٌ لَها وغالِبَةٌ عَلَيْها وكانَ الحُكْمُ مَعَ ذَلِكَ لِلنَّجاسَةِ دُونَ ما غَمَرَها. ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا ما اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِن تَحْرِيمِ اسْتِعْمالِهِ عِنْدَ ظُهُورِ النَّجاسَةِ فِيهِ، فالمَعْنى أنَّهُ لا نَصِلُ إلى اسْتِعْمالِهِ إلّا بِاسْتِعْمالِ جُزْءٍ مِنَ النَّجاسَةِ وأيْضًا العِلْمُ بِوُجُودِ النَّجاسَةِ فِيهِ كَمُشاهَدَتِنا لَها، كَما أنَّ عِلْمَنا بِوُجُودِها في سائِرِ المائِعاتِ كَمُشاهَدَتِنا لَها بِظُهُورِها وكالنَّجاسَةِ في الثَّوْبِ والبَدَنِ العِلْمُ بِوُجُودِها كَمُشاهَدَتِها. واحْتَجَّ مَن خالَفَ في ذَلِكَ بِحَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «سُئِلَ عَنْ بِئْرِ بُضاعَةَ وهي بِئْرٌ تُطْرَحُ فِيهِ عَذِرَةُ النّاسِ ومَحائِضُ النِّساءِ ولُحُومُ الكِلابِ، فَقالَ: إنَّ الماءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»، وبِحَدِيثِ أبِي بُصْرَةَ عَنْ جابِرٍ وأبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالا: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في سَفَرٍ، فانْتَهَيْنا إلى غَدِيرٍ فِيهِ (p-٢٠٩)جِيفَةٌ، فَكَفَفْنا وكَفَّ النّاسُ حَتّى أتى النَّبِيُّ ﷺ فَأخْبَرْناهُ فَقالَ: «اسْتَقُوا فَإنَّ الماءَ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» فاسْتَقَيْنا وارْتَوَيْنا؛ وبِما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «الماءُ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . والجَوابُ عَنْ ذَلِكَ أنَّهُ قَدْ حُكِيَ عَنِ الواقِدِيِّ أنَّ بِئْرَ بُضاعَةَ كانَتْ طَرِيقًا لِلْماءِ إلى البَساتِينِ؛ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ جارِيًا حامِلًا لِما يَقَعُ فِيهِ مِنَ الأنْجاسِ ويَنْقُلُهُ؛ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ سُئِلَ عَنْها بَعْدَما نُظِّفَتْ مِنَ الأخْباثِ، فَأخْبَرَ بِطَهارَتِها بَعْدَ النَّزْحِ. وأمّا قِصَّةُ الغَدِيرِ فَجائِزٌ أنْ تَكُونَ الجِيفَةُ كانَتْ في جانِبٍ مِنهُ، فَأباحَ ﷺ الوُضُوءَ مِنَ الجانِبِ الآخَرِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِ أصْحابِنا في اعْتِبارِ الغَدِيرِ وأمّا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ فَإنَّ أصْلَهُ ما رَواهُ سِماكٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «اغْتَسَلَ بَعْضُ أزْواجِ النَّبِيِّ ﷺ في جَفْنَةٍ، فَجاءَ النَّبِيُّ ﷺ لِيَتَوَضَّأ مِنها أوْ يَغْتَسِلَ، فَقالَتْ لَهُ: إنِّي كُنْتَ جُنُبًا، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّ الماءَ لا يُجْنِبُ» والمُرادُ أنَّ إدْخالَ الجُنُبِ يَدَهُ فِيهِ لا يُنَجِّسُهُ، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ الرّاوِي سَمِعَ ذَلِكَ فَنَقَلَ المَعْنى عِنْدَهُ دُونَ اللَّفْظِ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ مَعْناهُ ما وصَفْنا أنَّ مِن مَذْهَبِ ابْنِ عَبّاسٍ الحُكْمَ بِتَنْجِيسِ الماءِ بِوُقُوعِ النَّجاسَةِ فِيهِ وإنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ. وقَدْ رَوى عَطاءٌ وابْنُ سِيرِينَ أنَّ زِنْجِيًّا ماتَ في بِئْرِ زَمْزَمَ، فَأمَرَ ابْنُ عَبّاسٍ بِنَزْحِها. ورَوى حَمّادٌ عَنْ إبْراهِيمَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ( إنَّما يُنَجِّسُ الحَوْضَ أنْ تَقَعَ فِيهِ فَتَغْتَسِلُ وأنْتَ جُنُبٌ، فَأمّا إذا أخَذْتَ بِيَدِكَ تَغْتَسِلُ فَلا بَأْسَ ) . ولَوْ صَحَّ أيْضًا هَذا اللَّفْظُ احْتَمَلَ أنْ يَكُونَ في قِصَّةِ بِئْرِ بُضاعَةَ، فَحُذِفَ ذِكْرُ السَّبَبِ ونُقِلَ لَفْظُ النَّبِيِّ ﷺ . وأيْضًا فَإنَّ قَوْلَهُ: «الماءُ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى جَوازِ اسْتِعْمالِهِ، وإنَّما كَلامُنا في جَوازِ اسْتِعْمالِهِ بَعْدَ حُلُولِ النَّجاسَةِ فِيهِ، فَلَيْسَ يَجُوزُ الِاعْتِراضُ بِهِ عَلى مَوْضِعِ الخِلافِ؛ لِأنّا نَقُولُ: إنَّ الماءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، ومَعَ ذَلِكَ لا يَجُوزُ اسْتِعْمالُهُ إذا حَلَّتْهُ نَجاسَةٌ، ولَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ ﷺ: إنَّ الماءَ إذا وقَعَتْ فِيهِ نَجاسَةٌ فاسْتَعْمَلُوهُ حَتّى تَحْتَجَّ بِهِ لِقَوْلِكَ. فَإنْ قِيلَ: هَذا الَّذِي ذَكَرْتَ يُؤَدِّي إلى إبْطالِ فائِدَتِهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ سَقَطَ اسْتِدْلالُكَ بِالظّاهِرِ إذًا وصِرْتَ إلى أنْ تَسْتَدِلَّ بِغَيْرِهِ، وهو أنَّ حَمْلَهُ عَلى غَيْرِ مَذْهَبِكَ تَخْلِيَةٌ مِنَ الفائِدَةِ، ونَحْنُ نُبَيِّنُ أنَّ فِيهِ ضُرُوبًا مِنَ الفَوائِدِ غَيْرَ ما ادَّعَيْتَ مِن جَوازِ اسْتِعْمالِهِ بَعْدَ حُلُولِ النَّجاسَةِ فِيهِ، فَنَقُولُ: إنَّهُ أفادَ أنَّ الماءَ لا يُنَجَّسُ بِمُجاوَرَتِهِ لِلنَّجاسَةِ ولا يَصِيرُ في حُكْمِ أعْيانِ النَّجاساتِ، واسْتَفَدْنا بِهِ أنَّ الثَّوْبَ والبَدَنَ إذا أصابَتْهُما نَجاسَةٌ فَأُزِيلَتْ بِمُوالاةِ صَبِّ الماءِ عَلَيْها أنَّ الباقِيَ مِنَ الماءِ الَّذِي في الثَّوْبِ لَيْسَ هو في حُكْمِ الماءِ الَّذِي جاوَرَهُ عَيْنُ النَّجاسَةِ فَيَلْحَقُهُ حُكْمُها؛ لِأنَّهُ إنَّما جاوَرَ ما لَيْسَ (p-٢١٠)يُنَجَّسُ في نَفْسِهِ، وإنَّما يَلْحَقُهُ حُكْمُ النَّجاسَةِ بِمُجاوَرَتِهِ لَها؛ ولَوْلا قَوْلُهُ ﷺ لَكانَ جائِزًا أنْ يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ الماءَ المُجاوِرَ لِلنَّجاسَةِ قَدْ صارَ في حُكْمِ عَيْنِ النَّجاسَةِ فَيُنَجِّسُ ما جاوَرَهُ، فَلا يَخْتَلِفُ حِينَئِذٍ حُكْمُ الماءِ الثّانِي والثّالِثِ إلى العاشِرِ وأكْثَرُ مِن ذَلِكَ في كَوْنِ جَمِيعِهِ نَجِسًا، فَأبْطَلَ النَّبِيُّ ﷺ هَذا الظَّنَّ وأفادَ أنَّ الماءَ الَّذِي لَحِقَهُ حُكْمُ النَّجاسَةِ مِن جِهَةِ المُجاوَرَةِ لا يَكُونُ في مَعْنى أعْيانِ النَّجاساتِ، وأفادَنا أيْضًا أنَّ البِئْرَ إذا ماتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَأُخْرِجَتْ أنَّ حُكْمَ النَّجاسَةِ إنَّما لَحِقَ ما جاوَرَ الفَأْرَةَ دُونَ ما جاوَرَ هَذا الماءَ وأنَّ الفَأْرَةَ لَمْ تَجْعَلْهُ بِمَنزِلَةِ أعْيانِ النَّجاساتِ؛ فَلِذَلِكَ حَكَمْنا بِتَطْهِيرِ بَعْضِ ما بِها. فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ الأمْرُ عَلى ما ذَكَرْتَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ ﷺ: «الماءُ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلّا ما غَيَّرَ طَعْمَهُ أوْ لَوْنَهُ» مَعْنًى؛ لِأنَّ الماءَ المُجاوِرَ لِلنَّجاسَةِ لَيْسَ بِنَجِسٍ في نَفْسِهِ مَعَ ظُهُورِ النَّجاسَةِ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: هَذا أيْضًا مَعْنًى صَحِيحٌ غَيْرُ ما ادَّعَيْتَ واسْتَفَدْنا بِهِ فائِدَةً أُخْرى غَيْرَ ما اسْتَفَدْناهُ بِالخَبَرِ الَّذِي اقْتَصَرَ فِيهِ عَلى قَوْلِهِ: «الماءُ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» عارِيًا مِن ذِكْرِ الِاسْتِثْناءِ وذَلِكَ لِأنَّهُ إخْبارٌ عَنْ حالِ غَلَبَةِ النَّجاسَةِ وسُقُوطِ حُكْمِ الماءِ مَعَها فَيَصِيرُ الجَمِيعُ في حُكْمِ أعْيانِ النَّجاساتِ، وأفادَ بِذَلِكَ أنَّ الحُكْمَ لِلْغالِبِ، كَما تَقُولُ في الماءِ إذا مازَجَهُ اللَّبَنُ أوِ الخَلُّ: إنَّ الحُكْمَ لِلْأغْلَبِ؛ وقَدْ تَكَلَّمْنا في هَذِهِ المَسْألَةِ وفي مَسْألَةِ القُلَّتَيْنِ في مَواضِعَ فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ هَهُنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب